حاتم الصكر : قدر الشعر والفنون الأخرى أنها نخبوية- حوار أجراه عدنان الهلالي-جريدة السفبر -بيروت

أجراه: عدنان الهلالي – الملحق الثقافي –جريدة السفير- بيروت- الخميس 21/6/2012
البورتريت الخارجي للفنانة هناء مال الله
بدأ حياته شاعرًا عراقيًّا ثم تحوّل ناقداً. ليفصح حاتم الصكر عن وجه إبداعيّ آخر. عاش الغربة متنقلًا بين عواصم مختلفة متعددة، وشارك وما يزال في الكثير من الأوراق الثقافية التي يقدمها بين الحين والآخر في المؤتمرات والندوات.
له حصة من الشعر تتوزع بين: ثلاثة دواوين، ومثلها للأطفال. ومن النقد الأدبي كتب كثيراً منها: المرئي والمكتوب، وترويض النّص، والأصابع في موقد الشعر، وحلم الفراشة، وكتابة الذات، ومواجهات الصوت القادم (دراسة في شعر السبعينيات)، ومرايا نرسيس وغيرها. ساهم في تحرير مجلة موسوعة المرأة العربية التي تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر العام 2005، وحصل على جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وجائزة أفضل كتاب نقدي عن دار الشؤون الثقافية في بغداد عن كتابه (ما لا تؤديه الصفة) العام 1994.
ألا ترى أن مساحة كبيرة من ذائقتنا يشكّلها الإعلام؟
أوافقك على ما ذهب إليه سؤالك؛ لأنه واقع مجسَّد في هجمة إعلامية ضخمة وهيجانات صورية كما يطيب لي أن أسميها. الصورة هي المتسيّدة اليوم. وهي تحل في لغة الإعلام محل المفردة اللغوية. العين مستهدفة، وهذا قد يحلّ مشكلة الأمية اللافتة في واقعنا. فكل ما يحقق الإبهار والتأثير متاح ومباح معًا. والصراع اليوم ليس خطابيًّا أو منبريًّا، بل عبر البصر. من هنا تكون الثقافة البصرية المفتقدة في مجتمعاتنا ضرورة ملحّة، لا سيّما في التكوينات الاجتماعية التي لم تتح لها ظروفها وأنظمتها ومستويات التعليم فيها أن تتلقى تربية بصرية تعنى بجماليات الصورة وتنويعاتها في الحياة، وتفسيرها وتأويلها سواء أكانت غرضية نفعية يتوخى منها التوصيل المباشر، أو بشكل علامات تحيل إلى معان رمزية جمالية خالصة. بهذا تتشكل (الذائقة) التي يتحدث عنها السؤال.
نشير إلى ما تتطلبه مواكبة إيقاع العصر إعلاميًّا في المطبوع والمرئي والمسموع. أي بشمول وسائط الإعلام ووسائله كلها بهذه التغيرات والتحوّلات في الخطاب. يدخل في هذا ما يصدر ورقيًّا أو إلكترونيًّا، وما يُرى كذلك في الحالين. ولكن هذا كغيره يحمل خطورته معه إذا ما باتت الصورة والإعلام المعاصر كله استثمارًا ساذجًا أو ابتزازًا للمتلقي أو مداهنته ومنافقته، وحتى إثارة أردأ النوازع كتلك القنوات الطائفية والمذهبية والمثيرة للكراهية بين البشر، والتي لا تقل خطرًا عن المواقع والقنوات الموصوفة أخلاقيًا بالإباحية.
ما هو مستقبل القراءة في أوطاننا؟ هل أصبحنا قُراء إلكترونيين؟
لا أظن ذلك. والحواسيب المتراكمة في منطقتنا، والمستوردة بأحدث أجيالها وتقنياتها وتفرّعاتها لا تستخدم للقراءة غالبًا، وحتى أغراض البحث لا تتعمق فيها استخدامات الوسائط إلا لحاجات عابرة، كنسخ البحوث والملخصات الجاهزة. ودليلي على ذلك انتظار القراء للكتاب الورقي في معارض الكتب الموسمية في العواصم العربية _ وهذا شأن جغرافي لافت وكأن العواصم وحدها تقرأ!_ . هذا عند الفئة القارئة التي تنحسر أعدادها رويدًا. ربما كانت الصحف بطبعاتها الإلكترونية أكثر جذبًا لتنوع موادها واختلاف متعاطي تصفحها. أمّا الكتاب فلم يتحول إلى كائن إلكتروني ويهجر شكله الورقي على مستوى التداول، رغم توفر الوسائط التي تيسّر خزنه وقراءته. لكنها تحل جزءًا من مشكلة يخلقها تداول الكتاب الورقي أصلًا. فإذا لم تتحقق الصلة المطلوبة بين القراء والكتب الصادرة، لا يظل للقارئ سوى البحث عن نسخة ما في موقع ما، كثيرًا ما يبتزه ليسجل عضويته في الموقع، ويسمم ذوقه وإحساسه بتعليقات القراء العابرين المتعبة والمزعجة غالباً.
فرادة وألفة الكتاب الورقي تظل مطلوبة. واذكر للسيميائي والروائي الإيطالي (أمبرتو إيكو) مثالًا طريفًا في مجال التقليل من خطر انتشار الكتاب الإلكتروني وإزاحته المحتملة للكتاب الورقي، حيث بدد المخاوف بمثال طريف ملخصه أنّ اختراع السيارة بحداثتها وسرعتها وتنوع هيئاتها لم يلغِ الحاجة للدراجة الهوائية! ولكننا نستدرك بالقول: إنّ البطء الذي تمثله الدراجة لا يجدر أن يوصف به الكتاب في تلك المنافسة المستمرة مع النسخ الإلكترونية.
أصبحنا نتحدث عن قصيدة ورواية تفاعليّة، هل بدأت فضاء الشاشة يزحف على ذائقتنا؟
ناقشت موضوع القصيدة التفاعلية في مناسبة سابقة هي صدور بيان شعري لجماعة من شعراء العراق الشبان قبل أعوام حول القصيدة التفاعلية التي تستثمر المزايا الخطية والسطوح المتاحة في الحاسوب. ولكن خطورة هذه الدعوة تتلخص في تراجع الصنعة الفنية ذاتها كمحرك للكتابة الشعرية، وإحلال المهارة التقنية بديلًا لها. الشاعر يصبح مُخرجًا ماهرًا للقصيدة لا كاتبًا أو مبدعًا لها . ومثل ذلك يرد في الكتابة السّردية التفاعليّة. والأخطر هو ما يخص جماليات تداول النّص التفاعليّ، حيث يظل مفتوحًا لصياغات ممكنة ومحتملة من طرف القارئ نفسه، كما فهمت من بيان القصيدة التفاعليّة المقتضب. وإذا كان هذا ينسجم مع جماهيرية الكتابة كما تريدها مناهج ما بعد الحداثة فهي تسلب الخصوصية المفترضة في التعبير الأدبي. إذن أخلص للقول إنّ فضاء الشاشة قد يلتهم النّص أيضًا لا الذائقة وحدها. لا أستطيع التنبؤ بما سيكون عليه حال القصيدة المتخلقة بفعل الوسائط الخارجية وكيف ستجد الروح مكانًا للواعجها وبوحها في حدود شاشة صماء مباحة مهتوكة للجميع يتعاونون على ملء فراغاتها، كما يحدث في كتابة اليوميات والسير الذاتية في المواقع الإلكترونية أو عبر رسائل الهواتف وسواها من الوسائط التي تظل مقحمة على النّص الشعري: أعني جوهره وطبيعته وتكوينه.
الغربة
من بغداد إلى صنعاء؟ هل ثمة تشابه أو اختلاف ثقافي/ اجتماعي بينهما؟
التشابه والاختلاف واردان ثقافيًّا في حالة مدينتين كبغداد وصنعاء. خرجت من بغداد وهي في ظروف تتآكل فيها بناها كلها لا سيّما ما ترسخ من عادات وطقوس وتقاليد ثقافية. توقفت المجلات أو اختزل حجمها وزمن إصدارها وتوقفت الأنشطة والفعاليات واللقاءات، وتحوّلت المسارح إلى ملاهٍ وأمكنة ترفيه، وتوقفت دور السينما وأغلق أغلبها أو تحوّل إلى خشبة مسرح فكاهي أو حفلات غنائية، وشَّح عدد الغاليريهات والصالات الفنية والمعارض التشكيلية، وهاجر أغلب المبدعين والمبدعات في المجالات كافة. وندرت الكتب الجديدة والمطبوعات ومعارض الكتاب. حالة لا يمكن وصفها وتفهمها قياساً إلى ما نشأنا عليه في الستينيات وما تلاها من نشاط تضج به بغداد ومدن رئيسية أخرى في العراق. تلقفتنا صنعاء وتجمع فيها عدد طيب من مثقفي العراق وفنانيه. سبقني إليها: المسرحي كريم جثير والرسام موفق احمد والنحات احمد البحراني والشعراء: علي العلاق وسهيل نجم وفضل خلف وعبدالرزاق الربيعي ومجبل المالكي والكتاب والنقاد: شاكر خصباك وعبدالرضاعلي وعلي حداد وجمال كريم وجاسم حبيب وسواهم من الأكاديميين والمعلمين والعاملين في اليمن، بسبب تزايد الأزمات في العراق خلال عقد التسعينيات. كثير منهم تحتفظ لهم ذاكرتي بلقاءات مثمرة تستكمل ذاكرة الوطن وأجواءه. وكان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ومركز الدراسات والبحوث اليمني وأروقة الجامعة وكلية الآداب تحديدًا هي الأمكنة التي التقينا فيها بمن سيأتي من مثقفي العراق وكتّابه لاحقًا وهم كثيرون. جددنا نشاطنا وطرحنا أسئلتنا وتابعنا اتصالنا بالنشر والقراءة وصِلتنا بالمجلات والصحف العربية. كان وجود العراقيين في اليمن مؤثرًا بوضوح، وهو آت من سيرورة الثقافة العراقية ذاتها ومنجزها المعروف.
ربما افتقدنا المقهى كواحد من أمكنة جدلنا وقلقنا وشغبنا الذي كان ببغداد، ولم تعوّض المجالس والمقايل عن وجوده إلا نادراً. كنا نلتقي مع ذلك في مقايل المثقفين والأدباء وظل لقاء الشاعر والمثقف عبدالعزيز المقالح أكثر الأمكنة التي لازمناها وصارت مستقراً لنا كل اسبوع ومكان لقائنا بزوار اليمن عرباً وأجانب، فضلًا عن الأنشطة التي ازدهرت بصنعاء ومدن يمنية أخرى.
يُقال: الغربة تضيف لرصيد الشاعر، ماذا أضافت لمشروعك؟
ربما كانت غربتي متأخرة بعض الشيء، وإذ تحققت بخطوة أبعد الآن – أميركا – فإنها لم تترك أثرها المتوقع بسبب العمر والإحساس المتوقع بالمكان وإسقاطات الزمن عليه. لقد كانت صنعاء وقبلها عدن ممهدة لفصل الغربة الأخير الذي أعيشه الآن. فلا اتوقع أنّ تضيف لي الكثير مما كان سيحصل لو باشرت غربتي مبكرًا. الفسحة الممنوحة الآن للدراسة واللغة والتفاعل مع المكان وثقافته ليست بالقوة الكافية. ربما سيكون ابتعادي عن تفاصيل وثنايا الحركة الثقافية مناسبة لتكريس الفكر النظري، وتأمل المنجز الجماليّ المرتبط بمشروع الحداثة الذي أحسب أنني مندمج فيه. بدأت بعد عام من الغربة أتلمس تضاريس المكان الجديد. أميركا لا يكفي أن تراها فحسب، بل هي لا تعطي مشهدها الحقيقي إلا بالمعايشة الواعية وقراءة البُنى الغاطسة داخل تعددها عرقيًّا وثقافيًّا وجماليًّا. لكن ما سيكون محور الإضافة هو استثمار الحرية لقول ما يُراد. كثير من الحواجز ستزول تلقائيًّا، ويظل الشرق شرقًا! ولكن بتكييف وتعديلات لا تمس البنية القائمة فكما الشجرة بعد عمر ما لا تستجيب للتعديل تظل الروح متجذرة، رغم ما في المكان الجديد من فضائل أيضًا.
الثقافة الغائبة
من وجهة نظرك ناقدًا كيف ترى ما يحصل في البلدان العربية؟
من المؤلم حقًا أنّ الثقافة ليست لاعبًا اساسيًّا او حتى ثانويًّا في ما يجري. هذا هو قدرها. تهميش وترويض في ظل الدكتاتوريات، ثم غياب وإقصاء في صعود الحريات والديموقراطيات. هناك من يقفز ليحتل الأمكنة الشاغرة ويمارس الدور نفسه. الطارئون يجدون في هيجان الحريات وطوفان الديموقراطيات فرصتهم لتظل الثقافة الحقيقية مهمشة ومقصاة. أين صوت المثقف والكاتب في ما يجري، خلال أو بعد الأحداث؟ السياسي هو الذي يُعبئ المجتمع ويقطف الثمار. على العكس فما يرعبني هو صعود التيارات الراديكالية والمحافظة والأصولية الدينية مستفيدة من غياب المعارضة الوطنية التقدمية، والتي لم تتح لها الأنظمة الدكتاتورية أنّ تنشأ وتتطور. وما نخشاه هو أنّ يأخذ التكفير والقمع والمنع شكلًا رسميًّا ويحل مكان سلطة الدولة، وتتكرر تجربة طالبان ثقافيًّا واجتماعيًّا، فيتعتم كل شيء، ويطال التخلف حتى المنجز الحضاري القديم، كما حصل للتماثيل البوذية في أفغانستان مثلاً، وما جرى تهديمه من نصب وتماثيل حتى في العراق مما لم يستطع المثقفون تفادي حصوله.
كيف تكون علاقة المثقف العربي بالسلطة في هذه الظروف؟
لن يكون المثقف في موضع يحسد عليه في ظني. هناك سلطات عديدة اليوم بدلًا عن سلطة الدكتاتور المنقرضة، وكلها تمارس عملها السياسي بمعزل عن الثقافة ولا توليها ما تستحق. المثقف سيكون إما مواليًا يدور في فلك السياسي أو حرًّا يكافح في مجاله بصعوبة ومعاناة.
 حاتم الصكر الشاعر والناقد، هل متشائم أم متفائل بهذا الربيع العربي (الزوبعة) سمّها ما شئت؟
لست متشائماً بالحد الذي يرفض التغيير. كل ما حصل من تغيير أمر ضروري ومهم ومطلوب. لقد تيبس الجسم العربي وتجمّدت دماؤه وتلفت خلاياه، وآن للعرب وساكني منطقتنا ومواطنيها آن يحيوا كالبشر بلا خوف ولا ترهيب. وآن لهم أن يختاروا بحرية ويقولوا ما يرون وينتجوا ثقافتهم بحرية أيضا. لذلك فأنا وبصراحة مع التغيير الذي أطاح بالسلطة ومن معها وما معها. ولكنني غير متفائل بالبدائل القائمة لسبب تبين في إجابتي السابقة وهو أمر يبهظ ضمير المثقفين وكيانهم جميعاً كفرض العقيدة بقوة السلطة الجديدة، وتغيير نمط الحياة تراجعيًا، والحجْر على الحريات والترهيب الجمعي.. وسيادة خطابات متطرفة اجتماعيا وثقافيا قد تعصف حتى بالمنجز التنويري البسيط الذي دخل الحياة العربية المعاصرة
هل أنصف النقاد النّص؟ هل هناك قواعد أو آليات في استقبال النّص أو الاحتفاء به؟
ليس النقاد عشيرة واحدة تقول كلمتها بلسان واحد. ثمة رؤى تحرك المواقف وتفرض اختيار المناهج. وهذا يُنتج بالضرورة اختلافًا في الموقف من النّصوص. مثلا: النقد الشارح _ نقد الدردشة كما يتندّر رولان بارت بتسميته – يعلّق على (ويشرح) النّص معتقدًا أنّه بذلك يقرّبه من قارئه. لكن النّص يظل بعيدًا عن التلقي المطلوب كما يظن شارحوه أو كتابه. النقد المنهجي قدّم للنّص الشعريّ والسرديّ خدمات كثيرة. لقد جرى تنظيم الخطاب النقدي بطريقة تجعل الكتابة النقدية تخدم أطرافاً متعددة: في مقدمتها النّص نفسه بما تقترح المناهج السردية من تحليل لمستوياته المختلفة ودراسة وجهة النظر والفضاء والشخصيات والزمان والتسميات واللغة والإيقاع أيضاً. بجانب استنباط الدلالة. ومؤخرًا جرى التنبه لما يُسمى عتبات النّص مما كان لا يقف عنده النقد التقليدي: كالعناوين والمقدمات والاستهلال وسواها. فيخرج النّص بولادة أخرى وهيئة تصله بنوعه وجنسه، ويكشف التناص صلته بمراجعه وسواه من نوعه. ويغدو بشكل آخر ربما لم يدر بخلد كتابه أنفسهم. قارنْ ذلك بما كان يكتب من دراسات حول القصة والرواية . وستجد ما كان يكتب من دراسات انطباعية تشرح فكرة القصة أو الرواية وتتحدث عن شخصياته بما يماثلهم تمامًا في الواقع بلغة مهومة لا تحدد البنى الفاعلة في السرد. قرأت لأكاديمي مرة بحثًا عن رواية بدأه بالحديث عن والد الكاتب الذي سلمه الرواية وعرفه على ابنه الكاتب وكان خلوقًا مثله وظهر ذلك الخلق في عمله! وآخرون كتبوا بلغة معيارية: أفضل وأعظم وأكثر وأجمل.. ولم يضيفوا للنصوص شيئًا. أمّا القارئ وذلك الذي تغير أفق تلقيه بوفق ما تتطلبه حياة النصوص وتبدلات الأسلوب فقد كسب خدمات كثيرة من الكتابة النقدية التي تعرفه بحقيقة العمل وتكشف ما في طياته.
الشعر
أنت من الذين لاحقوا قصيدة النثر بحثاً ودراسةً كيف تراها الآن؟
رغم الادعاء والتكلف في بعض نصوصها، تظل قصيدة النثر حلًا لمستقبل الشعر وجمالية القصيدة. هي مقترح فني وجمالي في الواقع. وهي تعديل خطير وجذري للشعرية كنظام كتابة ومزايا داخلية، ولطريقة التلقي أيضًا. وهذا هو مصدر الخطر في مناقشتها، رغم أنها تعدّت مرحلة الرفض أو القبول التي تلازم أي مقترح جديد في الفن والأدب.
اهتممت مبكرًا بالتنظير لإيقاعها وجدواها وضرورتها، ولكنني أردت عبر التحليل والتطبيق أنّ أُبين وجود ضوابط في كتابتها، لعلها أكثر صعوبة من الكتابة الشعرية الوزنية. لماذا؟ لأن الوزنيين يكتبون على نموذج موسيقي جاهز، وشكل فني مستقر، وفيه تراكم نوعي وكمي من القصائد التي تعزز وجود ذلك الشعر الموزون. أمّا قصيدة النثر فقد نبتت في حديقة جانبية خارج بيت الشعر – بالمعنى المجازي لا العروضي. وراحت تنمو لتنسل إلى الداخل. أسلافها الأقربون أو سلالتها ليسوا بالحجم أو الموقع الكافي للتعريف بها أو قبولها كالشعر المنثور مثلاً، فكان على الشعراء والنقاد والقراء أنّ يطلوا عليها ويتأملوا جوهرها، ولكن من وراء هذا السياج الذي انتبذت فيه مكاناً قريباً، ولكن هو في النهاية خارج الذائقة السائدة والأسلوب المألوف.
وكأي مقترح دخل في قصيدة النثر وباسمها كثير من الادعات النصيّة التي تريد الاندراج داخلها، ولكن دون انتماء حقيقي لاشتراطاتها. البدايات دوماً هكذا، ولكنها ليست بلا ضوابط، وممكن فرز تلك الادعات النصيّة والاستسهال في كتابتها ورفضه.
كيف تقرأ المشهد الثقافي العراقي في ضوء تحوّلات المنطقة؟
أنا من المتفائلين بمستقبل الثقافة العراقية كلها شعرًا وسردًا وفنًّا، ولي أسبابي. لكن ذلك ما علمنا إياه تاريخ الثقافة في العراق وكذلك واقعها اليوم. تتبدّل الضغوط على الثقافة والمثقف: من إرهاب الدكتاتورية وتخويفها والتجويق الفردي والهوس بالحروب والشعارات القومية المتخلفة حتى اللحظة الدراماتيكية التي يعيشها العراق كله، حيث التسلط المختلف بأسماء متنوعة: الإرهاب والتكفير لا يوفر أحداً! والعمائم تبث ثقافتها رويدًا. كم حزنت لموقف مثقف أحترمه كان ينظّر على الشاشة للمسرح الديني كحل لإنقاذ المسرح من أزمته. وآخر يدعو التشكيليين لمناسبة صغيرة يحتفى بها شعبيًّا كل عام في إطار ديني. والأهم هو الحجْر الاجتماعي على الحريات، ليس بمنع النصوص مثلاً، بل بالتخويف والقتل لكل رأي ليبرالي أو حرّ لاسيّما في مسائل التحديث والمرأة والمجتمع عامة.
وسط ذلك يظهر الجانب المنير من وجه الثقافة العراقية: الأدباء والفنانون يواصلون مشروعاتهم التحديثية والسينما تستيقظ وتشارك أفلام عراقية جيدة المستوى في مهرجانات عربية وعالمية، والمسرح يعاود نشاطه وحضوره في الحياة الثقافية. تلغى ثنائية الخارج والداخل وتنهار تعصبات وحماسات الجهلة من الطرفين: مثقف الخارج الذي يخوّن من بالداخل لأنهم يعيشون هناك! ومثقف الداخل الذي يتهم مثقف الخارج بالترفع والبعد عن الواقع؛ لأن قدره كان في الهجرة.. لم يعد لهذا مكان اليوم في السجال الثقافي. كما تواصلت نتاجات الشعراء والكتاب والفنانين العراقيين خارجًا وداخلًا تكمل بعضها. وجد الشباب خاصة منابر تستوعب جهودهم وطموحهم بكدٍّ شخصي وبحسب اطلاعي المحدود فثمة تشكلات لهم في اتحاد الأدباء وفروعه التي يلفت نشاطها النوعي الانتباه والإعجاب حقاً. وفي بيت الشعر ومجلته وفروعه وفي الإصدارات المتواصلة واللقاءات والمؤتمرات. ثمة ما يتخلل ذلك من إحياء لأشكال منقرضة أو فرض لثقافة معينة، لكن موج الثقافة العراقية لا توقفه مثل هذا العقبات.
هل بدأ الشعر يفقد جمهوره لمصلحة أجناس أخرى، الرواية مثلًا؟
يمكنني القول بصدد فكرة إنّ هذا هو زمن الرواية أنّ حيثيات الدعوة أو الفرضية هذه قابلة للرد بيسر. أولاً إن الشعر ليس صناعة تخضع لقانون انتهاء الصلاحية ليزيحها نوع أو جنس آخر. وفكرة اقتراض الفنون من بعضها وانفتاحها عليها تعزز رفضنا لسيادة نوع على حساب آخر بطريقة إما الشعر أو الرواية.
لقد جاءت حجج إسناد الزمن للرواية ممكنة النسبة بيسر للشعر أيضًا، كالتعبير عن الواقع والاحتجاج والتحديث والارتباط بالمهمّشين والجرأة، وكذلك في التداول والارتباط بالناس وشؤونهم، رغم الطابع النخبوي للشعر على مستوى التلقي بحكم تركيبه وإيقاعه ولغته وصوره. وفي مقاومة المجتمع والمتخلفين له. وهي خصيصة نسبها جابر عصفور للرواية في مقالاته التي جمعها في كتابه (زمن الرواية)، حين رأى أنّ رفض الرواية استند في بداياتها إلى تهمة تخريب الأخلاق أو إفساد المرأة، وهو عين ما أُتهم به الشعر الحديث، بجانب وصفه بالبدعة التخريبية والتنكر للتراث.. وهي أمور نذكرها فقط لاسترجاع الجانب الكفاحي في مسيرة الشعر العربي الحديث.
وبالاحتكام لطبيعة الشعر أو شعريته ولنظام الرواية وقوانينها. سنجد أنّ العمق والجريان الحركي في الشعر ليس غائبًا. كما أنّ التسطيح يلازم نماذج روائية أو انواعاً منها داخل الجنس نفسه تعتاش على البوليسي والمثير والفكاهي والواقعي التوثيقي . في الحقيقة لا يمكن تحقيق الإزاحة، رغم ما نراه من شيوع تداولية الرواية وكتابتها، بل إقبال شعراء كثر على كتابتها. لكنني أفسر ذلك بأنه ثمرة الحرية في اختيار النوع وهيمنة فكرة النّص بدلًا عن التسمية النوعية: شعر أو رواية. ولا يجب أن تخدعنا أرقام مبيعات الرواية مثلاً أو فوز الروائيين بنوبل باستمرار؛ لأن هذا لا يقاس مثلاً بما يحققه الفيديو كاسيت على سبيل المثال إنّ شئنا الاحتكام للاستهلاك، فهل هذا هو زمن الكاسيت مثلاً؟
النقد
 كيف ترى النقد العربي، متى يكف الناقد العربي عن استيراد المفاهيم الغربية؟
لماذا الكف – زجرًا ونهيًا- في موضع تلاقح وتفاعل فكري وليس في مخالفة مرورية أو أخلاقية!؟ الجميع أخذوا من بعضهم. النقد الفرنسي تطعم بأفكار الشكلانييين الروس وجهود البلغار، ونظريات القراءة والتلقي الألمانية والنقد الجديد في بريطانيا، والتفكيك بنسخته الاميركية، وبسيميولوجيا الايطاليين، والواقعيون العرب أخذوا من النقد الروسي ومنظري جماليات الماركسية، فلماذا يتهم ناقد الحداثة بالنقل ثم يؤمر بالكف؟- محرمات وممنوعات إضافية لتابوات حياتنا العربية؟ ولماذا أبيح في التراث العربي الأخذ عن اليونان وفلسفتهم والتفاعل مع أفكارهم لنقاد كالقرطاجني وعبدالقاهر والبلاغيين والنقاد العرب في العصر العباسي، ولا يسمح بذلك لناقد عربي يريد أنّ ينوع أدواته ويستفيد من توصلات سواه ممن يشتغلون على المتن الأدبي ايضاً؟؟
أرى أنّ يُدعى الناقد العربي لتكييف وتعديل المنهج بناء على ضرورات ومستويات وإشارات النّص العربي. ولا ضير أنّ يستعين ويستفيد مما يجري في الحياة الحديثة اليوم من اقتراض وتعديل وتطوير.
إلا ترى أنّ الحراك الثقافي ظلّ محدودًا (الشعراء يكتبون لبعضهم وكذا الروائيون) متى نفكر بجديّة بصناعة جمهور ثقافي؟
لا أظن أنّ المشكلة في محدودية الحراك الثقافي تحل بصناعة (جمهور) ثقافي كما يقول السؤال؛ لأن هذا الجمهور المفترض يتشكل خارج الإبداع جمالياً على مستوى التلقي، بمعنى أنّ يتلقف ما يستقر في وعيه بتراكم التجارب النوعية. هذا ما يقوله لنا تاريخ الأدب والفن، وما تعلمنا إياه نظرية الأدب ايضًا. ليكتب الشعراء والروائيون لبعضهم وليرسموا وينحتوا ويؤلفوا الموسيقى لبعضهم، فالجيد والمغير والمتحوّل سيفرض نفسه. دوماً هناك حجة لرفض الحداثة تتلخص في غموض رسائلها. وفي محدودية تداولها. وهذا ما واجه الحداثيون القدامى أيضاً (أبو تمام مثالًا) وما قيل عن شعره الذي اتهموه بأنه يقول فيه ما لا يفهم. وحتى سيل المجددين الذين رفضت محاولاتهم رغم محدودية أفق الحرية فيها، وصولاً إلى التجارب الشعرية والسردية والفنية الجديدة وما تواجه من عزلة وتهجم.
لكن في الأخير يتكون الجمهور الخاص والعام معًا، أعني الحركة النقدية بقراءاتها المتخصصة والمتلقين – هذا أفضل من فوبيا الجمهور المصفق والناسي من بعد!!-. إن المشكلة تكمن كذلك في ما يُكتب أصلاً ودرجة تأهل المتلقي لفهمه. وقد قلت في مناسبات سابقة ما أغضب دعاة اجتماعية الأدب وجماهيرية الفن والكتابة الادبية بأن قدَر الشعر والفنون الاخرى أنها نخبوية. تلقّيها بكل لغات العالم وفي شتى الفترات تلقٍّ خاص ومحدود وهي بحاجة لشروح وتفسيرات وتأويلات حتى في تراثنا، حين كان الشعر زاد الناس اليومي حيث لا زاد ولا كلأ ولا ماء ولا.. إلى آخره!!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*