حزن عراقي-تحليل قصيدة -د.أناهيد الركابي

د.أناهيد الركابي

حزن عراقي: تحليل لقصيدة حاتم الصكر «المسمار الثالث عشر في نعش انتظاراتنا»

https://www.alquds.co.uk

أناهيد الركابي

 

عَرف حاتم الصكر الحزنَ وخبرَ الألم، وهو الذي نُزِع من فردوسهِ، وفارق الأحبة، واحتوته بلاد العم سام العامرة، واستقبلته جنانها الساحرة، إلا أنه جُرِحَ بفقد الابن، هذا الجرح الذي ظل ينزف دماً، ويتعمق هذا الوعي الجريح الذي لم يسع الشاعر إليه بفقده الابن، ليصطدم بإرادة مصيره في الغربة والابتعاد عن الأهل والأحبة، فيشكل هذا الفقد حدثاً مأساوياً في حياته، ليعلو معه صوت الشاعر ويعلو معه الضمير الجمعي (نا) في قوله (أصابعنا) للتعبير عن هذا الحدث المأساوي، ليتبدى لنا خطابه الشعري في قصيدته الموسومة: «المسمار الثالث عشر في نعش انتظاراتنا» حساً بادياً في شعوره بالحزن المهيمن على ذاته، نظم الشاعر هذه القصيدة في ولده عدي الذي اختطفته إيدي التكفيرين، يقول الشاعر:
أصابعنا التي نعدَّ عليها غيابَك كلما هبط ليل واختلينا بأوهامنا
أصابعنا التي نعدّ عليها السنين كما لو ننثر الحصى – في جبال حزننا
أصابعنا تكسرت وظل كل منها يشير إلى جهة.. لعلك تأتي منها
تدلف هكذا في عباءة الليل وتعيد ما كنت تبدأ به مكالماتك
أسئلتك وتنثر ضحكاتك
قلوبنا التي تخبئ صورك طفلاً يوشك على الخروج من لفائف ولادته» .
يتجسد الاغتراب الفاعل في هذا النص من خلال الثيمات اللفظية المكررة أي الجملة المكررة (أصابعنا التي نعد عليها) المترجمة لذلك الاغتراب النفسي عن كل شيء، وقد تجلت الرؤية الشعرية للشاعر المتمخضة من الحالة الوجدانية، من خلال الاستهلال التكراري لهذه الجملة المسندة إلى ألفاظ متعددة، أو سياقات تصويرية مجازية متعددة (السنين، غيابك، تكسرت) فتلك الألفاظ المتعددة تحقق تلك الرؤية التي لا تجد في أي مكان تذهب له إلا الوجع، ثم تزداد الشحنات الانفعالية لتبلغ قمتها في تكرار (أصابعنا) ثلاث مرات لتجسد الواقعية المكونة لرؤية زمكانية مجازية متفردة، تعكس مشاعر الحزن والأنين لذلك المفقود (فعندما يأتي الليل نعد الأصابع لنرصد غيابك، ونعد السنين بأصابعنا كما لو نثر الحصى في جبال حزننا) ثم يختتم تلك الصور النصية المتراكمة بكسر الأصابع في حركات متتابعة، إلى الجهات المكانية علها تجدك لكنها لم تجدك، فهذه الصور جسدت ذلك الغياب الموجع من خلال تقابل الثنائيات (الحضور، الغياب) حيث الوجه الغائب الحاضر المبعثر في ضباب الغياب في حين لا شيء يدثر الحضور إلا ذلك الوجه المفقود للابن الغائب، ويتجلى ذلك الإبداع التصويري التوليدي من خلال الاسترجاع الزمني الاستذكاري موظفاً صورة (عباءة الليل) مسترجعاً مستذكراً ضحكاته، طفولته الشاخصة في قلب الفاقد، ويبرز الصگر حزنه وألمه من خلال تكرار لفظة (قلوبنا) بصيغتها الجمعية من خلال التوظيف الاستعاري التصويري التشخيصي،
ثم تبرز الطبيعة في قوله:
وصبياً يلتقط الفرح من الشجر والكتب والأصدقاء
قلوبنا التي أطّرت تلك الصور بدمع كثير
قلوبنا الحبيسة في قفص متهدم من الحزن والألم»
فتبرز الطبيعة بأشجارها وشمسها لتكون معادلا موضوعياً يجسد صورة المفقود في استذكار لطفولته، فضلاً عن ذلك لا يخفى ما للفونيم الصوتي (الباء) (الراء) من شحنات صوتية جسدت الطاقة التكرارية للراء المتكررة، حيث الوجع المتكرر النفسي للأنا التائهة المبعثرة في متاهات الآخر (المرثي) فضلاً عن الباء وما تحمله من شفافية هامسة تنسجم وتجربة الحب، وما تحمله من تراكمات وجدانية. وتتوالى اعترافاتها النفسية المتمخضة عن تجربتها الوجدانية الموجعة من الثنائية الضدية الماثلة بالدمع الكثير، والأمل القليل في علاقات لغوية ولغة شعرية، فتبرز العين بدمعها وبدلالتها الجمعية المتجسدة بـ(نا) المتكلمين لتحقق ذلك الفقد والوجع الجمعي، ثم يشير الشاعر إلى تلك العيون التي ابتلت بالدمع حتى الغرق في قوله:
عيوننا التي ابيضت حزناً وترقباً وتحديقاً في ظلامنا المغلف بالكوابيس
والأضرحة
عيوننا التي انطفأ وهجها ولم يعد لها النور قميصك
الوحيد الذي أواريه
عن صغارك بين كتبي وألبوم الصور»
يعرج الشاعر إلى الاقتباس القرآني، واستدعاء قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) وما جاء في قوله تعالى (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) فيقتبس هذه الصورة القرآنية الكنائية ليصف فقده ووجعه على فقدان ابنه، فيغدو ظلامه مغلفاً بالكوابيس في صورة استعارية مكنية، متولدة من ذلك الإبداع الكنائي، ويبرز القميص بصورته الدينية المقتبسة من القصص القرآني ليكون قميص المفقود ثيمة مشابهة لقميص يوسف وفاعليته في إنتاج صورة الفقد والحنين، أو الغربة والحنين، فيوظف الشاعر الثيمات الشيئية الجامدة لتكون معادلا موضوعياً وكناية، أو صوراً كنائية فاعلة في تجسيد تلك الصور الشعرية، ولا أشك في أنه يختار دوالاً أو ثيمات فاعلة في تجسيد تلك الدلالات النصية المتمثلة بتكرار الفعل الماضي (انطفأت، ابيضت) المسندة للعيون، ولا شك في أن تلك العناصر تشكل الخصوصية الفردية، بل هي الوطن أو المكان الوطني الشخصي للفرد، فالقميص والزوايا والأبواب والسهام، هي محور ذلك المكان المألوف الذي يستحضر ذكريات المفقود في تلك الفرادة المكانية، ولا بد من الإشارة إلى أن التكرار الفونيمي المتجسد من خلال الجناس اللفظي، حيث تكرار العناصر الجسدية (العيون، القلب، الأصابع، الصدر) فضلاً عن تكرار الفونيم (الراء) كثيراً في النص، الذي يفضي إلى التردد والتكرار المنسجم مع دلالة التكرار المشهدي لذلك الحزن والثكل والذكريات بمشهدياتها المختلفة، والطيف المنشود، فضلا عن الواو العاطفة، التي تكررت في النص التي حققت التواصل المشهدي النصي، ويوظف الشاعر الأسلوب الخبري السردي من خلال التناوب الفعلي الحركي بين الأفعال الماضية، والأفعال المضارعة في صور تجسد الماضي الممتد للحاضر، ولا شك في أن ذلك الامتزاج والتراسل الحسي بين جسد الشاعر، أو العناصر الجسدية الثكلى، بصورها التشخيصية الاستعارية المختلفة، يشكل رمزاً فاعلاً وحياً لوحدة الحواس المنهمكة بالدال (المفقود) التي تشكل صورة الصدور الملتهبة والذكريات الجافة، فهذه الصورة الاستعارية المكنية بحواسها الممتزجة مع بعضها ما هي إلا معادلاً موضوعياً لاضطراب الشاعر أمام المفقود، وإن هذه الرموز الجسدية المتأزمة، ما هي إلا صورة دالة وموحية لذلك الاضطراب الوجداني للمتكلم الذي فقد ابنه، وذلك ما ينسجم والدلالة النصية، وتتراكم الصور الكنائية التجسيدية لتكون الذكريات الماضية ملاذاً مؤاسياً في تراصف وتجاور لفظي، حيث صورة ذبول الأمل، والفراغ الآهل بالحسرات، وتنبثق الصورة المائية لتشكل إيحاء رمزياً فاعلاً، في الدعاء بالسقيا لقلبه الحزين الذي يبتل بالذكريات، فتلك السقيا بدلالاتها ما هي إلا رمزاً ومعادلاً للدعاء بالخلاص من الحزن، ويشكل أسلوب الوصل عنصراً فاعلاً ودالاً لكمال الاتصال المتجلي من خلال تلك الثيمات المتراصفة في مدلولاتها لدال واحد وهو المفقود. ويختتم الشاعر النص بالتضمين الشعري إذ يضمن نصه بيت العباس بن الأحنف ليحقق المعاني الرثائية الكامنة في تلك التجربة الوجدانية الموجعة.

كاتبة عراقية

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*