
استذكار رائد منسي.. شاذل طاقة أحد رواد التجديد في الشعر العربي
يحتل مثلث ريادة التجديد في الشعر العراقي (السياب- نازك- البياتي)، مساحة كبيرة في الذاكرة والتاريخ الأدبي. ولكن شاعراً رابعاً يغفل اسمه غالباً، برغم أن له إسهاماً في الفترة ذاتها، التي بدأت بها رياح التجديد تأخذ أهميتها في الكتابة الشعرية.. ذلك هو شاذل طاقة (1929-1974م)، الذي كتب في نهاية الأربعينيات العديد من القصائد، التي تتخذ التفعيلة وسيلة للكتابة. وأصدر عام (1950م) ديوانه الأول (المساء الأخير)، متضمناً عدداً من القصائد (الحرة)، بحسب المصطلح الذي تبنَّته نازك الملائكة، وشاع برغم اعتراضات كثير من المترجمين والنقاد.
والسؤال المعتاد في حالة شاذل طاقة، هو السؤال عن سبب إغفال دوره، أو تناسيه في سجل الريادة التاريخية في الأقل، إن لم تكن بعض قصائده لا تروق للنقاد لتواضعها في بداياته، ومحاولته تقليد أشعار زملائه الرواد في الموضوعات والأسلوب.
يذهب مؤرخو الشعر الحديث ودارسوه، إلى تفسير غياب شاذل طاقة عن لائحة الرواد بانشغاله في الأمور العامة، وعدم تفرغه أو انصرافه للكتابة، استناداً إلى المناصب التي عمل فيها، واستلزم أغلبها، كالعمل الدبلوماسي أو الإداري، أن يكون في منأى عن التواصل الفني مع تجارب زملائه الرواد. ولعل هذا التفسير أكثر قبولاً إذا ما احتكمنا إلى تفوهات الشاعر نفسه، فقد كتب غير مرة وصرّح بأن العمل الوظيفي ومهامه الإدارية شغلته عن الكتابة، وعطلت استمراريته الشعرية.
إن مقدمته القصيرة لديوانه (المساء الأخير) موثقة بتاريخ (20/7/1950م)، والموصل محل ولادته ونشأته كمكان لكتابة تلك المقدمة، ونلاحظ أن (نازك) كتبت مقدمة (شظايا ورماد) عام (1949م)، وكتب السياب عام (1950م) مقدمة قصيرة لديوانه (أساطير)، فجاء تقديم شاذل طاقة لديوانه في سياق تلك التوضيحات، والمنافحة عن الجديد وإثبات أصالته وجدّته.
وإذ نطالع مقدمته لديوانه، نعثر على ثيمات مشتركة بينه وبين السياب أكثر منها تشاكلاً مع مقدمة نازك.. فقد عُني الشاعران بالدفاع العام عن الشكل التفعيلي الجديد، وبحثا صلة الشاعر بالمجتمع، وصلة (الشعر الحر) بالتراث الشعري العربي. فيما كانت نازك أكثر حماسة في خطابها، مستخدمة الحِجاج وإعلان الثورة بشكل حاد ومباشر، وبجرأة تحسب لها في التغيير الأسلوبي والجمالي.
يتوجه شاذل طاقة في مقدمة ديوانه الأول إلى القارئ.. ويكتب باندفاع الشباب، فقد كان عمره حينها واحداً وعشرين عاماً، فيكتب مخاطباً القارئ بالقول: (لم أدفع بالديوان إلى واحد من أساتيذ الأدب ليقدمه إليك، لأني أعتقد أن خير من يقدم الشعر إلى القارئ، إنما هو صاحبه، فإنه أعرف به من غيره…).
وبذلك يتجاوز الوصاية والاعتماد على كبار الكتاب أو الشعراء ليقدموا شعره، فهو يعدّ الشعر لصيقاً بذاته، ومعرفته به تفوق أية معرفة، ولذا زهد بتقديم أحد سواه للديوان. كما يتوقف عند ضمور الاهتمام بالشعر، نظراً لطبيعة العصر والوقت (العصيب) كما يصفه، ربما في إشارة إلى الاضطراب الذي ساد العالم بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية وتداعياتها على العالم. لكنه يستدرك منوهاً بأن الشعر مازال له مكانته و(خطره). كما أن للشاعر مكانته في إرشاد الناس وتقويم طباعهم وأذواقهم.. فهو يعتقد إذاً بأن تلك المهمة الجمالية للشعر، أهم من أن يكون الشاعر بوقاً من أبواق (الإصلاح الاجتماعي)، أو يخدم المجتمع بطريقة الصحافة السياسية المباشرة، وهو المحذور الذي ردده السياب ونازك في مقدمتيهما، اعتقاداً بأن صلة الشاعر بالمجتمع وقضاياه لا تتم بطريقة الارتباط الآلي، والتعبير المباشر الذي يسلب الشعر فنيته وجمالياته.
ويبدو أن شاذل طاقة كان يميل إلى مناوأة النثرية المباشرة، متخذاً مثاله من الصحافة، وأسلوب عرضها للمشكلات بشكل تقريري خالٍ من الصور الفنية والعواطف والمشاعر. بل يمتد رفضه إلى نوعية قراءة متلقيه، فيطلب من القارئ ألا يقرأ أشعاره (كما يقرأ الجريدة).. إنه يدعو القارئ لتلمس الأحاسيس والمشاعر (وما في الحياة من شجن وحزن). ونلمح هنا تأثير شعراء المهجر في الفكر الشعري للرواد، فقد ركزوا على الذات الشاعرة منطلَقاً لمعالجة مضامين الشعر، حتى الوطنية منها، كما اعتنوا بالصور والألفاظ التي يتخذونها بعناية للتأثير الوجداني والعاطفي، وفي تأكيد جماليات الشعر وفرادته في التعبير.
وتستمر مشاكسة الشاعر للثوابت عن طريق رفض المباشرة والتلقي النسقي للنصوص الشعرية، ثم ينوه بالأسلوب الذي كتب فيه عدداً من قصائد الديوان، التي وضعها بجانب قصائد العمود التقليدية، فيخبر القارئ أنه سيجد في تلك القصائد (ضرباً جديداً قد تراه غريباً عن عمود الشعر، الذي تغنى به نقادنا القدماء، ومازال بعض الناس يتغنون به حتى هذه الساعة). ويبسط للقارئ باختصار طريقة الشعر الجديد في الإيقاع الوزني المختلف، الذي يجرّبه في قصائده، مشيراً إلى أبرز عنصرين إيقاعيين وهما: القافية التي يصفها بأنها (تأتي على نسق منطلق لا يتقيد بقافية موحدة، ولا يلتزم عدداً معيناً من تفعيلات البحور..)، ولكي يطمئن القارئ الذي ربما يصدمه هذا التجريب في الكتابة الشعرية، يخبره أن لهذا الشعر الجديد جذوراً (ممتدة في الشعر الأندلسي، وكان شعراء الأندلس موحين به إلى شعراء المهجر).
تتجلى في قراءة المقدمة التي تأتي في سياق الريادة التاريخية للتجديد، أن ثمة هاجساً يتحكم في توجهات الشعراء الرواد، وشاذل طاقة منهم. ويتمثل في التركيز على العاطفة والشعور، ومخالفة الأسلوب النثري، المتسم بالمباشرة والبرودة والتقريرية في الصوغ وتقديم المضامين للقارئ.
ولعل الناقد المتحري لفكرة التجديد في الشعر العربي، سينتظر تطبيق هذه الأفكار التي كتبها شاذل طاقة في مقدمته، وإبرازها في النصوص، وفي الحق إن الشاعر اجتهد في انطلاق تجربته أن يوغل في التجديد وتنويع تجربته، واستمرار التجريب الذي تحدث عنه، لكنه قدم شأن الشعراء في بواكيرهم بداياتٍ، سيكون لها لاحقاً من المستوى الفني ما يضعها في برنامج التجديد والفاعلية الحيوية لحركة الشعر وتطوره.
في ديوانه (المساء الأخير)، وبعد تلك المقدمة ذات الدلالة برغم قصرها، بدا مهتماً بموضوع الرحيل من جهة، وقصائد الحب الرومانسية من جهة أخرى. ويرصد النقاد تأثره بالسياب والبياتي خاصة، ومشاركته لهم في زوايا النظر والإيقاعية الغنائية، لكنه على مستوى التجريب، تُحسب له محاولته في الكتابة على البحور المركبة أو الممزوجة، كالخفيف:
(سوف أنسى فلا تعيدي عليا/ ذكرياتي/ ودّعيني وأنت بين يديا)..
ويشير الدكتور (مالك المطلبي) إلى تجريب آخر لدى شاذل طاقة، في دواوين لاحقة على مستوى البنية الإيقاعية، حيث يمزج في قصيدة واحدة تفعيلات أكثر من بحر، كما في قصيدته (انتصار أيوب)، مستخدماً تفعيلة بحر الرمل والمتدارك:
(ظل أيوب المدمى يمنّي/ نفسه والموت يستل نبضه/ والسماء الحزينة تزرع أرضه/ مطراً يغسل النهر، يبكي.. يغني).
وتنطوي قصائده على موضوعة الموت التي يتناولها شعرياً كما فعل زملاؤه، بتجسيد ذلك الحدث أو واقعة الغياب عبر صور ذاتية، ومخيلة حرة تستحضر بعض ما يمكن أن يغدو مؤثراً شعورياً لدى متلقيه، فيكتب مثلاً في (المقبرة الخرساء) من ديوانه الأول، قصيدة يتصور فيها حاله بعد الموت، مخاطباً حبيبة مفترضة، فيمزج بين الألم والحب على طريقة الشعراء الرومانسيين:
(حين أقضي/ وإلى المقبرة الخرساء أمضي/ ويهل الترب فوق الرمس/ حفار القبور/ فاذكريني/ واسألي النجم الذي يسرق ومضي/ عن أحاديث الدهور)..
لقد كان لائقاً بتجربة شاذل طاقة، أن تأخذ مداها أسوة بزملائه الرواد، الذين صادف أنهم تخرجوا قبله في (دار المعلمين العالية) ببغداد، والتي شهدت بدايات هؤلاء الشعراء المجددين وسواهم، لولا أن حياته القصيرة استغرقت سنواته في العمل والانشغال عن الكتابة.
وقد شارك زملاءه الرواد في سمات أسلوبية تتبين من معاينة إكثاره من العتبات والموجهات، التي يمهد بها لدواوينه أو لقصائده.