جريدة التآخي -بغداد-19-11–2015
ترويض النص :دراسة للتحليل النصي في النقد المعاصر-إجراءات ومنهجيات.
حــوار فــي كــتاب .
.الانتقال بالنقد من التجريد النظري إلى التطبيق والممارسة النصية الناقد بشير حاجم يُزاول فعل القراءة إلى الملفوظ النصي عبر قراءة الخطاب النقدي العراقي ( ترويض النص)انموذجا. )
عدد القراءات: 258 أجراه: حسين محمد شريف تاريخ النشر: الخميس 19-11-2015
ناقد عرف بمهارة الاشتغال على التأويل. راسخ في اللغة حين ينحت المعاني مؤكدا لحضوره. يزاول النقد الأدبي منذ مطلع التسعينيات من القرن المنصرم غاص في متاهة النصوص من دون ان يضل الطريق. طبع له كتابان وهما كتاب زمن الحكي.. زمن القص تقنية “الحوار في الرواية العراقية، بغداد، 2009 وكتاب النسق النصي والنسق المتني ـ في الحركتين المتضافرتين للقصيدة الانبناء- الانهدام، بغداد، 2010 فضلا عن عشرة كتب مشتركة ما بين العامين 2011 ـ 2015 ويعكف حاليا على إنجاز كتابه الثالث (بروستية الرواية العراقية دراسة اجرائية في البنيات/ التقنيات/ الثيمات/ الجماليات).
حاوره: حسين محمد شريف
*كتاب (ترويض النص ـ دراسة للتحليل النصي في النقد المعاصر/ إجراءات .. ومنهجيات) يُعدُّ “حرثا في أرض بكر”.. ما الجديد الذي أتى به؟
– لننتبهْ أولاً إلى أن هذا الكتاب، الذي صدر خلال العام 1998، هو “رسالة ماجستير”، في الأصل، تقدّم بها “حاتم الصكر” صيف العام 1995 لـ(قسم اللغة العربية/ كلية الآداب/ جامعة بغداد). لكنه أنجزها بـ(“عقل” ناقد أدبي) أكثر مما بـ(“نقل” باحث أكاديمي)، خصوصا على مستوى الإجراء المنهجي، فكانت (دراسة نقدية أدبية “عقليّة”) فضلا عن كونها (رسالة بحثية أكاديمية “نقليّة”). كلْتا هاتين “الكينونتين”، اللتين تعْنِيان قبالتِي تعاضداً ما بين “الحرفنة النقدية” و”الأرشفة البحثية”، قد جعلتا من (ترويض النص) هنا “حرثاً في أرض بكر”! أمّا “الجديد الذي أتى به”، من خلال “حرثٍ” كهذا، فثمة تحريكه الاجتهادي للـ(مقدمة في النظرية الأدبية) بدءا من “مدخل” الكتاب، نحو “إجراءات التحليل النصي (و) لوازمه الجمالية”، حيث يقول <إن ما يفعله المحلل في الحقيقة، هو أمر قريب من عمل مروض الأسود. فترويض النص ـ على ما يذهب إليه تيري ايجلتون ـ يتطلب عملا مشابها بعمل مروض الأسود. وإذا كان الأسد أقوى من مروضه كما هو معروف، فإن اكتمال لعبة الترويض يتطلب أن يظل الأسد جاهلا بأمر تفوقه على مروضه.. وإلا فسد كل شيء.
* أثار “المصطلح النقدي” كثيرا من السجال بين النقاد أنفسهم قبل غيرهم.. لقد تعلق معه “التحليل” بوصفه مستعارا من العلوم الطبيعية ثم تساوى مع “النقد” كما يوضح الكتاب منذ بداياته.. كيف توضح المزيد؟
– “تحليل” النص، بحسب قناعتي، من أهمّ ما بعد أية “قراءة” له، بشرط منهجيتها، وذلك لأن تحليلا كهذا ذو تأثير “معرفي” كوْنه ذا تأثّر “فكري”. بهذا أجدني مع “الصكر”، لا “كماليّا” بل “ضروريّا”، في “النفي الجازم” ثم “العطف المضرِب” هذين: لم يكن النزوع إلى التحليل النصي بدعة، لجأ إليها نقاد الأدب بعد أن حاموا طويلا حول النصوص، واتجهوا إليها عبر سير أصحابها، أو بيئاتهم أو نفسياتهم، بل كان شيوعه بفعل مؤثرات فكرية وسمت عصرنا بأنه (عصر التحليل) . كذلك أنا معه، بعدما استهل مقدمة أولى في قراءة النص الشعري/ تاريخ وأساسيات مبدئية ، في منهجية التحليل ولوازمه( ضمن)الفصل الأول/ أصول التحليل النصي وضوابطه النظرية .. لا سيما، هنا، رأيه “الخاص” المتلخص بـأن بعض النصوص، لا تنطوي، فنيا، على ما يؤهلها لكي تصلح للتحليل لتفاهة موضوعها وضعف بنائها، وما فيها من أخطاء وثغرات وأن النص المناسب للتحليل هو المستوفي ما تتطلبه القواعد العامة للبناء اللغوي والإيقاعي والنحوي والدلالي…
* العتبات النصية، كالعنوان، والإهداء، والمقدمات والمقتطفات الممهدة، والهوامش… الخ.. ما أهمية دراستها؟ عن أية أشياء يمكن لها أن تفصح؟
– ثمة “الانتباه” إليها، قبل “دراستها”، حيث انتباه كهذا واحد من “إجراءات عدة”، أهمّها تسعة، تفترضها “المقترحات ما بعد البنيوية”. وبحسب “الصكر”، في (ترويض النص)، فإن مقترحات كهذه لا تنجح البرامج التعليمية أو التربوية في إنجازها عند تدريس النصوص، لانشغالها بالمهمات البيداغوجية الخالصة بعيدا عن أسرار الفن الشعري، أو جماليات القراءة! من هنا، في المقام “الأول” لا “الأوحد”، يمكننا الانطلاق بصدد العتبات أو المداخل والمفاتيح النصية، كالعنوان، والإهداء، والمقدمات، والمقتطفات الممهدة، وكذلك الهوامش والحواشي والتواريخ والأمكنة نحو “أهمية دراستها”: تلكم الكامنة في ثالث حقول “العمل النقدي” وهو حقل “التحليل النصي”، بعد حقلي “التاريخ” و”النظرية” الأدبيين، لأنها تفصح من خلاله عن أن “متمّمات المتن” لأي “نص إبداعي” هي “أساسيات” به، لا “ثانويات” له، وبذلك نصل إلى أن “بنية النص” أهمّ “أصول” تحليله…
ـ *”نقد النقد”.. كما انطلق الكتاب إجرائيا صوب ذلك.. كيف تقرأ آلياته وهو يذهب إلى مداه في هذا الجانب؟
– ما دمت، قُبيل قليل، قد وصلت إلى “بنية النص”، تحديدا، فلْأقرأْ آليات “الصكر” في “نقد النقد” عبر هذه “البنية” ذاتها. لقد تدرّج إليها من “الأثر” فـ”النص”، مُجمِلا ومبيِّنا ومستدِلّا…، ثم تساءل عنها فما هذه البنية؟ وما عناصرها؟ . إذنْ ثمة آليتان: “تدرّج” فـ”تساؤل”، حتى الآن، ثم تتأتّى آلية “تجاوب”. هذه الآلية الأخيرة، التي يمكنني وصفها بـ”العصب”، ذات بضع مراحل: أولاها مرحلة “فهم” فـ”انتقال”، أي “تمهيد مزدوج”، حيث جذر “بنية” لغويّاً يسمح بتصور معنيين هما: (تكوين) الشيء و”الكيفية التي شيد على نحوها”، بحسب “يوري لوتمان”، وهنا نفهم من الاحتمال الأول، إمكان البقاء في حدود وصف (تكوين) النص، عند الحديث عن بنيته، واكتشاف عناصره، وتعرّف علاقاتها الداخلية. أما تفسير البنية بالكيفية التي تكون بها النص، فهو ينقلنا إلى رصد النشأة النصية، والعوامل الفاعلة في هذه النشأة، وما تأثرت به البنية، حتى أخذت شكلها وهيئتها .. وثانيتها مرحلة “تقاطع”، بعد تقليب “البنية” دلاليا، كما الحال قبالة “نازك الملائكة”، خصوصا، لأنها تجانب الصواب إذ تجعل (الصورة البنائية) للقصيدة تستند إلى الموضوع .. ثم مرحلة “رأي”، ثالثتها، بدءاً بـ تأثر نقادنا العرب المعاصرين بالمناهج الغربية، من خلال التركيز على وحدة عناصر البنية، وتفاعلها، وكليتها، شرطا لتحليلها .. أما آخرها فمرحلة “استنتاج”، حتما، حيث الجديد حقا في فحص بنية الشعر، هو ربط البنية بتلقيها، بعد أن كانت محددة بكيفيات إنتاجها وصياغاتها، والمستويات التي يتيحها الملفوظ، وصلته بالمغيب والمسكوت عنه…
* تباين رأي النقاد حول “النص”.. فمنهم من عده “وثيقة”.. واختلف معهم آخرون بهذا الخصوص كونه تعسفا تجاهه إذ يقحم فيه ما ليس منه.. فيما ذهب آخرون إلى أن “النص” لا يمكن حصره أو وصفه.. ماذا تقول أنت؟
– أقول، أولا، ما قاله “الصكر” بصدد تعريف “النص”، كما رأى فيه، وهو أن المنهجيات تقدم تصورها الخاص، ولا تعطي تعريفا موضوعيا، فيبدو الاختلاف في مفهوم (النص) كبيرا . لكنني في المقابل، هنا، لم أزل متمسكا بالمنهجية البنيوية، مذ وعيت “شكليّتها”، ولهذا أنظر لـ”النص”، مثلما ينظر له البنيويون، بأنه “نسيج”، حسب “رولان بارت” خصوصا، حيث (تنفك الذات وسط هذا النسيج ضائعة فيه كأنها عنكبوت تذوب هي ذاتها في الإفرازات المشيدة لنسيجها). غير أن نظرتي هذه، التي تبدو “مستوردة”، لم تشغلني عن تقديم مقترح تعريفي لـ”النص” في كتابي الثاني (النسق النصي والنسق المتني)، الذي صدر خلال العام 2010، حيث ذهبت إلى أن “النص” هو كلّ ناتجِ حركتين متضافرتين: إنبنائية “ذاتية” ـ إنهدامية “غيرية”! مع ذلك، أُقرُّ، ما زلت شاعرا بأني أحد الداخلين في عبارة “الصكر” هذه: وقد قدم النقاد العرب المعاصرون مقترحات تعريفية، لم يكن معظمها إلا ترجمة أو تحويرا للمفاهيم الغربية، وذلك بسبب الانتماء المنهجي والتصورات النظرية المتطابقة مع تلك المناهج …
* القراءة ليست مسحا بصريا للنص ولا تفسيرا معجميا لألفاظه واستنباطا لمعانيه المباشرة، بل فعل خلاق كالكتابة نفسها. كيف تعلق على ذلك؟
– بالتأكيد هي كذلك، أيْ “كالكتابة نفسها”، حيث فعْلها الخلاق: نشاطه الإبداعي الذي يعيد صياغة النص عند تلقيه. فهو يصب على كل نص “وعي القارئ”، هنا، بكل شعوره، وذخيرته المتكونة بقراءاته، وخبراته وتذوقه> فضلا عن قدرته على استنباط المعاني المغيبة خلف نظام النص الظاهري . هكذا أراني مع “الصكر”، بعدما يتساءل “أية قراءة؟ وأيّ قارئ؟”، حتى في نفيٍ كهذا: ليس التنبه على أثر القراءة جديدا تماما، وإنِ اتخذ في المنهجيات المعاصرة شكلا منظما. بيْد أنني، بحكم منهجيتي، أميل للسيميائيات البنيوية في توزيعها الثلاثي لـ”القارئ”: المقرئ ـ المقترئ ـ المنقرئ…
* النقد العربي الحديث يفتقر إلى المنهج المحلي لاشتغاله، لو جاز التعبير، مكتفيا باستعارة المناهج النقدية الغربية! هل عجزت العقول العربية عن الإتيان بمناهج نقدية؟
– ما الضير، أيّ ضير، في استعارة منهج نقدي غربي؟! ثمة بنيويون أميركيون، مثلا، ما زالوا، حتى يومنا هذا، ينهلون من البنيوية الفرنسية! على الرغم من أن البنيوية الأميركية، كما يُعرف عنها، متميزة بالصرامة المنهجية، نعم، منذ رائدها “ليونارد بلومفيلد”! لا إشكال في هذه “الاستعارة”، إذن، بشرط، حتما، ألاّ تكون “ببغاوية”. إنّما الإشكال كلّه، في هذا الصدد، يكمن في انعدام “المنهجية” ـ ذاتها ـ عند نقاد عرب معاصرين! ما أُشْكله الآن، هنا، كان “الصكر”، في مبحث “النقد الفني المنهجي” ضمْن “الفصل الثاني”، قد أثاره حتى بخصوص منهجية “الانطباع”، الأوسع انتشارا على المستوى “السياقي”، حين ذهب إلى إننا نستطيع أن نعدّ في نقدنا العربي المعاصر (نقادا) ذوي نزعة انطباعية فطرية، لكننا لا نلمس مظاهر نقد انطباعي منهجي…
* في “الفصل الثالث” من الكتاب يتناول الدكتور حاتم الصكر المنهجية النصية والمنهجية اللا نصية.. هل لك أن تشرح لنا الفرق بينهما؟
– في فصله هذا، وهو الأخير للكتاب، يدرس (التحليلات النقدية) على مستويي (التنظير والنقد). لذلك، كي يستوفي “إجراءات” فصلٍ كهذا، أخذ عينات للتحليل النصي الخارجي، أي المستند إلى تاريخ الأدب، أو البعد النفسي، أو العامل الاجتماعي، وعينات للتحليل النصي الداخلي المتمحور حول النص، والمنطلق منه. وما يصطلح عليه “الصكر” هنا بـ”التحليل النصي الخارجي” عائد للمنهجية “اللا نصية”، التي مفهومها عندي “السياقية”، مقابل اصطلاحه “التحليل النصي الداخلي” العائد لنظيرتها المنهجية “النصية”. من ثم، بحسبه وأنا معه، سنكون قبالة رؤيتين: أولاهما جزئية تقصر مهمة النقد في إظهار علاقة النص بجانب واحد من جوانب التأثير في الإبداع، حيث: الواقعية/ النفسية/ الرمزية وأشباهها، ولهذه الرؤية غاية “مضمونية ـ موضوعية” ذات وسيلة “خارجية ـ سياقية”.. أما أُخراهما فـ تجزيئية تفتت بنية النص لتلتقط من عناصرها المجزأة عنصرا واحدا، له أهميته إلى جانب سواه ، حيث: اللغة/ البلاغة/ العروض وأمثالها، ولهذه الرؤية غاية “شكلية ـ بنائية” ذات وسيلة “داخلية ـ نصية”. كلتا هاتين الرؤيتين، إذا شئنا تمثيلهما الآن، متواجدتان في نقدنا العراقي الحاضر بصفتهما منهجيتين “متنافرتين”: الأولى، حيث كينونتها “القديمة”، هي “الخارجية ـ السياقية”، أي “التقليدية”، إذ أن “أصحابها”، غالبا أو دائما، يكتبون عن “الناص” لا “نصه”! ذلك، أعلل، لأن كتابتهم عن “النص” واقعة تحت تأثير “ناصه” عليهم! فـهؤلاء، إذنْ، لا يضعون ما هو “خارجي ـ سياقي” جانبا! هكذا هم، عموما، ينسون “النص”، إبداعا، ويركزون على “ناصه”، إنسانا، في كتابتهم! كأنهم، في “النسيان” و”التركيز” هذين، لا يعون أن هذا “الناص”، الإنسان، هو أول المسميات “الدخيلة” على “نصه”، الإبداعي، بالضرورة! ـ أما الثانية، حيث صيرورتها “الجديدة”، فهي “الداخلية ـ النصية”، أي “التحديثية”، وهذه، في رأيي، كانت منذ بُعيد نيسان “أبريل” 2003، خصوصا، قد انطلقت إلى فضاء التعامل مع “النص” فقط، بذاته “و” لذاته، دون الاكتراث، أو المبالاة، بمن كتبه! فلا شيءَ “دخيلاً” عليه، إطلاقا، بل، بحسب “جاك دريدا” خصوصا، ثمة التموضع فيه، في البنية غير المتجانسة له، حيث العثور على توترات، أو تناقضات، يَقرأ النصُّ من خلالها “نفسَه”، فقط، أي يفكّكها بـ”نفسِها”!.