الحوار الذي أجراه معي الصديق حسن جوان يلخص الكثير بأسئلته المتنوعة.له الشكر والأصدقاء في ثقافية جريدة الصباح ،حيث نشر الحوار في عدد الثلاثاء12-4-2022
*عندما أفاد الناقد العربي من المناهج النقدية الغربية، هل وجد فيها أطراً مواتية لدراسة النصوص العربية وتحليلها، ام انه كان يضطر أحيانا الى المواءمة بين اكثر من منهج للخروج بحصيلة تحيط بدراسته؟
– لعل من المفارقات التي يُغفلها الحِجاج حول المثاقفة المنهجية ،أن النقاد والجماليين والفلاسفة العرب لم يجدوا حرجاً في الإفادة من المثاقفة المنهجية والنظريات والعلوم اللغوية لدى الآخر.يتعزز ذلك باستذكار المناطقة العرب والبلاغيين والنقاد والفلاسفة من شرّاح أرسطو ومترجميه مثلاً.. وإذا كانت مثاقفتهم محكومة بسياقات الثقافة في عصرهم ، فإن أثر الآخر واضح في الفكر النقدي العربي لدى عبدالقاهر وحازم وسواهما، بتفاعل ربما أثقل النظرية النقدية ،أوأربك الإجراءات النصيّة والقراءة، وتقويم الأشكال وتحديثها ،أو اجتراح تعديلات أسلوبية على النصوص.
وفي خضم الموجة التحديثية التي شهدتها الثقافة العربية المعاصرة ، والأدب خاصة ،كان لا بد من تأمّل المنجز النقدي الغربي،والإفادة من منهجياته ومرتكزاته النظرية .تلك التي تمس الأشكال والرؤى ،وهي عادة من المشترك الإنساني دون شك.رغم أن الإجراءات التطبيقية لها والإستنتاجات غير ملزمة للناقد العربي والقارئ بالضرورة. فعبر ما أدعوه بالتكييف المنهجي ، واستنبات النظرية في تربة نصية ملائمة ، يمكن الإفادة منها في تحديث الدرس النقدي وتطوير القراءة .هذا التكييف اقترن بمرونة منهجية، ترفض التحصن وراء مقولات منهج محدد وصرامته . وذلك يناسب طبيعة النصوص الأدبية التي هي مآل النظرات النقدية، كما أنها أساس منطلقاتها .وهذه المرونة هي نوع مما أسماه السؤال ( المواءمة بين أكثر من منهج) ليس على سبيل التناقض، بل التكامل.
وبتجربتي المتواضعة وجدت أن التكامل هو نوع من الإنصياع لمهيمنات النصوص التي تمثل الخلية المولّدة للبنية والشكل فيها. والمحصلة ليست شخصية لخطاب الناقد الشعري، بل اقتراب من النصوص على وفق ما تنضح به من سمة مركزية ؛ كاللغة والإيقاع و الدلالة. وتصل بكونها رسالة نصية معروضة للتفاعل القرائي الذي يُظهرها للفعل، بعد أن كانت فنياً داخل النص.
*هل يمكن تحديد هوية الشعرية العراقية الحالية بعد انفراط عقد مقولة الجيل، لاسيما وان كثيرا من المؤشرات تدل على فقدان التجارب ما بعد 2003 كثافتها وتراصها الجماعي- الجيلي لصالح فردانية عضدتها المنافي، او الانغمار في العمل المؤسساتي بعيدا عن المشروع الشعري المكرس؟
– أعدّ نفسي من المتبنين لفكرة التجييل للشعرية العراقية والعربية ،وليس لتجييل الشعراء.ذلك ما بسطته في كتابي عن السبعينيين العراقيين في كتابي (مواجهات الصوت القادم) كأول كتب النقد عن تجربتهم.و لخصت الأطروحة الدفاعية في مقالة موجزة لي بعنوان( أجيال الشعرلا الشعراء). والمقولة تلخص الإصطفاف الجيلي بحسب تصنيف النقد العراقي.وهكذا فالجيل شعري لا شخصي .
وقد جرت قراءة بعض الشعراء ضمن أجيال شعرية خارج حدود أعمارهم. لأن الإحتكام كان إلى شعريتهم لا أعمارهم. انسلاخ البريكان من جيل الرواد ،وانتماء حسين عبداللطيف الستيني إلى ما بعد جيله .
هذا استطراد مني للدفاع ثانية عن مفهوم الجيل، وما فيه من إتاحة تكتيكية أيضاً لمعاينة التجارب الشعرية عن قرب.
أما الذي جرى للشعرية العراقية بعد عام 2003 ، فهو ليس بالقتامة التي رسمها السؤال .فالمنافي مثلاً زالت حدودها بعد زوال تقييد الحريات وقمع فكر العراقي الذي يعيش مغترباً او مهاجراً أو منفياً ، بمظنة طعن وطنيته ، ومن طرف أدباء ومثقفين للأسف.ولعل مبرر تصنيفهم الأخلاقي المرفوض هذا ، ردّ فعل على تطرف وتخوين آخرين من بعض أدباء المنافي من الشعاريين وضيقي الأفق الذين شككوا ب(كل) الأدب المكتوب في الداخل ، بمظنة مهادنة الدكتاتورية!
أما (الإنغمار) في (العمل المؤسساتي)، فهو ليس صالحاً للتعميم.فالمثقفون يشكون من تسلط غير الأدباءعلى مقدّراتهم، كما يشكّكون بمن يكون في واجهة الفعل الثقافي أو الإعلامي من زملائهم.ولا أجد حلاً لهذه الإشكالية، إذ لا أرى العمل المؤسساتي سبباً كافياً للإبتعاد عن المشروع الشعري؛ لأنه مشترك يقترحه ويجريه أدباء مختلفون،وبنصوص متحققة ، لا بالسياقات غير النصية أياً كانت.
ويمكن أن ترينا الدراسات النقدية تبدلات اللغة الشعرية والرؤية والإيقاع ، فيغدوالجيل مؤشرا لتحول النص ذاته، وليس تجييلا للشاعر،و يتركز مفهومه السليم في زمن النص وفق بنيته ، لا بعمر الشاعر.
*هل يمكن اعتبار هيمنة السرد دافعا لانسحاب بعض التجارب الشعرية نحو الرواية ،وما هي العوامل التي أدت الى هذه الظاهرة ان صحّت؟
– هجرة الشعراء إلى الرواية جرت بشكل لافت في التوقيت والإطراد والكثرة.علَّلها القراء والمهتمون بإغراءات الجوائز تارة، و أخرى بالتداولية الجماهيرية ،وتغير أفق القراءة صوب السرد، بعد أن تعاظمت الوقائع ، وصار حضور الشعر في ثناياها وأعقابها غير مناسب، لأسباب بعضها فني ،يتطلب استيعاباً وتمثلاً للحدث قبل التعبير عنه.والآخر جمالي يخص قراءة الشعر في أتون ملتهب من الأحداث، يكون الشعر فيها ضيفاً بكامل أناقته ،وسط خراب وبؤس وجريمة .
من جهة أخرى أعد ستجابة الشعراء الذين يكتبون بحاجة تعبيرية لبسط وجهات نظرهم ورؤاهم عبر وعاء آخر غير الشعر، نوعاً مما حدث لبحارة السندباد وعوليس، حين استجابوا لجمال صوت سيرينات البحر اللواتي يقتلنهم بعد نزولهم في جزيرتهن. فهم يفقدون مركز شعريتهم كحياة وسلوك وخطاب ، لا كتابة شعرية فحسب.والشعور بذنب مفارقة الشعر لضعف تداولي آني يعيشه.لاسيما اولئك الذين هجروا الشعر، وكأنه جريرة أو سابقة لا يريدون تذكرها.وينظّرون معضدين لخرافة شائعة بالقول إن هذا زمن الرواية.وهو لا زمن نوع أو جنس أدبي واحد. إلا بتجسيد فكرة الواحدية المهيمن الطاردة مرة أخرى، في إهاب نقدي.
في الأدب العالمي شعراء كتبوا أعمالاً روائية وقصصية.وروائيون وقصاصون كتبوا قصائد ونشروها,بل قادهم تنوع كتاباتهم إلى استيلاد نص عابر للأجناس.متهجن بأبوة أكثرمن نوع.لكنهم لم ينزلقوا لمعادلة إما..أو..، والإختيار الواحدي وتأطيره بقناعة أن الشعر لا يصلح لهذا الزمن مثلاً.أو أنه يموت جمالياً وفنياً ،كما تبشر دعوات النقد الثقافي بنسخته العربية، المشكوك بنسبتها و تنبؤاتها ومقولاتها.
*لديك اسهامات مهمة في النقد التشكيلي، هل تعتبر التجربة الفنية العراقية قادرة على تضمين رسالتها الثقافية والفنية مقارنة بحجم التحولات والنقلات التقنية والرؤيوية العالمية؟
– إسهاماتي في القراءات البصرية الجمالية لمنجز الفن التشكيلي أتت من مشغّلات جمالية ، أساسها المحرّك هو الإعتقاد بوحدة الفنون واقتراضها من بعضها، فمنذ عرف الإنسان الفن وصوّر الأشياءـ أو تصوَّرها لغةً وصورة أو صوتا وجسداً- والمعضلات التي تواجه الفنون والآداب على مستوى التلقي والتذوق والإدراك، تكاد تكون مشتركة ، أساسها القدرة على الفهم والتفسير والتأويل في المقام الأول.هذا ما يجعل التشكيلي والأديب مثلاً يواجهان الأسئلة ذاتها، عن مغزى العمل ،وطرق تلقيه ،وجدوى حداثته وخروجه على مألوف الفن وقديمه.
ومن هذا الموقع في متابعة التشكيل العراقي عبر أجياله وتحولاته الفنية والجمالية، أرى أن المثاقفة البصرية مع الفن العالمي ضعفت، برحيل جيل الرواد والتالين لهم.ربما بسبب فقر الإعداد الدراسي نوضعف التجارب ذاتها، وانعكاساتها في المنجز التشكيلي.وأحياناً أرد ضعف التثاقف إلى التراجع نحو محلية متخيلة ،لا يتم تمثلها فنياً بشكل واضح ومتطور.
لقد ضعفت الجماعات الفنية في العراق، والتيارات التحديثية التي كانت الحروفية آخر ملتقياتها الفنية ومقترحاتها.ربما يُرد هنا بأن الفن خلاص فردي، ولا ضرورة للتجمعات الجيلية أو الفنية ،والإكتفاء بالمعارض أو اللقاءات الأكاديمية والإعلامية..لكن الحلول تأتي باللقاء الأسلوبي، والبحث عن حلول لمعضلة الفن ،ومشكلات تلقيه ،والعكوف على دراسة التشكيل واقعاً وأفقاً، وتغيير النمط السائد في الرسائل البصرية للتشكيل. وللنقد التشكيلي مسؤولية في ذلك.فهو لا يدرس الظاهرة كما هي مجتمعة، بل بتأشير المزايا الفردية للفنان . و تظل الحاجة لتاشير الخلل، والممكن في هذه الحالة من المهمات المشتركة والتي تبلور متانة الرؤية التشكيلية العراقية ،و تماسك عناصرها وأدواتها ..
وعتبنا هذا متأتٍ من الإيمان بأن للتشكيل العراقي من النضج والمحصول البصري ،ما يؤهله للتفاعل مع تيارات التحديث العالمية، والإفادة من أساليبها ونظرياتها..
ولا يخل ذلك باستلهام المحيط ،أو الفن الموروث ،والمنجز الفني الحضاري ،في بلد تتوغل فنونه في القِدم والأصلة قروناً طويلة.
*يرى البعض ان الواقع الثقافي العراقي الان هو واقع مفكك، بينما يتطلع متفائلون اليه على انه آخذ بالتبلور بعد مخاضات مضنية كان عليه خوضها. كيف تنظر من جانبك الى هذا الواقع؟
– من المؤسف أن نظرتي للواقع الثقافي العراقي غير مكتملة.وأخشى إطلاق الأحكام الكلية ،وأنا مراقب بعيد، وأحياناً منحصر الإهتمام .وتتحكم بي نزعتي النصية وقراءتي التفاعلية التي تهتم بما تجد فيه دليلاً أو بينة . وأتأول الأشياء على أساسها كنصوص أيضاً.فالعالم نص . وأنا أتخيله هكذا في حاضره ومآله.
أما الحكم بتفكك الواقع الثقافي ، فقد يأتي من الخطأ في تفسير التعدد والتنوع اللذين استجدا، بعد انتهاء حقبة الطريق الواحد والزعيم الواحد والرؤية الواحدة التي هيمنت على ثقافتنا وواقعنا لعقود. وربما أكون أقرب للقول الثاني الملخَّص بأن المخاضات تقود إلى التبلور.هذا على المستوى الثقافي عموما.والأدبي خاصة.
إن محصول الحرية أكيد وواضح.رغم ما تعيقه من ارتدادت راديكالية أو ماضوية.وما يتم من تجريمات أخلاقية لا أدبية.لكن عجلة التحديث تدور وتتقدم.على مستوى التلقي ومنابر الرأي. وعلينا ألا نخلط الإرتداد والتقهقر السياسي بالواقع المكتسب بقوة الثقافة العراقية ، وحيويتها وتاريخها وفاعليتها، والمتفاعلين معها.نحن ننتمي لوطن يؤطر أفكارنا بضياء حضارته وثقافة شعبه وأنوار الكتابة المتجددة فيه.وما يشوبها ليس غريباً، قياساً على ما تمر به ثقافات الشعوب من انتكاسات وتوقفات.
*خاضت الشعرية العربية والعراقية في محاولات كتابة قصيدة النثر، الى أي مدى اقتربت بعض التجارب المحدودة من هذا الشكل، وماذا يمكن تسمية المحاولات الأخرى؟
– تجربة الكتابة الشعرية الحديثة أو الأحدث إن شئتا الدقة، لها نسخة عراقية حافلة بالمنجز. لا بالتراكم الكمي للنصوص المكتوبة تحت لافتة قصيدة النثر ، فذلك ليس قياساً، بل بما أضافت للكتابة الشعرية رؤيةً وأسلوباً.
إن الإختلاف حول قصيدة النثر سيظل عميقاً وجوهرياً ، في ثقافة كالثقافة العراقية ، مدججة بمنجزات متتالية من تيارات شعرية ، وحداثات متعاقبة لا تنسخ بعضها. لكن تعايشها لا يعني قبولها في واقع شعري متغير.وهكذا ظلت قصيدة النثر العراقية تتطور منعزلة عن سياقها الخارجي.ومضيفة لكتابة قصيدة النثر العربية مناخاً خاصاً، يسهل تمييزه والتعرف على شعريته .وصارت داخل قصيدة النثر ذاتها-شأن باقي الأشكال والمقترحات الأسلوبية- تيارات واتجاهات ورؤى مختلفة .وهذا التعدد سيدفع لبلورةٍ أكثر في الجانب الأسلوبي.والبحث عن بُنى جديدة، وعدم الإمتثال للنسخ بالتماثل الصوتي والموضوعي والإيقاعي وإبراز تقليدية جديدة داخل بنية ترفض التقليد أساساً لها. إن لكل شاعر قصيدةَ نثرِه. يخلق إيقاعاتها ليس كبديل للوزن والموسيقى الخارجية، بل جزءاً من بنية القصيدة، حيث يصبح الشكل تبنيناً للمعنى ذاته .والخيال يؤازر الصورة ،وعمل الذاكرة والتثاقف النصي.
ولا شك أن التعدد سينتج- بسبب التصورات القاصرة – بعض النماذج التي تقع في شِباك أوهام الكتابة بقصيدة النثر .ولا أظن أن ذلك صعب التمييز والفرز بعد العقود التي مرت على كتابتها.
إن ثمة أزمة داخل أبنيتها ونُظُمها . والبحث ضروري عن مقترحات جديدة .وهي موجودة كمقترحات ، يمكن ملاحظتها نصياً .لكنها بحاجة للتكثيف .ولتجنب المجانية واستسهالها في وهم نثريتها.
وذلك ما أصف به المحاولات الطارئة وهي لا تمثل القاعدة بل الإستثناء.وأمرها شبيه ببعض ما يكتب حتى اليوم تحت مسمى الشعر العمودي، أو قصيدة الشعر ،والشعر الحر أيضاً.ولكن ذلك لا يتيح
الحكم عل نوعها كله.
*كناقد واكاديمي، ما هو مقدار الغنى المضاف الى تجربتك بعد اختيارك الهجرة الى الغرب، وهل تناظر بين مرحلتي حياتك بين الوطن والغربة؟
تمثل الهجرة لي شخصياً إبحاراً خارج مياهي . حيث لا لغتي ولا وسطي ولا كتابتي ولا اهتمامي. لم تكن الهجرة اختياراً بالنسبة لي، ولمغتربين ومهاجرين كثر .توافقات وصدف ووقائع تضافرت لأجد نفسي في هذا المكان القصي.لم تلقني رياح سفني إليه.بل ألقتنا مضطرين رياح أخرى يطول شرحها.هي مزيجُ خسارات وفقدانات ،وقلق مشوب بالتزامات عائلية وإنسانية.وإذ تكون في الموقف سيفرض عليك من التداعيات الظرفية والنفسية وسياقات الكتابة ما لم تتوقعه.وأرجو أن يفهم ذلك بحدود ما أعنيه.فهو لا يمس المكتوب أوالمعيش ثقافياً.فهذا أمر لا يتبدل بتغير المواقع والإقامات.السياقات الداخلية هي ذاتها ، ولا تتأثر جوهرياً- كقناعات وسلوك واعتقاد – بالمكان الجديد.
الإضافة ليست مهمة في تجربتي .لقدومي في عمر متقدم يصعب معه التفاعل الأكيد والمنتج.وكذلك ارتباطي الكتابي والثقافي عربياً مشروع نعمل عليه مع زملائنا والمهتمين بالشان الثقافي وتحديثه .
أما الموازنة بين مرحلة الوطن والغربة،فهي ليست لصالح الهامش المفروض في الغربة. بل لصالح الوطن وحيوية التفاعل في إطار ثقافته. لأنه ليس مكاناً مجرداً.ففيه اكتسبت وعيي وتحولاته.وما يحف بالكتابة من سياقات .وتطورت رؤيتي بحيوية تلك الثقافة وتنوعها .امتلكت منها مفتاح التجربة.ومنها اكتسبت لغتي واهتماماتي، وتفاعلي الحيوي الذي أعتد به.
أيةُ مرحلة لاحقة تحاول التغلب على تلك الفاعلية واستبدالها، خاسرةٌ ، لعمق الآصرة ، والتشبث برحم الكلمة التي تلفظتُىها في فضاء العراق الثقافي دون شك ،وبكل تأكيد.
*قرأت لك نصّاً تأملياً طويلا حول حياتك في ناشفيل، فيه طبقات من الرؤى والذكرى ،ولا يخلو من لغة شعرية ثرية ممتعة. هل تنوي التوسع – في هذا النوع من التأملات نحو كتابة سيرة ذات في وطن مضى، وسيرة أخرى في وطن بديل؟
كانت تلك تجربةَ كتابةٍ خارج النقد.وإن حضر في كِسَر ومقاطع من التذكرات والرصد الحياتي لخارجٍ ما زلت أراه بكوني غريبا عنه. في حياتي سلسلة اغترابات متعددة.لكنها قريبة المورد والمكان.هذه المرة كان ثمة اقتلاع تحف به صعوبة الإنبات في تربة أخرى ،كما يقرر علماء الأحياء .وكما نوَّه مبكراً تودوروف في تثمين تجربته مهاجراً . ما زلت أرى نفسي ذلك الغريب الوحيد ، إلا من ذاكرته، ولهاثه ليصل إلى ( الهناك ) الذي لم يُنسه إياه ( الهنا)، وجدلهما يتقاطع نفسياً مع وجودي في المكان وزمنه أيضاً. لذا ولاهتمامي بالعنونة كعتبة نصية أسميت حلقة التذكرات الأولى: تطمينات الحنين .فالمكان قد يهب بعضاً منها كرشوة للتعزي والسلوان ،بمقابل عمله الخفي غير المنظور لاقتلاعها .
أود التوسع والإستمرار في الكتابة السيرية ،والوقوف عند ما لم أتناوله في تلك الوقفة البانورامية.وإذ تزدحم أغرق فيها، وأكون محرجا في اختيار أيها أستل وأدوّن. وهذا إشكال يعطل مشروع التوسيع الإستذكاري الذي يظل حلما ،لعل الزمن يمنحني فرصة لإنجازه واقعاً.
لكن ذلك لن يكون سيرة لذاتي في وطن بديل.الأوطان لا تُستبدل كالأشياء.
تقبل بنا ونقبلها، جارحة جريحة، أو الداء والدواء. ولهذا موقف آخر سنبسط فيه تفاصيل ما عشناه ومن عايشناهم .وما دار واختبأ في تلافيف الذاكرة. سنبسط أمام ناظريه خساراتنا وفقداناتنا على أديمه .وضياع أحلامنا وطمأنينتنا في هوج رياحه وتقلباتها .

أنت، ود. رائدة العامري، ود.سعد محمد التميمي و٣١١ شخصًا آخر
٦٩ تعليقًا
١٠ مشاركات
تعليق
مشاركة