رغم أن دراسة الشاعر حميد قاسم عن شعر ما بعد الستينيات ليست حديثة الصدور، وجدتها في قراءة استعادية ،نموذجاً لنقد الجيل من داخله.والدراسة في الأصل رسالة حميد قاسم للماجستير ، نشرها لاحقاً في كتاب بعنوان : سِفر النار -دراسة نقدية في الظواهر الفنية في الشعر العراقي الحديث 1974- 1994 .وهي محكومة دون شك بالضوابط الأكاديمية وزمنية الفترة المدروسة، و الموضوع المحدد بالظواهر الفنية. وهي تصلح أيضاً للتعرف على فكر الجيل ومفاهيمه ، كخطاب مواز لما تضم النصوص الشعرية من مزايا فنية وجمالية.
هنا مقال يعرّف بالكتاب وأهم محاور الدراسة
حميد قاسم يتناول المنجز الشعري في دراسة أكاديمية
ظواهر فنية في شعر مابعد الستينيات
العدد الخامس والتسعونSep, 01 2024مجلة الشارقة الثقافية.
يلاحظ النقاد والقراء والمهتمون بالشعر أن عدداً غير قليل من المؤلفات صدرت عن تجارب الأجيال الشعرية العربية ، والتحولات التي تمت عبر ما قدم شعراء تلك الأجيال من منجزات، يَعدّونها تحولاتٍ في الكتابة الشعرية .فوسمتْ كل جيل بنوع من التحول الذي ينصبُّ عادة على الأساليب المستجيبة لطبيعة الموضوعات والرؤى وما يحركها أويكون مُشغلاً محَفّزاً لها.
وتأتي شهادات الشعراء أنفسهم عن أجيالهم ومراجعهة تجاربهم بأسلوب سِيري ثقافي لا يخلو من إثارة الإشكالات والخصومات، وما يحفّ بالنتاج النصّي من ظروف سياسية واجتماعية.لكنّ دراسة منجزات الأجيال أكاديميا تأتي بحصيلة من نوع آخر.فثمة انضباط منهجي وترتيب للوقائع النصية المهمة وما يرافقها من مؤثرات استناداً إلى الوثائق والنصوص ، كما تؤكد سعة صدر الدرس الأكاديمي للتحديث الشعري والمنجزات التي تمت بشأنه.
ومن هذه الدراسات الأكاديمية التي تناولت الأجيال ومنجز شعراء ما بعد الستينيات أطروحة الشاعر حميد قاسم الي نشرها من بعدُ في كتاب .
يلجأ الشاعر حميد قاسم إلى تصنيف جيلي مرن ينجيه من ذكر العقد تحديداً. فيخصص دراسته التي عنونَها ب( سفر النار) بالعقود الممتدة من 1974 حتى 1994، معوِّلاً على تسمية شعراء تلك الفنرة ومن جاورهم (شعراء ما بعد الستينيات) وهو أحدهم.
إن عمله في المعيار النقدي تصنيف لمرحلة وليس جيلاً. فلطالما تفرقت الآراء في الشعرية العربية عامة ،والعراقية خاصة، حول شرعية مصطلح الجيل ،وكونه يقصر عن وصف حركة شعرية محصورة في عشر سنوات، ليست كافية ، في وجهة نظر البعض لإبراز ( الظواهر الفنية ) التي أراد حميد قاسم لكتابه أن يكون عنوانه الجانبي متفحصاً لها، باحثاً عن مرجعياتها وافتراقها عن منجزجيل الستينيات.
وهكذا تأتي شهادة الشاعر الدراسية من داخل الجيل.وسياق المرحلة، لتعدنا بالكشف عن بعض ما يكمن في خلفية صورة الجيل لدى المتلقين.
فهو إذن شاهد من أهلها حقاً.ولذا عاد لأشعاره ضمن مجموعة شعراء العراق الذين عاصرهم في تلك المرحلة..ووجوده الشعري في المرحلة كان دافعاً له لإنجاز دراسته التي هي في الأصل رسالة ماجستير في الموضوع نفسه والعنوان أيضاً.
ولأن شعراء ما بعد الستينيات يكتبون شعر التفعيلة( الحر) وقصيدة النثر ، فقد تنوعت شواهد دراسته لتحقق هذا ، أي تلمس المظاهر الفنية في الشعر.وينوِّه في المقدمة بالسياق السياسي والفكري الذي تأطرت داخله قصائد مابعد الستينيات، حيث في الأصداء والذاكرة ما عُرف بهزيمة أو نكسة حزيران 1967 .والجو الكابوسي الذي خلفته، والانكسار النفسي الوطني للإحسساس بالخيبة والخذلان.
يتسلم شعراء ما بعد الستينيات هذه الأجواء، ويرثون تمرد الستينيين وإعلان قطيعتهم عن بوادر التغيير الإيقاعي في الشعر الذي دشنه جيل السياب والخمسينيون، وما يمثله من تجديد محدد بالخروج على الوحدات الوزنية الثابتة والهيكل البيتي ذي الشطرين.
ولكن مطامح الستينين فاقت ذلك التغييرالتجديدي .وتواصلت محاولاتهم لتمس طبيعة اللغة الشعرية ذاتها، والصور والرموز والبنى الشكلية أو الخطّية للقصيدة ،في محاولة لتحديث الكتابة لا تجديدها فحسب أو تصحيح القديم وتعديل قواعده،كما فعل الرواد والخمسينيون..فوجد شعراء ما بعد الستينيات ضالَّتهم في قصيدة النثر التي كانت حينها لا تزال في المرحلة التبشيرية والدعوة المتمحسة ،والسجال الحاد بين الفرقاء حول شرعيتها وخطابها وآليات كتابتها.
وذلك ما توقف عنده حميد قاسم متناولاً في فصول مستقلة كلّاً من الصورة الشعرية ووظائفها ، وموسيقى الشعر وإيقاعه، واللغة الشعرية.وفي هذه الجزئيات يركن دوماً إلى استحضار تأثيرها في ما استجدّ من الظواهر الفنية التي يرصدها بعد المهاد النظري في نصوص الشعراء.
تتنازع البحث مهمة الموازنة بين الأسلوبين : شعر التفعيلة وقصيدة النثر.لذا درس مثلاً موسيقى الشعر .وهو مما يُعد درساً مقتصراً على الشعر الموزون.لأن قصيدة النثر قدمت (حلولاً متعددة على مستويات اللغة والصورة والموسيقى) كما يشير حميد نفسه في فصل مهم تناولها فيه بالدراسة ، منوهاً بتجربتَيْ( مجلة شعر) في لبنان، وجماعة كركوك في العراق.
وفي هذه اللحظة من بحثه يشير الكاتب إلى موضوع يشكل نقلة في مفهوم الموسيقى الشعرية . وهو الموسيقى الداخلية التي سيرصدها عبر ظواهر محددة في نصوص مرحلة ما بعد الستينيات ، كأنواع معينة من التكرار مثلاً؛ كالتكرار الاستهلالي في مفتتح القصيدة ، وتكرار الجملة، وتكرار العبار ة التي تزداد أو تقصر بالإعادة. ومن معايشته لنصوص زملائه يورد مصلحات فنية شاعت حينها كوصف لأنماط من القصائد؛ كقصيدة اللقطة أو الصورة المبنية على توسيع جملة شعرية واحدة طويلة أو قصيرة.
وكذلك تصدى لظواهر شكلية تتصل بهيئة القصيدة كالتدوير الذي كان منجزاً ستينياً دشنه الشاعر حسب الشيخ جعفر، وشاع كثيراً في الكتابة الشعرية العربية .
ويفلح الكاتب في تسمية مهيمنات بارزة جديرة بالتوقف تخللت نصوص ما بعد الستينيات .وهي ظواهر إيقاعية ولغوية متداخلة ؛ كالتنوع والتداخل والتناوب والاختلاط.ويمثل لها باختلاط النوع الشعري: الموزون والمنثور والتقليدي.
يؤرخ حميد قاسم لشعراء جيله بتقسيمهم ضمن ثلاث مراحل أو موجات كما أسماها،
و لكننا لانجد حدوداً واضحة بينها ، إلا احتكاماً للوقائع التي أطَّرت تلك التجارب.
فالموجة الأولى بدأت مبكراً مع سلسلة( كتابات جديدة) وصدور عدد مجلة( الكلمة) الخاص بشعراء مابعد الستينيات ،والذي كنت بالمناسبة قد كتبتُ مقدمته ،وأعدتُ نشرَها في كتابي (مواجهات الصوت القادم -دراسة في شعر السبعينات) ومختارات من أشعار عدد منهم. و صدور مجلة (الطليعة الأدبية) المختصة بأدب الشباب، و التي احتضنت كتابات شعراء مابعد الستينات، وانعقاد الملتقى الأول للشعراء الشباب عام 1978.
وكان شعراء هذه المرحلة مثل زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي وسلام كاظم وشاكر لعيبي وهاشم شفيق وخليل الأسدي وعبدالزهرة زكي وحميد قاسم وسواهم ، ينشطون في الصحافة والمنتديات والقراءات الشعرية.
أما الموجة الثانية من هذا الجيل فيؤرخ لها حميد قاسم ببداية الثمانينيات والحرب العراقية الإيرانية تحديداً، وما فرضته من أوضاع حتّمت انخراط الوطن في حالة من العسكرة ومناخ الحرب ،وخدمة كثير من الشعراء الزامياً في المعارك ومعايشتها عن قرب، وتمثلاتها في شعرهم. ومن هؤلاء يسمي عبدالأمير جرص وسلمان داود وأحمد الشيخ علي وغريب اسكندر وفاضل الخياط..
وإجمالاً يعود حميد قاسم ليقرر أن اصطفاف شعراء هذا الجيل منحه اكتساب مزايا فنية ورؤية جديدة تميزهم عن جيل الستينيات، ومن ذلك: الاحتفاء بالسرد والقص في القصيدة ، والعناية باليومي والعادي، كما تمثل في الدعوة إلى كتابة القصيدة اليومية ، والاهتمام بالموروث المحلي كرافد للموضوع في القصيدة، فصار مصطلح جيل ما بعد الستينيات مصطلحاً فنياً لا زمنياً ولا تاريخاً. ولإثبات ذلك عقدَ فصولَ الكتاب لدراسة الظواهر الفنية التي رأى أنها من منجزات هذا الجيل.
ولعل توقفه عند قصيدة النثر هو من ملامح تجديد الدرس الأكاديمي الذي كان حينها لا يستسيغ دراسة محاولات التحديث الجديدة كقصيدة النثر،ليكتب عنها مادة مميزة نظرياً، ويتابع أبرز كتّابها مثل طالب عبدالعزيز ورعد عبدالقادر وسهام جبار وعلي عبدالأمير وعادل عبدالله.. وشعراء ذكرناهم من موجات الجيل الثلاث..
ولكن الملفت حقا في كتاب حميد قاسم هو اعترافه بسلبيات كثيرة واكبت المغامرة الأسلوبية لشعراء هذا الجيل .ويمثل لذلك بضعف صلتهم بالموروث.والاجتزاء منه دون تعمق وتوظيف جذري.ويرصد الخلل في صلتهم بالمراجع المؤثرة في تكوينهم.فيستشهد بنماذج من الأعمال التي اختل فيها جانب االتعامل الصحي مع المرجع والتعامل معه تناصاً أو رمزاً.إما بالأخذ منه مباشرة دون تكييف أو تضمين مناسب، أو البناء عليه دون استيعاب دلالاته وسياقاته. ويحتج على الصور التي لا تنتج معنى أو دلالة ،وتتيه في صياغتها الملتبسة ،والتعقيد المتعمد والغموض غير الشفيف، والتساهل في البناء اللغوي والتركيب .
وفي ذلك كله يعطي حميد قاسم لقارئه فرصة الوقوف على نماذج تؤكد استنتاجاته.
يقف عندها محللاً ومناقشاً لصياغاتها وأبنيتها.
وأحسب في الختام أن شهادة حميد قاسم على جيله ذات أهمية خاصة جديرة بالاستعادة، كونها استوعبت الخطوط الأساسية في مكوّنات الجيل، وما يهفو إليه في فهمه للتجديد والمغامرة الأسلوبية ..