سفينة النخبة-مساهمتي في كتاب (أجراس الوباء).

 

سفينة النخبة
• مقالتي المكتوبة في 27/4/2020 ظهرت مؤخراً في كتاب (أجراس الوباء )الذي حرره واشرف عليه الشاعر نوري الجراح. ا لمقالة بعنوان (سفينة النخبة). وهي مناقشة وحوار مع مقدمة الجراح للكتاب والخطاطة المرسلة للمستكتَبين. صدر الكتاب عن دار المتوسط في إيطاليا منتصف عام 2020..وحيثياته تعود لتلك الفترة من الوباء الذي واصلَ من بعد حصْد مئات الآلاف من الأرواح وأوقف الأنشطة الإنسانية ، فلقد تضاعفت خمس مرات ٍ أعداد من أصابهم الوباء، وتضاعف مرات ٍ عدد ضحاياه.
1-
إذا كان أبناء نوح – كما يذكّرنا نوري الجراح في مقاله – قد فروّا إلى الجبال التي ظنوا أنها تعصمهم من الطوفان وذهبت السفينة بدونهم، فإن أبناء نوح اليوم أو أحفاده بالأحرى بحاجة لحلٍّ آخر غيرعزلة آبائهم في الجبال.فتلك العزلة لا تعني النجاة . إنها مؤجلة بانتظار سفينة أخرى قد تلوح في الأفق. ولكنها تدور حائرة في متاهة من مياه وفراغ ، كسفينة ماركيز في (الحب في زمن الكوليرا).هناك حيث لم يبقَ سوى اجترار الذكريات ولقاء الحبيبين بعد شيخوختهما ، ذلك اللقاء المعروف مصيره سلفاً .. فالعالم يعترف بعجزه عن حرب هذا العدو الخفي .
لقد سقط رهان المراهنين على تلك الديموقراطيات الغربية ومثالياتها ومنجزها المادي..نتذكر بشماتة كبيرة فرانسيس فوكوياما وحماسته للديمقراطيات الغربية – الأمريكية خاصة كونه مواطناً أمريكياً بالولادة، ينظر من بعيد لثقافة اليابان بلد ذويه، كبعدها الجغرافي ، فليس من حل في ثقافتها أو حاضرها.فهو في كتابه الجدلي (نهاية التاريخ ومصير الإنسان)1992 كان في ذروة حماسه للديمقراطية كحل لما في العالم من أزمات وماتنتظره من كوارث. في أطروحته عن نهاية التاريخ بقيام تلك النظم الرأسمالية الديمقراطية يراهن فوكوياما على أن (الأمة ستنتهي بكوارث مثل تشرنوبل وتجفيف بحر آرال،إذا ما ظلت بدون قيادة سياسية وطنية تكرس مواردها لحماية البيئة ،و بدون الحرية التي تحد من سلوك الشركات والمشروعات، و من تلوث اليبئة.وذلك ما تضمنه النظم السياسية الديمقراطية في اعتقاده).لم تكن ثمة جائحة كارثية حين كتب فوكوياما ما كتب. كانت ثمة( كوارث) بشرية صغرى ممثلة بالحروب التي تدبرها الدول الكبرى وأنظمتها الديمقراطية الليبرالية. أما و قد وقعت جائحة كورونا وإن كانت بدايتها في ( دكتاتورية ) الصين، فإن مصداقية رهانه على الديمقراطيات الغربية قد انهارت.فحين وصلها الوباء لم تجد ما تفعله رغم قول فوكوياما (إنها مجهزة أفضل تجهيز للتعامل مع العدد المتزايد من الحاجات التي نشأت نتيجة عملية التصنيع.)
وها قد وقعت الكوارث المحرجة والتعجيزية. فهل يعني ذلك أن تلك الديمقراطيات كانت هشة، أم أنها لا تملك ما أسنده إليها فوكوياما ليبرراعتبار قيامها (نهاية التاريخ)؟
2-
ينادي مقال نوري الجراح مناطق أخرى في الغرب المتكتل أنظمةً وفكراً وحضارة، فيفك عنه فكره ويلحقه بالشعوب المتضررة لا بالأنظمة والسياسات .وحسناً فعل.رغم أنه يبدأ سطر مقاله الأول متشككاً(هل أفلس الفكر، ولم يعد مفكّرو العصر وفلاسفته بقادرين على تجديد أطروحاتهم للإجابة عن أسئلة العصر، وتوليد أسئلة جديدة تجيب عن السؤال الكبير، وتوابعه من الأسئلة الناجمة عن وباء دهم الأرض وبات جائحة الجوائح؟) .نقرأ ذلك ونحن لم نبرح العنوان الجانبي المتسائل عن كيفية تفكير الفلاسفة وهم وراء القضبان.وهو تساؤل يحمل صيغة مخففة وتبريرية لغيابهم أواتصاف خطابهم بما وصفه الجرّاح في مقاله من حيرة، وضمنياً بالإستيهامات الفلسفية والخطابات الشعرية.
يعطينا خطابُ المقال التساؤلي الإنطباعَ بأنه غير متيقن.إنه يضج بالأسئلة الحارقة، والرعب غير المعلن بآسمه ولكن بمفردات الخطاب.إن كورونا (جائحة الجوائح) هي أم الجوائح إذاً .ولا ينتهي المقال إلا بسؤال أيضاً: (هل تكون هذه الجائحة فرصة لإعادة اكتشاف الذات في الآخر؟) . هكذا تأطرت المقالة بسؤالين في البدء والخاتمة، بعد سؤال أكبر إثارة تضمنه العنوان الفرعي(كيف يفكر الفلاسفة بينما البشرية وراء
القضبان؟) وهذا ترميز للحيرة التي اعترف الجراح أنها أصابت المفكرين.في الواقع إن الخاتمة فُتحت ولم تغلق. أنتجت أسئلة تتناسل من السؤال عن إمكان اكتشاف الذات في الآخر.وهو سؤال معرفي ينقل السجال إلى جهة أبعد.فكأن ما جرى من عجز فكري قد حصل بسبب غياب اكتشاف الذات مشروطة بأن تكون عبر الآخر .وفي هذا التباس كبير. فالآخر؟( أي آخر وما خصائصه؟) سيبحث أيضاً عن ذاته وآخرِه ، وسوف تتصادم الذوات في طريق البحث وتتقاطع . إنها غير مسلحة بما يكفي من الأدوات لمهمة الإكتشاف، فضلاً عن نقل هذا السؤال إلى النخبة التي تعيش صدمة كبرى لسقوط مقترح العولمة ، ليس لأن الإتحاد الأوربي يترنح أو أن الدول تنكفئ في حروب اقتصادية ومحاور واستقطابات وصراع ثقافات، بل لأن الكوكب الواحد مرتبك ومتشظٍ. يعجب الناس حين يسمعون عن حروب الكمامات وقرصنتها في البحر والمزايدة عليها والمضاربة بأسعارها، لتتحول من مكان محتاج إلى آخر.
لقد أضحت العزلة اليوم أضيق مما أتيح لأبناء نوح.هنك جبل أو جبال.وفضاء مفتوح.أما عزلة الجائحة فضيّقة تعيد ثنائية المكان الباشلاري وجمالياته المزعجة. فالبيت – المحجَر ضيّق نفسياً ومكانياً. يقابله غياب المتسع : العالَم الذي تراجع ليغدو منظَراً من النافذة أو مشهداً مصوراً أو مادة إلكترونية أو ذكرى.المحجر يلتهم صورة العالم .رمزياً يُلقى فيه الإنسان عرضةً لما يحمله الخوف والترقب من دلالات . وواقعياً تحيط به الجدران بتكرارها اليومي، والضخ الإعلامي الذي لا يهب بوادر نجاة.
3-
(ولكن هل يمكن لهذه الجائحة أن تغير عميقا وجذريا في سياسات الدول وبرامجها ومشروعاتها الكبرى؟) يتساءل الجراح.
والإجابة حاصلة على الأرض.السياسات الآن فيها تسامح قائم على النفاق.دول تخلصت من معضلاتها مع خصومها الخارجيين بوقف النار معهم. دول كثيرة تخلصت من نزيلي سجونها بالإفراج المشروط أو العفو.خصوم يناشدون بعضهم للعون، ويعرضون خدماتهم.لكن هذه ليست ملامح سياسات في طور التغيير. إنها طرق للبقاء .ظرفية وتسودها البراغماتية كفعل أخلاقي.
ولا أحسب أن بالإمكان (تغيير السياسات والبرامج والمشروعات) في الآن الراهن ولا في المدى المنظور ،لأن الأولويات تتراتب بحسب الظرف ،ولا يبدو في الأفق ما يسمح بشكل ما للتغيير . ولكن الجميع مقتنعون أن مابعد الجائحة لن يكون كما هو قبلها.ستولي الدول أهمية أكبر للبيئة والرعاية الصحية والصناعات الدوائية ،وتزيد تخصيصات البحوث والدراسات العلمية، بعكس ما جرى من إهمال لها وتقليص لمواردها.هي تغييرات في البنى الفوقية لا العميقة والممهدة لحوار حول توقعات المستقبل وأسئلة الوجود.
دول كبرى كأمريكا لاتعترف باتفاقيات البيئة ،وكالصين لا تلبي نداءات مكافحة الغازات المنبعثة من مصانعها.لا نظن أنها ستستجيب بيسر للمطلب الملحّ بتغيير المشروعات والبرامج ،بل حتى السباق التسلحي المحموم .
كفاح مطول ينتظر المتنادين للتجمع النخبوي أشبه بماراثون ..تتخلله العوائق.
4-
(خطابات المفكرين عبّرت عن شيء كثير من الحيرة المضمرة)
ذاك تشخيص صائب يفتح مناظرة مجدية مع( المفكر) الذي يحس الجرّاح أننا بحاجة لصوته. دون ان نعرف حدود المفكر ومزاياه المؤهلة ليعطي رأياً او بدائل للهيمنة المتوحشة للدول الكبرى.
وما تلك الحيرة المضمرة أو التي خرجت إلى العلن إلا دليل ضراوة الصدمة التي خلفتهاالجائحة.
مفكر مثل نعوم تشومسكي خرج بمقاله الشهير الذي أثار ردود أفعال كثيرة منها ماورد في مقال الجراح. شهادة مضادة. هكذا وصف الجرّاح مقالة تشومسكي مستعيداً مواقفه السياسية والفكرية من الإمبريالية ومظاهرها وتجلياتها . ولكن لم يشرإلى اختزال تشومسكي الجائحة بأنها( الأزمة المدمرة للحضارة الغربية)..وهو تشخيص صائب تماماً.وأكثر ما نخشاه هو أن الشعوب التي تعاني الجائحة معاشياً وحياتياً وصحياً بما ليس لديها من قوة ستصب غضبها لا على الأنظمة والسياسات الغربية الفاشلة تجاه الوباء ، بل بالتشكيك بالحضارة الغربية ذاتها.وهذا ليس في مصلحة الفكر ولا التغيير.فالغرب ليس الأنظمة والسياسات وحسب.
يتجاوزتشومسكي خوفه وهو بعقود عمره التسعة ولا يعلن هلعه الشخصي كونه ممن ينصحهم المختصون بالعزلة الأشد،بل ليجرد حساب الجائحة واستحقاقاتها ومسببيها وأسبابها غير الطبية .وذلك لا يرضى عنه الجرّاح وفريق من المفكرين الذين لايرون الوقت مناسباً للحساب.رغم أن مسلسل الأخطاء والسياسات الأنانية والإستغلالية مستمر. ماالحل إذاً؟ تأجيل المراجعة ونفيها مع أولاد نوح في جبالهم التي هربوا إليها؟
لقد أعلن تشومسكي في مقاله عن تشاؤمه من كارثة أكبر في حياتنا بعد كورونا. إنها غياب الديمقراطية .لأن الحكام صاروا يتصرفون كدكتاتوريين .يريدون لخطابهم الشعبوي أن يحل محل الحقائق.ويذكّرنا بالخطرين الماثليْن : الحرب النووية المحتملة والإحتباس الحراري، فضلاً عن الخيارات التي يتوقعها بعد الجائحة وكلها لا تشجع على التفاؤل.لكنه في قراءة كأنما يستبطن مقترح الجرّاح حول التجمع النخبوي العالمي من المفكرين، فيقول مشككاً (في الوقت الذي تزداد فيه المسافة الاجتماعية في إجراءات العزل المنزلي والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي بين ملايين البشر في البلد الواحد، أو بين مليارات الأشخاص عبر العالم، كيف يمكن الحديث عن خلق حركة اجتماعية نشطة لتواجه ما نعيشه اليوم أو ما هو مقبل وقريب جداً من تهديدات وجودية ؟) هذا التكوين الإجتماعي يصح اقتراحاً تحف به الإحتمالات ،وسط العزلة أو القضبان كما في عنوان مقال الجرّاح.ولكن اقتراح التجمع النخبوي عابر للعزلة رمزياً ومكانياً.فهو لقاء مفكرين. والفكر لاتحده العزلة أو القضبان.
إن الحلّ عند الجرّاح ليس في(مماحكة الإمبريالية عبر الفكر المعارض ، بل خلْق صيغ جديدة لتَواصُل ممكن، فكري أممي نخبوي يتحول لاحقاً إلى مرجعية فكرية وأخلاقية، توازي القوة الغاشمة اقتصادياً وعسكرياً.).مطلب لا أراه هيناً، فللإمبريالية سفنها التي تنتظر ، وليس لدى المفكرين والمعارضين سوى كلماتهم.
إذاً فالجرّاح يعود لما طلب منا نسيانه مؤقتاً ،وترتيب الأولويات ليكون اللقاء النخبوي مقترحاً ناجعاً.
الحل كما يراه الجرّاح ( ليس بخطابات شعرية أو استيهامات فلسفية) بل باتفاق نخبوي لمثقفي العالم .وهذه الدعوة ضرورية الآن وذات جدوى ، شرط ألا تتحول إلى تجمع مظهري أو رسمي تعبث به الأهواء والإنتماءات.فالخطر كبير والبشرية كلها على محك الإستجابة. والفكر في مقدمة مناطق المواجهة.
5-
مشاهد لاتغادر الذاكرة البشرية :
مرضى بالوباء تُنزع عنهم الأجهزة يأساً ليستخدمها مرضى اكثر أملاً.
التخلص من آلاف الدجاج بالذبح المبكر في مسلخ.
مُزارع في ولاية أمريكية يسكب الحليب في مزرعته بماكنة السقي ليتخلص من منتوجه من الحليب.
ملايين الورود تقدم علفاً للحيوان، أو يتم إتلافها لكساد سوقها.
لاوقت للأزهار حتى لتزيين شواهد القبور. فقد صارالموتى بلا قبور كما في نبوءة سارتر المسرحية. ثمة مقابر جماعية واسعة كمتاهة في جزر نائية .لايحضر الدفن حتى الأسرة، ولا أحد يقول وداعاً.
ناقلات في عرض البحر تتحول إلى خزانات لحفظ النفط ، بدل نقله للمستهلكين غير المحتاجين له.
قنوات تستحدث ألعاباً تافهة لإزجاء الوقت في البيوت خلال العزلة (لقتل الوقت)..
فائض وقت وورد ونفط وحليب ودجاج….. و أرواح أيضاً . فالتوحش يبلغ مداه.. أرواح أيضاً .أرقامها تدعو للفزع ..قبل أن أكتب هذه الأسطر ظهر في الجدول اليومي لحركة الوباء الرقم ثلاثة ملايين مصاب حول العالم..ثلاثة ملايين قلب توجس من الموت واقترب منه، إن لم يغب فعلا…هكذا بالأصفار الستة المخيفة . والموتى؟ الإحصاءات اليومية التي صار الرقم 1500 من الموتى في أربع وعشرين ساعة رقماً يدعو عاقدي مؤتمرات الإحاطة اليومية للتباهي..لأنه أقل بمائة عن موتى الأمس..
لاحرب تعدل هذه التي نشهدها، والتي لا يبدو أن لها نهاية حتى الآن..
ولا كتاب يمكن أن يكون سفينة نجاة .
ثمة الترقب وإلتقاء المفكرين واصطفافهم حول الواقعة؛ لتأطيرها فكرياً وتبصُّر دلالاتها وتحدياتها.
العتمة هائلة خلف الجدران وأمامها..وراء قضبان العزلة وخارجها.
والضوء الذي كان ترامب يكررأنه يراه في آخر النفق لم يبدُ منه بصيص حتى..
ناشفل – تنسي
27-4-2020

 
 
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نص‏‏