
يأخذنا سؤال الصلة بين الفلسفة والرواية إلى تساؤلات فرعية لها أهميتها في مناقشة الجوانب الفنية والمضمونية لهذا النوع السردي النادر. وتقودنا أولاً إلى ما وقرَ في الخطاب النقدي من أن الفكر في الأدب، والشعر خاصة، مدعاة لجفافه ونثريته وإضعاف فنيته ولوازمه الجمالية.
ويُستدل على ذلك بأمرين:
الأول: ما كتب المتفلسفون والمفكرون من شعر يتسم ببرودته، وغياب اشتراطات كثيرة في ما يفترض فيه. بل لم يحتمل فعل القراءة حتى ما كتبه النقاد من شعر تمت قراءته بكونه يصدر عن منظّرين، يحضر في شعرهم الفكر والنظم، وتقل مؤثرات التقبل المعتادة من صور ولغة وإيقاع وبلاغة واجبة.
والثاني: ما كتب الشعراء من تأملات في الفلسفة والفكر والتبصر عبر الحِكم، أو التأملات، وحالات التصوف. وهي لا تدخل في حقل التفلسف، وإن وُصفت بعض التجارب كشعر المعرّي، بأنها فلسفية. فهو ليس فيلسوف الشعراء كما اختزلت العباراتُ الشائعةُ تجربتِه المهمة والمؤثرة وجرأة ما ذهب في تأملات لا تقدم فكراً متكاملاً أو نظريات تقترب من الفلسفة، وإن كانت في أغلبها تصدر عن موقع المتفلسف الذي يتخذ الأفكار في مضامين أشعاره ونثره وسيلةً لبسطِ ما خالفَ به مجتمعَه والمهيمناتِ العقليةَ والرسمية فيه. وكذلك يمكن وصف حِكَم المتنبي بأنها خلاصات تجارب واستشراف لرؤى يحتّمها عمق النظرات والتأملات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
أما الشعر الصوفي فقد انغلق على قاموس خاص ورمزية محددة تفلت من رقابة العقل المفكر، لتتخذ الغزل أحياناً معادلاً للمواجد، والأشواق للاتحاد والتماهي بالذات المعشوقة، والتفكر في الوجود، وموقع المتأمل في فضائه، أو الانغلاق في القاموس الصوفي لتوصيل الأفكار عبر مفرداته ومعانيه. وهكذا ظل، ما أكده حازم القرطاجني وعداً لم يتحقق، حين قال: «أعلمْ أن خير الشعر ما صدر عن فكر ولع بالفن» حيث أن نظريته في المعاني تتلخص في التعويل عما في الأذهان التي تتحصل في الأذهان عن الأمور الموجودة في الأعيان.
سيلزمنا كثير من الوقت ليظهر ما في شعر الحداثة من ترميز وتناول رمزي أو أسطوري لتكريس الرؤى والأفكار المتسمة بالرفض والتجاوز، والتخفي في الأقنعة المستعارة من التراث الروحي، لإبقاء التوازن بين الفن المطلوب والمعنى المراد توصيله.
سيكون للنثر إذن فرصة التفوق في هذا المجال. فانفتحت فنونه لتستوعب الفلسفة في صور متعددة، تقترب أو تبتعد بحسب قدرة الكاتب من المقولات التي تركتها الفلسفة الحديثة وتياراتها المؤثرة، لاسيما الوجودية والماركسية. وانعكست في عدد من الروايات العربية، تأثراً بما تمت ترجمته للعربية من أعمال تتخذ من قضايا الفلسفة موضوعاً لها، وتقتسم مشكلاته ومقولاته ونزاعاته شخصيات الأعمال وتفوهاتها وأحداث السرد ووقائعه. ولا تعز الأمثلة لبيان أثر المترجمات في هذا المجال، كروايات كامو وكافكا ومارسيل بروست وهرمان هسّه وسارتر وسيمون دي بوفوار وغوركي وجورجي أمادو وهمنغواي وأستورياس وكازانتزاكي وسواهم.
وقد تمثَّل الجيل الثاني من الروائيين العرب تلك الأفكارَ الفلسفية، وحاولوا تجسيدها سردياً. لكنها ظلت تتابع الشعرَ في تناولها العاطفي، والسطحي غالباً للقضايا الفلسفية التي لا يتم التعمق في استيعاب ثم تمثيل أفكارها وتجسيدها سردياً.
سيظهر سيل من الروايات الواقعية والمتأثرة بالوجودية دون التميز بتناول مؤثر لتلك الأفكار والرؤى التي كان لها صداها عالمياً.
ولعل من مفارقات ثقافتنا العربية وآدابها، أن المشغلات الفلسفية التراثية والنصوص السردية الفلسفية، لم تجد لها صدى واضحاً، وامتداداتٍ تسمح بتصنيف (الرواية الفلسفية) نوعا من أنواع الكتابة السردية المعاصرة.
إن عملاً مثل «حي بن يقظان» الذي تناوبَ على صياغته أربعة من أعلام الفلاسفة العرب، يحضر نموذجاً للقصد من التأليف الفلسفي.
إن ابن سينا والسهروردي وابن طفيل وابن النفيس اجتهدوا في صياغة رمزية لخلق الإنسان، وأسئلته عن ماهيته وسيرورته وعلاقته بما حوله، اكتشافاً وتعرفاً دون سابقِ علم.
حي بن يقظان هو الإنسان في مواجهة أسئلة الوجود والمصير. إنه صفحة بيضاء لم يتلق إجاباتٍ مسبقة ليسير بهديها، بصدد تفسير وجوده، ومعنى ذلك الوجود ومغزى نهاياته، ومصائر موجوداته، والكون وحركته ومحركه. لا تعاليم لدى حي الذي قذفت به الأمواج في تلك الجزيرة، وحيداً بين الحيوانات في الغاب. لكنه يسير على وفق درَبة وحدْسٍ مصدرهما ذاته والبيئة والغزالة التي تعهدته بايولوجياً لتلبية حاجاته الإنسانية. إنه ينمو جثمانياً، أما وعيه فهو مسؤوليته. وسيكون موت الغزالة أكثر الأسئلة تعذيباً له. فما السر في سكونها الأبدي هذا؟ إن جسدها قائم كما هو. فيه من الأعضاء والبِنية ما يدعوه للتساؤل عما جرى من تحوّل. وستقوده مدارج فكره وتبصُّره إلى حقائق كثيرة، يغرق بها عقله المتكوّن جديداً، كما تغرق الرواية في الخطاب الفلسفي، فيضيع وسطها في تفصيل مسهَب لوعي حي بن يقظان وتعرُّفه على الأشياء بالتحسس المادي والروحي معاً، وبمساعدة إيسال الهارب للجزيرة ذاتها تفرغاً للتأمل والتفكير في الكون والوجود، صل إلى حقيقة أرادها الفلاسفة إشارة ليقين تام بأن العقل هو مرشد الإنسان للعثور على الحقيقة، وتوصُّله هذا لا يتم بالتبعية والتلقين، بل بجهده الفكري الخالص.
بين الفلسفة كتجريد، والسرد كتجسيد، تكمن الثنائية المحرِجة للرواية الفلسفية وإمكان وجودها نوعاً مستقلاً تماماً، كما واجهت التفلسف في الشعر. ووجود الفلسفة في الأدب له تميُّز يسجّله النقاد كجيمس رايرسون القائل في مقاله (الرواية الفلسفية) بترجمة لطفية الدليمي: «عندما نقرأ عن معضلة فلسفية في سياق نص أدبي، فنحن لا نسعى إلى مجرّد فهم المعضلة وحسب، بل إلى الشعور بها في المقام الأول». وهو هنا يشخّص موقع التلقي في الكتابة الفلسفية السردية، فإذا كانت الفلسفة بمقولاتها وقواعدها تنحو إلى غرز (المفاهيم) لدى المتلقي، فإن السرد الروائي الفلسفي يبتغي خلق (الشعور) بتلك المعضلات وأسئلتها. وهذا أبرز تعارضات الفلسفي والسردي وهما يقومان بوظيفتيهما في النص الروائي. والموازنة بينهما صعبة من دون شك، لكنها ليست مستحيلة إذا تمكن الكاتب من استهداف الشعور، وليس تتَبّع المفاهيم المجردة.
إن التعريفات المدرسية للرواية الفلسفية تقر بأنها تغليب للأفكار على التحليل الفني. ولكن الرواية الفلسفية وفق هذا التبسيط تخسر من جهتين: فلا تقوم ببسط أو تعيين المفاهيم الفلسفية أو تكون مرجعاً لها، ولا تقدم تمثيلاً روائياً كافياً لتكوين عمل أو أثر سردي. فتخسر الفلسفة والفن الروائي معاً.
إن كثيراً من الأفكار التي تضمنتها المقالة هي تداعيات تركتها قراءة رواية عبدالفتاح كيليطو «والله إن هذه الحكاية لَحكايتي» 2021، التي تؤكد عتبتُها الافتتاحية المقتبسة من كافكا «ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو»، أثر كافكا في هذا النوع من الرواية المعرفية أو التأملية، والواقفة عند تخوم الفلسفي وتفاصيله وعناصره.
يمزج الكاتب عدة حبكات في عمل قصير واحد، كما تمتزج الأزمنة المستلَّة من الماضي والحاضر، وتتفاوت وقائعها وأحداثها وشخصياتها معقوليةً وغرائبيةً أيضاً.
فتؤكد أن مهارة كيليطو ومعارفه الثرية المراجع والتمثلات الواعية والدقيقة، جعلته يدرك أن الرواية الفلسفية والشعور بما فيها من محتوى وشكل عسيرة المنال في الكتابة الحديثة التي تنوء شخصياتها بأحمال وأثقال يومية، لا تعرفها كواهل أولئك المنشغلين بنقل مقولات الفكر الفلسفي مثل شخصيات «حي بن يقظان» وإميل أو في التربيةّ، فجاءت حكاية كيليطو معرفيةً بالمعنى الدقيق للمعرفة موضوعاً، ومن أجل ذلك تلاعب بالأزمنة؛ لأن الحدث، أو الأحداث بالأحرى مطلقةٌ مجردة وشخصياتها متفاوتة الأزمنة والأمكنة والمرجعيات: الجنّي الذي يبرر وجوده أن ما يقدمه كيليطو (حكاية)، للغريب والعجيب فيها موقع مهم، وحسن ميرو، وموريس، والحياة الدراسية في باريس، وحسن البصري القادم من ألف ليلة وليلة، والتوحيدي المسرودة بعض سيرته، وكتاب مثالب الوزيرين الذي يصيب مقتنيه بلعنة مميتة، شأن الكتاب المسموم الصفحات في ألف ليلة وليلة، أو كتاب الرمل في عمل بورخيس، ونورا التي تبدأ الرواية بفعلها الفانتازي، تطير هاربة بثوب الريش.
وذلك كله مضمّن بما يثير الشعور بالفكر والمعرفة. ولكن قد لا يشجع على إقحام المتلقي نفسه في مصائر العمل وشخصياته.
ويظل الأمل بكتابة رواية فلسفية لا تفرط بأفكارها أو جماليات سردها، مهمة لا تلوح في أفق الكتابة اليوم، رغم ما تصدت له الرواية العربية من سير المتصوفة والفلاسفة والمفكرين، ولكن ظلت الموازنة مفتقدة وربما غائبة عن الأذهان.