إيكاروس محدقاً في شمس القصيدة-دراسة الدكتور سعد التميمي عن الكتاب-مجلة الفيصل

  • من صفحة الدكتور سعد التميمي:
مقالتنا «إيكاروس محدقاً في شمس القصيدة» للدكتور حاتم الصكر… تقصّي وعي قصيدة النثر بذاتها (سعد التميمي).في العدد الجديد من مجلة الفيصل السعودية .
وفيما يأتي نص المقالة:

تقصي وعي قصيدة النثر بذاتها

قراءة في كتاب إيكاروس محدقًا في شمس القصيدة للناقد حاتم الصكر

أ.د.سعد التميمي

كرس الناقد د.حاتم الصكر الذي اختار الحداثة منهجا في شعره ونقده جانبًا كبيرًا من جهوده النقدية في التنظير والاجراء لقصيدة النثر، التي يعدها الشكل المناسب للعصر لتخلصها من القيود وقدرتها الكبيرة في استيعاب الموضوعات المختلفة والتعبير عنها بطريقة مؤثرة، وقد أثمرت هذه الجهود بثلاثة كتب تمثلت بكتاب “حلم الفراشة” تناول فيه الإيقاع والخصائص النصية في قصيدة النثر،ثم كتاب”قصيدة النثر في اليمن” تناول فيه المفهوم والخصائص والجوهر، ومختارات لشعراء من اليمن، ثم كتاب”الثمرة المحرمة” تناول فيه القضايا الفنية والجمالية والبنائية لقصيدة النثر التي ترتبط بقراءتها وتلقيها فضلا عن دراسة أكثر من أربعين شاعراً مثل سركون بولص ، وأمجد ناصر، وعباس بيضون، وسيف الرحبي، وطالب عبد العزيز، وعبده وازن، وخزعل الماجدي، وشوقي شفيق، وعبد الرزاق الربيعي، وعبد الزهرة زكي وغيرهم.
ويأتي كتاب د.حاتم الصكر الأخير الذي صدر عن الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق هذا العام(إيكاروس محدقًا في شمس القصيدة:الميتا شعري في نماذج من قصيدة النثر العراقية في 245 صفحة)،في إطار اهتمامه بقصيدة النثر ومتابعة تحولاتها واتجاهاتها، ففي هذا الكتاب الذي تابعته منذ أن كان فكرة ثم مشروعًا كبيرًا يقدم الصكر موضوعا جديدًا وهو “الميتا شعري في قصيدة النثر العراقية نزولا عند رغبة اتحاد الأدباء والقائمين على مهرجان المربد في دورته الـ(35)قبل ثلاثة أشهر على أن يتبعه فيما بعد قسم ثانٍ عن قصيدة النثر العربية ،ويقوم الكتاب على الكشف عن تقصي وعي القصيدة بذاتها ،عندما يقترب الشاعر من كنه القصيدة ويلج عالمها بدءًا من ولادتها فكرة في ذهنه مرورًا ببنائها وانتهاء بما تهدف اليه، وهذا تطلب استقراء وتتبع قصيدة النثر العراقية التي تتناول في موضوعاتها موضوع قصيدة النثر كفكرة أو بناء أو هاجس فالقصائد التي وقفت عندها بلغت أكثر من خمسين قصيدة لثلاثة واربعين شاعر وشاعرة من بينهم سركون بولص وصلاح فايق وفاضل العزازي زعبد القادر الجنابي وخزعل الماجدي وعدنان الصائغ وجواد الحطاب وعبد الرزاق الربيعي وايهاب شغيدل وفليحة حسن ودنيا ميخائيل وغيرهم،إذ يرى الصكر”أن استخدام القصيدة للحديث عن نفسها يحفز الشاعر على معاينة المشكلات والقناعات في أثناء الكتابة ذاتها،وهذا هو جوهر الميتا في القصيدة ،أي البناء على بنيتها والتوغل في كنهها ، وصلة الشاعر بها في حال الخلق والتكون،فيغدو الاقتراب منها أكثر صدقاً وحميمية ؛لأنه يتم أثناء معاناة كتابتها”( الكتاب:ص13)،ويختلف هذا الموضوع عن الدراسات السابقة كانت تقف عند مفهوم الشعر في القصيدة ،لكن الصكر تناول موضوع القصيدة في القصيدة(ميتا قصيدة) لذلك فهو يفرق بين الشعر الذي تعرضت له القصائد التقليدية والمعاصرة بما يشتمل عليه مفهومه من ضوابط واشتراطات كالوزن والقافية ،وبين القصيدة التي تتبنى النص بلوازمه المتحررة من القيود المسبقة، وتخوض في راهنها وما تشتمل عليه من اقتراحات ورؤى تتماهى في الحداثة الشعرية ،وتتوزع في موضوعات لم تتطرق اليها الشعرية العربية التقليدية، وبأشكال متنوعة لا تخضع للقوالب الجامدة.
وكعادته في اختيار العنوان والمنهج في طرح موضوعاته وأفكاره وأسلوبه في التحليل الذي يتصف الأدبي،يستعير الصكر أسطوره ايكاروس الذي لم يسمع نصيحة وصايا ديدالوس وتحذيره من الاقتراب من الشمس ،عندماحلق بجناحين من ريش وشمع فقادته رغبته بالحرية المطلقة والمعرفة نحو الشمس ليذوب الشمع ويسقط في البحر ويموت، ويتخذ الصكر من الرحلة الايكاروسية صورة لمواجهة الشاعر جوهر القصيدة المكتفية بذاتها وكنهها وكيانها المشع التي ينتج عنها ابتعاد ذات الشاعر عن القصيدة ، وكأن الشاعر قد هوى وسقط لشدة اقترابه من القصيدة التي تقابل الشمس في الأسطورة ،لتحضر ذات القصيدة التي تنوب عنه بقوة وفاعلية وتقدم رؤيته بطريقتها الخاصة، فالصكر يصور تناول الشاعر لموضوع القصيدة بأسطورة إيكاروس بوصفها مغامرة تتمثل في كتابة القصيدة لنفسها وتثير حوارًا داخليًا يطرح أسئلة في تشكلها وبنائها رغبة في التواصل مع متلقيها والهدف من وراء ذلك المعرفة بكنه القصيدة وعالمها .
ويفرق الصكر بين توظيف الشعر بمفهومه العام في القصيدة وبين توظيف القصيدة في القصيدة النثر، فالأول يمثل هوية جنس أدبي يعرف بخصائصه بشكل عام والثاني نص له خصائصه، وهو يمتلك حرية كبيرة جعلته يتمرد على الشعر في مفهومه التقليدي فقصيدة النثر اختارت تحديثًا جذريًا لا يقتصر على الشكل، أو اللغة، بل تختار ما يناسب تقنياتها وقصديتها، وهي مشروع يقوم على التجريب، لذلك فهي منفتحة على مقترحات متعددة وتختلف من نص الى آخر، وبحسب ما يطرحه الصكر في موضوع الميتا قصيدة النثر ،فإنه يبوب تحليله لهذه الطاهرة في أربعة محاور :تناول في الأول تعريف القصيدة وماهيتها متوقفًا عند قصائد لعدة شعراء توزعت معالجتهم بين الاشارة والتأمل والعميق في عالم القصيدة كما هو الحال في قصيدة الشاعر صلاح فائق التي اختار مقطعا منها في مستهل الكتاب يقول فيه:
أريد الوصول إلى قصيدة داخل القصيدة
التي أكتبها الآن
سأنتظر مثل صياد قديم…..
لأستدرجها إلى أرضي
أكتشف الطريق إليها
فالشاعر يستحضر القصيدة شكلًا ومضمونًا ويتأملها مما يعكس وعيه بما يكتبه ثم ينتظر ولادتها ليراها في محيطه ،ولما كانت الأسئلة تدور في الذهن لمن يكتب الشاعر أو قصديته في قصيدته أو علاقة القصيدة به فإن الصكر في المحور الثاني مقام التلقي يحلل قصائد لعدة شعراء منهم سركون بولص الذي يعده من أكثر الشعراء العراقيين تعويلًا على استيعاب قصيدة النثر لحركية اللحظة الشعرية وحرية الاسترسال الصوري والسردي ،أما في المحورالثالث فيقف عند فضاء الكتابة ويوضح كيف تتسع القصيدة الميتاشعرية لموقف الكتابة والإجابة عن أسئلتها المقلقة ،ما نكتب؟ولمن نكتب؟ وكيف نكتب؟ إنها أسئلة تعترض الوعي بالكتابة تدفع الشاعر للتأمل ثم التساؤل عن جدوى الكتابة وكيفية فهمها ؟ لتأتي إجابات متعدد تعكس رؤى وقناعات متعددة ،لتبقى الكتابة لغزاً لمقاربتها ما هو وجودي ومصيري في موقف الإنسان من العالم ، أما في المحور الرابع فيستعرض الصكر التعاليم والوصايا إذ يرى أن الشاعر يتخذ من الموقف الإيكاروسي أسلوبا ليقدم شروطًا لكتابة القصيدة دون تواضع فحضور القصيدة أقرب الى المقدس ليتخذ الشاعر صوت المعلم والناصح للآخرين .
في الأخير إن ما قدمه الصكر في هذا الكتاب لم يكن مختارات شعرية، برهن من خلالها على التصور النظري للميتاشعري في قصيدة النثر بل دراسة إجرائية لموضوع جديد تطلبت الاستقراء والتحليل، وأن هذا الدراسة ستفتح الباب لمزيد من الدراسات في الموضوع، وتقدم مقترحات لتشخيص ما في الشعرية العربية ذاتها من تجدد وزوايا نظر حديثة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*