كان سركون بولص نازلا من مركب نوح في أرض أخرى.نتقصى خطاه عليها..ونستعيد وجوده شاعراً في مدن صلدة قاسية.
مقالي في عدد القدس العربي الأسبوعي-الأحد10-11-2024
بحثاً عن سركون بولص في المكان الأمريكي
لم أكن قد دققتُ في دلالة استخدام جيلِنا لمفردة (العوينات) مرادفاً عربياً للنظارات الطبية، حتى توقفتُ عند سطر شعري في ديوان (عظمة أخرى لكلب القبيلة) لسركون بولص:
عويناتي الغائمة ببخار أيامي
غابت ( العين) التي غمرها ضباب وقائع الأيام ،حجاباً كالغيم يعترض رؤيتها ، وانزاحت تلك الوقائع دلالياً عند سركون إلى بخار الأيام الناتجة عن احتراق نار في جوفها.لكنه شاء التصغير،لأن عمل العوينات أقل من عمل العين أثراً، وإن نابت عنها.وتتأولها القراءة أيضاً بما أصاب العين من كلل النظر، بما تفسده الأيام وتدمره أحداثها.فتنهار الأمكنة، وتفرغ من جمالياتها المؤملة، ويصاب الزمن المسقط عليها بالعطب وتفرغ ساعاته من معانيها ..
كنت أقرأ سركون بولص في ذكراه ، بحثاً عنه في المكان الأمريكي ، وأتحسس خطاه ووجع ذاكرته، وتداعيات وجوده في المكان الذي سرعان ما يكتشف كمهاجر قديم طوعاُ أو اضطراراً ،أنه ليس مكانه.فيعيدني إلى قصيدته ( اللاجئ يحكي) حيث يستبطن ما في جوف اللاجئ الذي يسرد حكايته، ويظل يحكي( لأنه وصل، لكنه لم يذق طعم الوصول). ولعله سركون نفسه في رحلته المبكرة يافعاً لا يدري إلى أين.
إنه يتوهم الوصول إلى مدينة أين، كما في عنوان ديوانه الأول 1985.لكنه لا يصل. .فقد كان يقايس الحلم بما أعطته اليقظة. فيمسك الفراغ الذي سيظل يعانيه حتى النهاية. وتطور تعبيره عن ذلك من ترميز وخيال متعال إلى استقراء الأرضي ، يرى ما تحت قدميه من أمكنة.فتهدأ قصيدته. وتتخلص من كثير مما زخر به الديوان الأول من تجريب شكلي ،وتهاويل خيالية وصورية.
لقد استبصر بعوينات مضببة غائمة، فوجد أن البشر في كل مكان، ولكن ( في كل مكان حجارة).وهو ما سيعيد سركون سردَه في قصائد كثيرة، مجسّداً توترات الحلم بالمكان الذي يقصده المهاجر ، ثم يكتشف أنه إذ يرسو في هجرته (من آشور إلى بلدان الأشياء الأخيرة) لا يملك إلا أن يتساءل :
( أهذه سماؤنا السابعة /أم أنه ليس سوى القاع).
القاع مكان سفلي يتناظر ضدياً مع السماء التي بها حلم المهاجر.الفضاء الأوسع من بيته الضيق ووطنه الأول.لكنه لا يجد شيئاً . ليس من وطن بديل يقول سركون .
ليس من يقين ما بين الحلم والوصول. بل مزيد من الأسئلة والعناء والندم.و تلك ثيمات تتكرر في شعر سركون منذ هجرته.وعودته لكتابة القصائد بعد انقطاع لأكثر من عامين بين 1973 و1975.
لقد كانت صدمته الأكبر عند وصوله الأخير إلى أمريكا، بعد مغتربات أقام فيها قليلاً.
هنا سيكون المكان نداً ومواجهته خاسرة .لذا يأسر الأمكنة في إطار التدوين ويموضعها في الذاكرة .سيكتشف بإيجاز مهم أنه انخذل بحلمه:
إذا بنا هنا نعيش
لكننا نحيا هناك
إنه يفرق عامدا ً بين فعل العيش وفعل الحياة، بدقة يملكها فقط شاعر مستبصر بعمق.و بعوينات مضببة، ولكن ببصيرة يقظة.ويقول أمريكا بالنسبة إليَّ هي محل عيش .إقامة.وليست وطناً. لأنك لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين.الوطن البديل مثل زوجة الأب،مهما كانت حنوناً لا تنسى أنها ليست أمك.لا تنسى أنك من امراة أخرى). لم يغفل سركون في تصريحه هذا أ ن المهاجر هو الآخر لا ينسى أن الوطن البديل ليس وطنه.ولا يستطيع نسيان ذلك لأنه من وطن آخر.
ويسهم المكان غالباً في تجسيم ذلك الشعور.فالمهاجر يظل يتذكر أن حياته في مكان آخر مهما اكتسب من ألفة المكان الجديد بفعل العيش.فالحياة هي في مكان آخر تماماً.الحياة التي تألفت من كِسَر مهشمة .من ذكريات يلم نثارها ،ويشكّل منها جنته الضائعة، فيما هو ذاته ضائع في طريق إلى جنّاتٍ لا يجدها إلا في الحلم.
لاحظ الدكتور رضا عطيه في كتابه عن تجربة المكان في شعر سركون بولص ، أن (فضاء الذات الخارجي في المكان الآخرهو فضاء ( الهامشي)الذي يكشف زيف المكان الآخر، الغرب، وكذبَ وهمِ اليوتوبيا التي يدعيها، حيث تُعزل الأقليات و أصحاب العرقيات المختلفون ..) .ممثلاً لذلك بحيّ فلمور في سان فرانسيسكوالمدينة التي سكن فيها سركون بولص.ولكن المنتبذ في الحقيقة من صنع المهاجر أيضاً.فهو يحس باليتم.أوطان لا ترضاه ابناً وإن انتسب إليها تلقائياً بالتجنس والإقامة.فهي تظل موضع عيش، ينقصها كل ماتقدمه الحياة من علاقات وحميمية وألفة.
لكن اغتراب سركون عن المكان الأمريكي خاصة، يأتي ممتزجاً بالحمولة اتي يتضمنها ذلك المكان. مكان تفوح منه رائحة عظام السكان الأصليين وقتلى الحروب الكثيرة، والحيوات التي تغتالها الفاقة والمخدرات والبطالة ،ترميزاً لما يحمله القاع من مفارقات تحدث عنها سركون ،حين وجد ذلك القاع بديلاً عن وهمِ سماءٍ قصدَها الحالم. و تتشيد تلك المدن نقيضاً لما يحمله المهاجر ( تاريخنا نحمله في أكياسنا ) ، حتى وهو يعاني من الغرق في طريقه إلى المهجر، مستذكراً مركب جده أوتا بشتم أو سفينة نوح.. تاريخ نابض لا يهدأ ينهمر صوراً من ألبوم كبير تتقافز محتوياته مزيجاً من ماض أسطوري ،وإرث روحي، وحضارات مطمورة في تر اب حاضر منكسر ومهزوم.
وسيظل سركون بعوينات غائمة ببخار أيامه المحترقة يرى الأمكنة وهي تقرض الوجود الإنساني. فهي مدن لا تفارق مخيلته كلما قامت حرب او اشتعلت فضاءات مدن وطنه بالنيران التي يرى مشعليها يتشدقون بحضارتهم علناً ..ويرتكبون ما يجردهم من إنسانية لازمة للمتحضر.
المكان الأمريكي الذي تنقل فيه سركون لم يبهره ، لأنه عثر على لغز الحضارة وكشف عن وجهها القناع. قصيدته (حانة الكلب) تسرد تناقض التسمية .ويقول في تعقيب على القصيدة إنه (وجد سر أمريكا أخيراً). فالحانة المضافة للكلب تقع (على طريق الملوك التي سلكها الكهنة المكسيكيون إلى أديرتهم المقدسة في كاليفورنيا ، فهم ملوك الروح.. ذلك المعنى المتأرجح بين الكلبية والقداسة ،بين حضارتين متضاربتين، عالمين بينهما فروقات شنيعة كتلك التي بين أمريكا الشمالية والجنوبية ، أو بين الغرب والشرق).
هذه الملاحظة ستهز سركون وتعيده للكتابة بعد سنوات صمت طويلة ، ولعلها هي التي جعلته يتوقف عند شطحة جلال الدين الرومي حول النائم في مركب نوح ،فما يهمه وهو سكران – بالمصطلح الصوفي – لو أتى الطوفان:
وجدتُ نفسي نائما في الجانب المظلم من العالم
أنقّب كل صباح في مكتبة الآلام العامة عن جذرٍ
يربطني بك، أنت، دائما وحتى
أنني أتردد في أن أسميك
خشية التسمية هنا تحيل إلى قسوة المدن البديلة، وعذاب الآلام المتكدسة في مكتبة ضخمة .
وفي رسالة من هوليود مهداة إلى الشاعر صلاح فائق يكتب:
عزيزي صلاح
في الشارع بين براميل الزبالة
ينام الموتى واللصوص معاً
في هذه القارة المسروقة
وفي هذه الساعة المتأخرة.
ويحشد اوصافاً لهذه المدن: فمنها مدينة قاتلة للقصائد.المدينة التنين ..وليس من مدينة تشير إلى ما كان في الحلم.
وإذ تهب رياح النوستالجيا يصبح لكل شيء قوة المحرّك للتذكر :
جلستُ طوال النهار
أحلم بهذا اللغز: بلادي
عندما وجدتُ فلساً في سترة قديمة.
لا ينتهي الطواف في شعر سركون بولص .ولا تزول أبخرة الأيام عن عوينات قارئه.لقد أصابت القراءةَ عدوى النظر المضبب الغائم ،متسللة من قصائده..ينظر ولا يرى.فالعيش هنا والنظر.وهناك الحياة والبصر ..بينهما تتمدد القصائد رؤى وأخيلة تستثيرها الأمكنة. يؤرخ سركون لكل مكان. سواء أكان مقهى أو حانة. نُزلا أومحطة ..مدينة أو قرية، ومع ما يرصده يحضر الزمن : شتاء في مكان ما، أو يوم ماطر في آخر ، مساء في مدينة وليل في أخرى.ودوماً ثمة سرد يتيح للتسميات والشواهد والقص والحوار والتداعيات، أن تترى بلا توقف.
شيء واحد لم يعثر عليه ،ولن يعثر عليه من ورثوا المنفى بعده: أمريكا التي تبع ضوءها البعيد ،باحثاً عن ورقة عشب زرعها والت ويتمان في قصيدة، لكن سركون لم يعثر عليها..كانت أوراق أخرى تحل محلها ،عليها روائح الثروة المشيدة على بؤس الاخرين وموتهم :
أينها؟ أين أمريكا التي عبرتُ البحر
لآتيها ، أنا الحالم؟
هل ستبقى أمريكا ويتمان
حبراً على ورق؟
هي كذلك حتما : حبر على ورق. أما أوراق العشب التي يكتب عنها ويتمان قصائده فغدت أوراقا تصطف متكتلة في المصارف، كناية عن عالم يباع ويشترى. ويراها العابرون دون الحاجة لعيون أو عوينات أو قصائد، ولا لمغتربات وأحلام ،وأوهام .
وبدلاً عن ذلك البخار على زجاج العوينات، ثمة غبار يذكره سركون بولص مخاطبا ً الرجل الحالم في قصيدة ( مفتاح البيت):
هذا هو الحد
هنا تنتهي طريقك الأولى..
افرك عينيك المليئتين بالغبار
وأنت تمشي في بلاد الآخرين…..
بحثاً عن سركون بولص في المكان الأمريكي
10- نوفمبر – 2024