صفحة أدب وفن -جريدة القدس العربي -الأحد24-11-2024.ومقالي عن دلالات العودة إلى الماضي الآن في لحظة من أدق أوقات التحدي الوجودي للهوية ، ثقافة وحقوقاً ورمزاً وحبكات وشخصيات ووقائع في الكتابة ، بإزاء خواء وضعف وفراغ تتسيد الفضاء العربي.
تحفزنا على تأمل فراغ الحاضر وبؤسه: في دلالات العودة إلى ماضينا الآن.
سؤال العودة إلى الماضي في عنوان المقالة يتضمن إجابات استباقية، إذا ما تم وضعه في إطار التأويل، وسياق المضمر من المعاني والدلالات.
فالماضي والآن كعلامتين على زمنين وحقبتين، متقابلان هنا بضديّة واضحة. ولكن بدلالات منقلبة عما كانت عليه قبل عقود في بواكير التجديد والحداثة، حين جعلت اللافتات المعلنة في خطاب التحديث ثنائية الحاضر والماضي في مناوءة كاملة، بتصوير التراث الروحي كجزء من ذلك الماضي كله، بما فيه من قدامة وحداثة، وتقليد وتجديد، وأنه ليس إلا نصوصاً مجمَّدة في زمنها، تمثل عائقاً في مجرى نهر فعل التجديد والتحديث.
كان الخطأ الصارخ في هذه المناوءة ردَّ فعل على ما واجهته موجات التجديد والتحديث من رفض وتخوين وتهميش، قادها محافظون متزمتون وتقليديون لا يرون التراث إلا صنماً، عليهم حراسته والذبّ عنه بشراسة، وإنكار إمكانية الكتابة على غير منواله.
وأحسب أن السؤال موجّه إلى نفسي أولاً، فقد وجدتني قبل شهر في موقف المراجعة لدلالة العودة للتراث الشعري والسردي، أو توظيفه بقوة واضحة في الأعمال المعاصرة، والحديثة منها خاصة.
كانت المناسبة شخصيةً، فقد دعيت لأكون ضيفاً للقاء دارسي اللغة العربية، وتقديم محاضرة في كلية كليرمونت ماكينا في لوس إنجلس، وإحياء لقاءات وقراءات شعرية.
اقترح قسم اللغات الحديثة ودراسات الشرق الأوسط أن تكون المحاضرة عن الأدب العربي في القرنين الثامن والتاسع وما بعدهما، أو العصر الذهبي للأدب العربي كما يُعرف في تاريخ الأدب. ولا شك أن نداءات التراث ووجوه حداثته تلك الحقبة كانت ماثلة في ذاكرة المضيّفين، فاقترحوا الموضوع في ضوء ذلك.
بالنسبة لي وجدتُ الأمر طبيعياً. فالآخر دارساً أو مهتماً، يرغب في التعرف على جذور هذ الأدب الشاسع في المساحة، والموغل في التاريخ، والمتنوع في الأنواع الكتابية والشفاهية. ولا تغيب عن ذاكرته أيضاً منجزات ضخمة حفظها التراث الروحي العربي تلك الفترة. لكنني تأولت الأمر بكونه يخفي في ثناياه ما يشير إلى ضبابية الصورة التي يبدو عليها أدبنا المعاصر، ارتباطاً بمآلات الحياة العربية سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، وواقع المجتمعات والأنظمة، وما تسلط من هيمنة واحتلال، واستهانة بحقوق الشعوب وهويتها وكرامتها الوطنية، وموت علني ودمار وعدوان، حتى غدت صورة الحاضر العربي بهذه القتامة.
وأوغلتُ في تأويلي للموضوع، بالنظر في حضور التراث أيضاً في واقعنا الثقافي والأدبي. فالعودة إلى الماضي صارت قاسماً مشتركاً بين الأجناس والأنواع الأدبية. ويمكن استقراء ذلك بمراجعة أو استعادة ما اشتهر، وأخذ موقعاً متقدماً في التلقي. وسنعثر على شواهد كثيرة في السرد خاصة. ففي الرواية استند كثير من الروائيين العرب على رموز التراث المقترنة بالسؤال والعناء والكشف والتمرد والانشقاق والتفرد.
لقد كانت الموضوعات في مرحلة الريادة وبدايات محاولات الكتابة الروائية تنتقي شخوصها وحبكاتها وأزمنتها وأمكنتها من الموروث المتضمن قصص الأبطال المميزين بتاريخهم في التضحيات، والشجاعة، وهم غالباً يتمتعون بمآثر تلهم القارئ، وتعوضه عن خسارات حاضره الهائلة.
إن مرحلة التجديد والتحديث في الرواية العربية ذهبت أيضاً إلى الماضي، ولكنها انتقت شخوصها ومعطيات السرد بشكل مختلف. فقد تغير مفهوم البطل، وصار بالإمكان اعتماد شخصية صوفي أو ثائر أو مفكر، أو من الشخصيات الهامشية التي أعيد لها الاعتبار بقراءات حديثة للتاريخ. وتم ذلك بضوء محاولة توظيف الخيال ليردم فجوة الوقوع في كتابة سيرة غيرية عن الشخص أو الجماعة أحياناً. والانتقالة التي ترصدها القراءات تتضمن أيضاً توسيع مدى مفهوم الشخصية، لتغدو مجموعة مفكرين أو منشقين أو هامشيين، ليأخذوا مركزاً مهيمناً في السرد، ويعودوا للمتن، بعد أن جرى تهميشهم وإقصاؤهم من المشهد التاريخي في الفكر والثقافة والفلسفة والمجتمع.
وربما كان الشعر الحديث أسبق في تناول الشخصيات التراثية واتخاذها موضوعاً للأعمال المسرحية الشعرية، والمطولات، وكذلك تضمينها في ثنايا النصوص رموزاً وعلامات وشخصيات فاعلة في خلق الدلالة. ويضيف الشعراء العائدون إلى التراث بقوة أمراً آخر ليس على لائحة الساردين روائيين وقصاصين ومسرحيين وكاتبي سِير. وهو الاهتمام بشخصيات الشعراء القدامى، وإخضاع حيواتهم وأشعارهم لإعادة قراءة عميقة، لتكون موضوعات لأعمال منفردة خاصة بهم، أو اقتباساً من أشعارهم وحيواتهم وسيرهم الثقافية ومواقفهم. وذلك ما لا يمكن للروائي أن يفعله، لأن السرد القديم لا يترك إشارات واضحة لمؤلفين وساردين بعينهم. فلا أعمال لافتة عن ساردي المقامات والمجالس والقص القديم.. رغم أن الرواية تفوقت في تقديم نماذج من رواية الشخصيات والجماعات والوقائع والتحولات ذات الأثر في التاريخ الثقافي والفكري.
بدأت محاضرتي مبرراً العودة إلى عصور الأدب العربي الذهبية في تلك القرون مستشهداً بقول المعري:
كم أَردْنا ذاك الزمان بمدحٍ فشُغلنا بذمِّ هذا الزمانِ
بيت يلخص الموقف من عصور أدبية وثقافية وحضارية زاهرة، شهدتها الأرض العربية الممتدة مثل جرح مفتوح عطِشٍ بين خضرة وماء، وحضارات ونبوات وتراث.
إن كلمات أبي العلاء تجسّد مفارقةً كبيرة بين (ذاك) التي تشير للبعيد مكاناً، و(هذا) التي تشير للقريب، لكنّ سياق البيت يحتوي البعد الزمني. لأن الدلالة في (ذاك) و(هذا) ليست منحصرة في المكان والإشارة إليه. فقد انزاح المحتوى من المكان إلى الزمان أو العصر. وهي مفارقة أتخيلها وأتمثلها في صورة بيت مقفر مهجور مطفَأ الأنوار، وعلى جداره صورة قديمة للبيت نفسه، بهيّاً غارقاً في الضوء وإشعاعه الباهر.
وهذا الإحساس سوف يجعل الأديب العربي اليوم يكثف مصاحبته للتراث والماضي زمنياً بشكل حماسي، ويصبح أحياناً منقِّباً، يتوغل في النصوص بحثاً عن ذلك الضياء الذي غادر أفياء البيت العربي القائم، ويجول في ردهاته وزواياه بعد أن عمّ الظلام المشهد كله.
سيكون مقبولاً تمجيد الماضي الذي لا نقبله كصفقة واحدة، بل نجد ذواتنا في ثنايا إبداعات، ربما لم تكن تحت ضوء القراءة المدرسية، أو المتعصبة للماضي، أو الباحثة عن أفكار وإيديولوجيات بعينها.
وإذ أتفحص ما توفر لديّ من أسباب لإشعاع ذلك الموروث، بحثتُ عن ظواهر تحكمت في سياق النتاج الروحي كله. تعضّدها حضارات وثقافات متنوعة، ومنجزات عمرانية وعلمية وفكرية وأدبية فذة، وحريات تتيح لكل فكر ومعتقد أن يرسل خطابه ونصوصه وجدله، ما جعل تلك الظواهر إشارات لما يمكن أن يرتفع بالحياة الثقافية إلى حالة فريدة، انتشلت الكتابة والثقافة والحياة كلها من الضحالة والمماثلة والتبعية والضعف.
وقد سميت للحاضرين بعض تلك الظواهر التي دعتني للتنويه بهذه العصور التي امتدت عدة قرون، وتزامنت مع سيادة وطنية على الأرض، ورفض للجور والاستعباد من الأجنبي، وهوية منفتحة تؤكد الذات، وتحفل بالمثاقفة والتنوع. ومنها:
– الحرية: متجسدة في ما كتبه المتصوفة والفلاسفة العقلانيون كالمعتزلة، وأشعار المعري الجريئة في التساؤل والمعرفة، في لزومياته ونثره. ونصوص شعراء الغزل الصريح بأنواعه/ وتعدد الأغراض؛ كالوصف الباهر والشكوى والحكمة. وفي شيوع كتب الجنس العربية التي لن تقبلها الرقابة اليوم وتعدّها من التابوهات! وفي نوادر المجالس والحكايات، وبعضها صادم لم يأنف الجاحظ وهو معتزلي في إيراد كثير منها. وكذلك قصص العشق والحب التي ذكر بعضها رولان بارت في كتابه «شذرات من خطاب عاشق»، وضمّن بعضها لويس أراغون في «عيون إلزا» و«مجنون إلزاّ» وكذلك الحكايات التي زخرت بها ألف ليلة وليلة..
– الانفتاح على الآخر: وقد تم ذلك دون عُقد أو تحديات. وقد حفلت مناهج البحث والنقد الأدبي والبلاغة بملامح من علم المنطق والفلسفة اليونانية. وقد جرى ذلك بثلاث كيفيات:
1- الترجمة العربية المبكرة للمنطق والفلسفة والأدب والتراث الشعبي، مثل ما ورد في «كليلة ودمنة» وكتب الغرائب والعجائب والرحلات. وترجمة كتب الفلسفة خاصة. ولمتّى مثلا مجموع ترجم فيه كتب أرسطو في المنطق وفن الشعر. وكتبوا على منوال الفكر الفلسفي كتباً مثل «آراء المدينة الفاضلة» للفارابي تمثلاً لمدينة أفلاطون الفاضلة.
ونوهتُ في المحاضرة بما قام به مترجمو أرسطو للعربية: مثل ترجمة كتابه «فن الشعر»، فلخَّصوه وفسّروه، واجتهدوا في إيجاد ما أمكن من بدائل اصطلاحية لما فيه من تعريفات ومصطلحات، وإن جانبَ بعضها ما جاء في المتن الأرسطي.
2- إسهام الشعوب الأخرى في النتاج الروحي.. من غير العرب وغير المسلمين من نحاة وبلاغيين ومفسرين ومؤرخين ومترجمين وكتّابٍ وشعراء. وهي ميزة فسيفسائية نادرة، تؤيد ما ذهب إليه ابن خلدون حول التحضر، وأنه لايتم إلا بالاختلاط، والخروج من البداوة الضيقة.
3- أثر الثقافة العربية في الغرب، وفق مبدأ المثاقفة. وأمثلة ذلك ليست في العلم فقط؛ كالجبر والجغرافية والفلسفة فحسب، بل في الفنون والثقافة أيضاً.
– وحدة الفنون: والعبور النوعي، كما في نصوص الغناء حيث الشعر واللحن، وفي الموسيقى التي تصاحب حلقات القراءة الشفوية للشعر. وفي الايقاع الشعري المأخوذ من ترددات الصوت وموسيقاه، والموشح الذي يستند إلى الموسيقى والتلحين الخاص، لكنه ذو بنية شعرية مخصوصة تساعد لغتها وإيقاعها على التلحين. وفي الرسم: مثلتُ برسوم يحيى الواسطي لمقامات الحريري مؤاخياً المكتوب والمبصَر، والمنمنمات والزخارف التي تزين بها دور العبادة والمراقد والقصور. وفي الخط، وامتداده إلى ما يعرف بالحروفية. ونقل الحرف العربي من الوظيفتين اللغوية والتزيينية، ليكون ذا معطى تشكيلي بصري حتى في الرسم الحديث.
وفي طراز العمارة في العصر العباسي المتطور بخليط من روح الشرق العربي وما يجاوره من الأمم والشعوب. وابتكارات مهندسيها، كالزقورات والملويّات والبناء المتدرج، والحفر والرقش والزخرفة.
وفي التأليف الموسوعي، كالأغاني والعِقد الفريد، وتراجم الأشخاص والأعلام، ومعاجم اللغة، وكتب التفسير والحديث والفقه – والمختارات بأنواعها، والتي لا يعتني بها المعاصرون إلا نادراً.
وشروح الكتب والدواوين، والرد عليها، وكتب الأعلام والطبقات والفهارس والتاريخ الأدبي، وعلم الاجتماع والفلسفة، والفكر الجغرافي والقصص والنثر الفني، والرسائل الخيالية والرحلات.
تلك بضعة شواخص وشواهد، تكفي وسواها، لتعليل العودة إلى ذلك المحفل الثقافي المتعدد الأنواع والأساليب، في رسائل يحفزنا وجهها الثاني على تأمل فراغ الحاضر وبؤسه…