حفريات الحاضر: في استذكارالفنان رافع الناصري

 

أصدر الكتاب الشبان المنتمون للصالون الثقافي بمدينة الديوانية وسط العراق عدداً مزدوجا من مجلتهم ( الثقافة العراقية )مكرسين ملفها الرئيس للفنان العراقي الراحل رافع الناصري، حيث كتب عدد من دارسيه وطلابه أبحاثاً وشهادات عن تجربته الفنية .كانت تلك الإلتفاتة من جيل شاب للفنان دليلاً على أن الفن لا ماضي له.إنه حاضر مستمر في الوعي الإنساني، ولاحدود لمراجعته أو قيود.وكانت تلك  أيضاً مناسبة للإقتراب من فن الناصري ورؤيته عبر قراءة استعادية شاملة.
يتميز الفنان التشكيلي رافع الناصري (1940-2013) بين فناني جيله ومَن عاصره في الذاكرة البصرية، بأنه لا يندرج تقليدياً في مدرسة أو اتجاه.هو فنان دائب التجريب والتحول . يمضي غير بعيد عن الغرافيك الذي درسه وقام بتدريسه سنوات في معاهد العراق الفنية.ومن نافذة الفن الواسعة يطل رافع الناصري ليمتزج بالحياة الثقافية في وطنه دون عزلة أو ترفع.مرسمه ومحترفه ببغداد وعمّان متاحان للجميع من طلبته وأصدقائه.وفي لحظة ثقافية نادرة وعند تسلمي رئاسة تحرير مجلة الأقلام أهداني تصميماً نادراً لترويسة المجلة، مازجاً بين الحروف العربية وظلالها التشكيلية ، وبقيت لسنوات أيقونة فنية تمزج الحرف بالكتلة التي تبرز شخصيته، ولا شك أن الناصري كان يوظف خبرته وما تعلمه ومارسه في الحفر والطباعة لتوليد ذلك الشكل الجمالي ومحتواه. ومن مظاهر تميز الناصري عن سواه من فناني المرحلة
الستينية أن مصادر ثقافته التشكيلية لم تكن غربية شأن زملائه ممن نهلوا المكون الثقافي الفني من المدارس الغربية  فحسب ، فقد كان من أوائل ناقلي المؤثر الشرقي. ولعل دراسته لفن الحفر في الصين وما تعلمه هناك من مبادئ سيظل يتذكرها كدروس في حياته الفنية، هي من روافد تجربته ومؤثراتها ، ومن أبرز مكوناته الشخصية.لذا لم يكن التجريب عنده نزقاً أو إتباعاً لمدرسة أوتقليداً  لأسلوب شائع.
هذه المزايا الثلاثة: نزعته التجريبية ودراسته وتخصصه في الحفر والمؤثر الشرقي-الصيني تحديداً ستترك سماتها في أسلوب الناصري كما في رؤيته للفن. وهي التي حددت تحولاته من النزعة التشخيصية والأكاديمية لحد ما في المراحل الأولى تأثراً بدراسته المبكرة في الصين، إلى التجريد والأسلوب الحر والتحديث في الموضوع والمعالجة.
 
يقول  الناصري في كتابه(فن الغرافيك المعاصر) –عمان1997(يتميز فن الغرافيك بسمة متفردة بين الوسائل الفنية.فالنطاق الواسع للمواد المستخدمة وتنوع تقنيات الطباعة يجعلان هذا الفن وسيلة مرنة وثرية ،مما يتيح للفنان امكانات متنوعة للتجرب والتعبير) .
اختار الناصري التخصص في فن الحفر، وهوالفن الذي كان في حينه نادرا في المحترفات التشكيلية العربية ، ويعزو دارسوه ذلك الإهتمام إلى ما عرفه العراق القديم من استخدام الطين ،وإنتاج نماذج مكررة من الأواني والأدوات والأشكال المتعددة من تلك المادة التي تكثر في وادي الرافدين ، لما تتميز به تربته الطينية من وفرة تلك المادة  ونوعيتها ، وتكوين الأشكال الخليقية منها ، بمساعدة ما تتركه الشمس الحارقة  التي تعلو سماء مدن الوادي من أثر،  وللناصري صلة بآثار العراق القديم يقول إنها تعود سنوات النشأة المبكرة ،وهو معلم ثقافي  شبيه لما عرفته الصين في تاريخها الفني القديم وموروثها، فتكرس ذلك النزوع لدى الناصري ، وستؤثر النزعة الغرافيكية  لديه وآليات الحفر والطباعة في ما ينفذ من رسوم على السطوح التصويرية ، ويبدو الإحتدام والتكتل الشكلي على لوحاته المرسومة بالزيت ،ثم تحوله إلى التلوين بالأكليرك المشع وما نفذه فيه من أشكال زرقاء ميزته بعالم فيروزي يدعو للتأمل.
يحصل الولع بالحفر وتجسيد الأشكال لدى الناصري كما يقول مستذكرا خمسين عاماً من رحلته الفنية قبل غيابه، بدرس تعلمه منتصف الخمسينيات حين دخل الفنان جواد سليم قاعة الدرس ليري طلابه يداً برونزية نفذها لزميله فايق حسن، ويطلب من طلابه أن ينفذوها بمادة الطين ؛ ليبرز شكلها الأخاذ والمجسم.لكن الدرس الثاني كما يقول الناصري كان في الصين حين رسم مزهرية ورود وقام بحفرها وطباعتها بالأسود والأبيض، وكذلك حين اطلع على الوصية التي يرددها الصينيون وخلاصتها
(أن الفنان العارف  متى يرفع الفرشاة  الدقيقة عن السطح،  ينسال اللون حرا ليعبر عن مكنونات النفس ،وأملها أيضا).
تعيد السيدة الشاعرة والكاتبة مي مظفر زوجة الفنان الناصري نشر حوار مطول ومهم معه أجرته عام 2004 لمجلة ألف التي تصدرها الجامعة الأمريكية بالقاهرة.هنا يكشف الناصري عن سبب اختياره الصين للدراسة الفنية بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة ببغداد، فيقول إنه قبل تخرجه من المعهد بأشهر شاهد معرضاً للفنون التقليدية الصينية أقيم ببغداد، فتولدت لديه الرغبة للدراسة في الصين ،والإطلاع على تجارب الشرق ،بعد أن أعطته دراسته الإطلاع على فنون الغرب.
لكن الناصري لم يغادر منظوره الغرافيكي وقد تمثل ذلك في المساحات التي يجسدها في أعماله والفراغات التي تتخلل الأأشكال حتى في أعماله الزيتية أو المنفذة بالأكليرك.
سيقوده التجسيد المتاح في الطباعة والحفر إلى مصدر ثقافي بصري آخر هو الفوتغراف.كان الناصري شديد العناية بالصورة .يقتنصها بدقة ومن وجهة نظر خاصة لاتكتفي بتقديم المشهد كما ترتبه صورته المعروضة ،بل يحاول أن يجد له ترتيباً آخر يضفي عليه الدهشة والشاعرية.
في البرتغال  سيقضي رافع الناصري أواخر الستينيات عامين ، وسيتضح في وقت لاحق هجرانه للأكاديمية والتشخيص، وتقوية  صلته بالمدرسة الأوربية والأسلوبية الحديثة ،وتأكدت نزعته التجريدية في أعماله التالية، حيث تغير أسلوبه وترك التشخيص والموضوع المتعين الواضح ،واهتم بالألوان وتوزيع الكتل بتجريد يعتمد القيم الفنية للمساحات والألوان والخطوط بدرجة كبيرة، إضافة إلى تغير منظوره للحرف ووجوده  في اللوحة .فهو  يرى كما صرح في حوار مي مظفرأن( الحرف لم يغب عن عمله قط،ولكنه يتجلى في أشكال مموهة ومجازية كإشارة أو رمز وجزء من كتلة أو حركة.)وهذه هي الرؤية المتقدمة التي اكتسبها من تحولاته الرؤيوية بفعل تغير المصادر الثقافية والفنية الفاعلىة في تجربته. ولصلة الفنان بالحروفية وضع خاص ، فهو لم ينغمس في تلك النزعة تماماً ، بل مارسها كواحدة من سبل التعبير الفني .وله تجارب في تجسيد القصائد لوحات تشكيلية تتعدى مهمتها التوضيحية المصاحبة للنصوص.فرسم قصائد للمتنبي وابن زيدون والجواهري و درويش ومي مظفر وإيتيل عدنان ليؤكد صلة المكتوب بالمرسوم ،وهو أمر ينسل من عمله الطباعي واشتغاله  في التصميم واستعانته أحيانا بالكولاج ،وهي سياحات حرة بين وسائل وأساليب وتنويعات متاحة بسبب رؤيته الحرة المتجددة.
تستعيد الذاكرة لقاء طويلاً بالفنان الراحل في صنعاء حين حضر  رافع وزوجته الكاتبة مي مظفر مشاركاً في مهرجان الفنون السنوي المنعقد هناك. تجولنا  في أزقة صنعاء القديمة ،فاستوقفته طرز العمارة اليمنية  ،وطرقات المدينة الضيقة وأسواقها والتزيين المحيط ببيوتها ،وكذلك الأزياء التقليدية والتقاليد والمفردات اليومية المميزة  ، فكان يصور بحماسة ومتعة وبرؤية فنية  كثيراً من الوجوه والأمكنة والتفاصيل الصغيرة ؛كالأعمال الشعبية على الجدران والسيارات ، ويقتنص وجوه المارة  المعبرة شيوخا وأطفالا ، وتستوقفه المهن والمعروضات والباعة والمجانين والمارة وكل ما تضمر الحياة في المدينة التي تجمع الماضي والحاضر معا ،كما قال لي،  فهي متفردة بذلك عن المدن التاريخية التي تحولت أطلالاً ومتاحف ،وتعوزها نبضة الحياة..
كثير من طلبة رافع الناصري واصلوا رسالته في تنويع الفن العربي برؤى غرافيكية ورسوم  وملصقات وتصاميم ،ستظل شاهدة على عطاء متعدد الجوانب  الحِرفية،كما هو في الأسلوب والرؤية والعمل الفني.
.
 
 
 
 
 
 
من أعمال الناصري- مجلة الثقافة العراقية
الناصري في مشغل الغرافيك

2 تعليقات

  1. عيسى حسن الياسري

    أيها الكبير ابا هند إ.. في أي غابة من غابات الأبداع العراقي تجول قلمك جعلها مغمورة بالنور واللون والجمال .. مبدع خلاق أضاء مبدعا خلاقا – رافع الناصري – الفنان الخالد .. عمرا مديدا سيدي .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*