الهايكو قصير كحياة عابرة: متواليات حسين عبد اللطيف الشعرية
تنبه الشاعر العراقي الراحل حسين عبد اللطيف (بغداد1940- البصرة 2014) إلى إمكان تمدد قصيدة الشكل الهايكوي لفضاءات أبعد مما استقر في شعريتها من مزايا محددة؛ كالالتزام الحرْفي بعدد أسطرها الشعرية، والختام بالضربة أو القفلة الأخيرة التي تسمي العائدية النصّية إلى المسمى المقصود، والاستمداد موضوعياً من الطبيعة مكاناً ومنظراً ودلالة، بما تنطوي عليه من تعاطف خارجي، واقتراب من ماهية وجود الطبيعة في الحياة.
لم يكن ما ذكرناه آنفاً قد ورد في برنامج حسين عبد اللطيف وهو يجرب كتابة ما أسماه «متوالية هايكو» (2010). إنه يشفع العنوان بآخر هو «بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميّتة»، فيمهّد بذلك لميثاق القراءة الذي سيعقده مع قارئ نصوص الهايكو. فما يقرأ من نصوص إنما هي خيال وإيهام، يتلقى إلهام صوره من البرق الذي يرمي تلك الطيور الغريبة ميتة.
لكنها تجد في النصوص حياة أخرى. إنها تسير وتنام وتستيقظ وتحب وتغار وتسافر وتجد لها صنوا أو إلفا وتفارق وتغترب… وهي لا تعود في قيامتها النصية لقالقَ ميتة، إنها تنبعث في صور أخرى: شجراً وحيوانات ومشاهد. لكنها تحضر في تلك المتوالية النصيىة مرتبطة بالذات، وما يُسقطه الشاعر عليها من تصورات، وما يشكله لها من هيئات.
ولا يغيب عن متابعي شعر حسين عبد اللطيف منذ ديوانه الأول «على الطرقات أرقب المارة» 1977، ما كان موضع اهتمامه وبعض مزايا تفرده الجيلي والفني. فهو لا يقارب الشائع من اهتمامات الستينيين، رغم أنه يصطف معهم في كتابة قصيدة التفعيلة الحرة، ثم قصيدة النثر. فثمة مؤشرات إلى عنايته الخاصة بالأحياء التي تعيش في البيئة البصْرية والعراقية غالباً. ما يتضح في كثرة الهوامش الملحقة بالنصوص وهي تعرّف بالكائنات التي يستوحيها، ويربطها بحياته، ويُسقط عليها محنة وجوده، بل يعود بها إلى لحظة الخليقة الأولى.
فنجد في قصيدة «هبوط آدم» مثلاً تصوراً لبداية متخيلة حيث يولد الإنسان الأول:
«أبدأ الليلَ بنارٍ في السهول
وعلى بوق القصيدة
تنهض الأشجار للصيد وتنساب الوعول
من ثقوب الذاكرة».
وفي «حدائق» يكتب خمسة مقاطع يتماهى فيها مع موجودات الطبيعة، وكأنها تعود إليه من الماضي ليتعرف على نفسه في هيئتها: «في جسدي للطيور/ حدائق من جراح»… و«حيّاني البرق من النافذة/ ومدَّ لي أذرعه العارية/ بوردةٍ/ من قماش!».
إنه يواصل ذلك التماهي، وكأنه يستبق التعرف على الهايكو الذي سيكتبه بزاوية النظر ذاتها، لينفصل عن مرائيه متفرجا أو حالماً، بل يندمج بلقطة شخصية مع ما يراه ويتمثله بمنظور المخيلة.
وله قصيدة بعنوان «رهط الطير في حضرة العراق» أضافها الكاتب صفاء ذياب إلى أعمال حسين عبد اللطيف الشعرية الكاملة التي قام بنشرها في دار شهريار،2021. في مطلعها يسمي الشاعر ثلاثة وأربعين طيراً تأتي كلها (بفيلقها العجيب مع الربيع) إلى رحاب العراق لتشدو بأغنية انتساب لفضائه. ووجودها في شعره مع حيوانات ونباتات وأشجار أخرى تشجع على قراءة بيئية فيعزز الإحصاء تلك النزعة الإنسانية في شعره.
كما فعل مثلاً غاستون باشلار في كتابه عن لوتريامون (ترجمة حسين عجة 2021)، إذ أحصى الحيوان وأنواعه في شعره، وراقبَ مصدر تلك الكثافة الحيوانية عنده في «أناشيد مالدورور»، ومغزى التحولات التي تصنعها المخيلة الشعرية لتدرج المخلوقات الأخرى في الحياة الإنسانية، وكأنها تستعيد بداياتها وتصوراتها الأولى لتلك المخلوقات، وتُجري عليها التحولات الدالة رمزياً وسايكولوجياً.
لعل تلك الشواهد تؤكد أن مجيء الشاعر لكتابة الهايكو ليس بدواعي تقليد الشائع أو التجريب المفرَغ من الدلالة. فقصائد حسين عبد اللطيف البيئية انطلاقاً من الذات، تتسم بتلك الروح التقشفية التي سترصد مزاياها ماريا كداما زوجة بورخيس التي رافقته في رحلته إلى اليابان في مقالة ترجمها الدكتور محمد آيت لعميم في كتابه «قصيدة النثر: في مديح اللبس» 2021، وأّرّخت لكتابته الهايكوية في الثمانينيات. فهي تعقّب على ذلك بالقول إن بورخيس بعد دراسته للبوذية وتعاليمها التي (منحته عقلاً منفتحاً شديد الحساسية للثقافات الأكثر اختلافاً.. وجد الطريق العريق للشعر الياباني الذي يوصل إلى اكتشاف الهايكو)، الذي تقترح أن يُحدد بكونه فناً تقشفياً، يتضح فيه الفرق بين (الشرق حيث الزهد غاية في حد ذاته..)، والفهم الغربي للزهد (كوسيلة للوصول إلى غاية).
ذلك الزهد هو أحد مشغِّلات الكتابة الشعربة لدى حسين عبد اللطيف، ومنه وصل إلى الهايكو، واحتفى به وعدَّ ما كتبه في متوالية هايكو (قتراباً حميماً من قصيدة الهايكو اليابانية)ً، منبهاً قارئه إلى أنها (تنطلق من منظور ثقافي آخر له أعرافه وتقاليده الخاصة)، ومذكراً بما أسماه (سياقات العربية ونحويتها المتحكمة في طرق الكتابة).
وهو لم يعلن صراحة أنها من الهايكو إلا في العنوان. فكتبها في مقاطع يفصل بينها بعلامة طباعية، وتتكون من ثلاثة أبيات أو أربعة وأحياناً قليلة خمسة. وقد ربط كتابتها بنبض القلب لسرعتها وقِصرها، واستشهد بما تقطعه في النفَس الواحد عند القراءة.
لقد لخّص الشاعر في مقدمة متوالية الهايكو التي سماها «إضاءة» مفهومه الحذر لهذه الكتابة. وقد بدأ بذكر ما يمكن عدّه شكلياً شبيها للهايكو في الشعر العربي، وسمّى من تلك الأنواع الشبيهة؛ الومضات والتوقيعات. وقاده ذكر هذا الفن البلاغي النثري القديم إلى ذكر (الإمضاءات) التي يوقّعها أصحابها لمعجبيهم، وها قد وضعنا الشاعر في بلبلة اصطلاحية.
ليس النقاد وحدهم إذاً من يخلقون المشكلات الاصطلاحية ويرسلونها من برج بابلهم النقدي المكتظ بالمصطلحات والمفاهيم. فالشاعر يورد ماساد في التداول الكتابي عن القصائد القصار المكثفة أيضاً، ولكنه يصل إلى الهايكو ليبين هجران المحسّنات البلاغية والنزعة اللفظية.
أما القارئ فسوف يرى في النصوص التي تلي عتبة الإضاءة التقديمية، ما يخالف ذلك. فالكلمة لا تعني الشيء في نفسه أو في ذاته، والزهرة لا تعني الزهرة، ولا طائر الليل هو طائر الليل، لأنها ليست منضدة في لوحة من الفن المعروف بالطبيعة الميتة حيث تتجاور الموجودات بحياد وتعبِّر عن نفسها. ففي نصوص حسين عبد اللطيف تتعدى الكلمة معناها إلى دلالتها، والدال لا يقدم ما يعنيه مدلوله إلا بوجوده المجازي فيكون له في القصيدة وجود شعري يتطلب استيعابه لا بحدود وظيفته المعروفة.
تؤدي المخلوقات في الهايكو لدى الشاعر دوراً شبيهاً بما تقدمه المخلوقات في شعره ما قبل تجربة الهايكو. ولنأخذ وجود العصافير في الحقل الذي تحرسه فزّاعة، فقد احتشد الرمز هنا، وحدث تحول في وظيفة الفزاعة الصامتة، فهي توازي ضدياً حركة العصافير والزرازير في هذين النصين:
«عائلة من الزرازير
تهبط في الحقل المحروث توّاً
الفزّاعة
لا تريم ولا تحرك ساكناً».
………………………………
«على مرأى منها ومن تحت قدميها
تسرق العصافيرُ البذور
يالها من فزاعة مغفّلة!».
ألا يمكن فك الرمز الذي تنطوي عليه حركة الطير هنا لتشير إلى حرية الطائر وخذلان الرقيب؟ وكم سيتيح ذلك لقراءة تأويلية أن تستحضر كثيراً من دلالات هذا التقابل الضدي، وانتصار الطائر على ما تمثله الفزاعة في الحقل من رمز للخوف وترهيب الطائر؟ لقد أخضعنا المفردات لقانون التحول الوظيفي الشعري داخل النص، فلم تعد الكلمات تعني الشيء نفسه.
وإخلاصاً للتقشف والزهد في كتابة الهايكو، يقدم حسين عبد اللطيف توسيعاتٍ عربيةَ المرجع والنسق. فالغراب هو ذلك المنبئ بالشؤم، ونعيبه إعلان عن واقعة محزنة:
«نعيب الغراب
قطار يرحل آخر الليل
مخلفاً شريطاً من الدخان».
حضرت التشبيهات والكنايات هنا، ولم نجد ترفعاً على البلاغة المنقادة لعمل المخيلة، وهو ما نراه مجسدا في استبدال شؤم الصوت الغرابي بأمثولة دخان القطار الراحل ليلاً بما فيه من سواد، يضاعف المشهد ظلاماً، ويشير لقسوة واقعة الفراق ووقعها.
ولحسين عبد اللطيف ولع خاص بإضافة اليومي المتداول، والمغرق في الانتساب للفكر العامي والشعبي، ومفرداته أحياناً، لذا لجأ إلى الشروح وتقريب المعاني لقرائه. فثمة حلوى (بيض اللقلق) الذي يذوب سريعاً في الأفواه، وبائع الفرارات الذي يدور في الأسواق. وفي هايكو لاحق من ديوانه «وحيداً على الساحل تركتني المراكب»، 2017، نقرأ: (يؤكَل ويُذم/إلا عند البصْريين/ السمك الأسبور).
سأعود إلى متوالية هايكو لأعثر على نص يقيم علاقة ميتاشعرية في متنه، فهو يعرّف الهايكو بالقول:
«بالعبارة القصيرة
تبلغ المسافة الطويلة
قصيدة الهايكو»
مستفيداً من التقاطع بين قصر النص والمسافة الدلالية التي سيقطعها للوصول إلى أفق القارئ.
لكنّ للشاعر صلاح فائق رأياً آخر، فهو يعرّف الهايكو ساخراً في شذرة شعرية من بيت واحد بالقول: «الهايكو حساء ياباني بتوابل عربية». لكن حسين عبد اللطيف يخرج من هذا المأزق، فيضيف من مرجعيته الثقافية ما يسند تقشفه الكتابي والروحي، فيستحضر أسلوب النحات جياكوميتي في استثمار الفراغ في أعماله فيقول: «نقار الخشب الجياكوميتي/ أخيراً انتهى/ من صنع الفراغ».
تختم قراءة قصائد حسين عبد اللطيف المقتصدة حتى خارج شكل الهايكو بنصه الذي يبدو أنه من سنوات مرضه الأخيرة. فهو مؤرخ في 16/12/2012. ولعنوانه «الشوط الأخير» دلالة مهمة:
«تهزمك الرياح/فتبكي
ما يأخذه الموت.. هيهات يُسترد
لا عمر لزهرة الفرح
ولا لفقاعة الهواء مثابة…قبرك- حسب- ينفتح
وينحني عليك».
حتى في شوط حياته الأخير يستحضر حسين عبد اللطيف مخلوقات لها في قاموسه الشعري حضور لافت ستزيده الدراسات وضوحاً. فقد تصور نفسه طيراً يتهاوى:
«وفيما الخريف
يتجه نحوك
يرف الجناح
رفة واحدة
ويت..
ها..
وى..
جثةً هامدة…».