أربعة أوهام عن الحب

 
أربعة أوهام عن الحب
ياحب
يا مرضي المريض
*محمود درويش
نحن لا نتوقف عن الحب لأننا نهرم، بل نهرم لأننا  نتوقف عن الحب
*ماركيز
فإنْ أهلكْ هوىً أهلكْ شهيداً..
*إبن حزم-طوق الحمامة
 
الحب:ذلك اللغز القديم الذي يضاهي سؤال الموت والخلود في الذاكرة البشرية ومخيلة الإنسان، يقاربه الشعراء والفنانون ويتأمله الفلاسفة والمفكرون، ويبني كلٌّ وَهمَه في فضائه ويعيشه حلماً ..
لا ضير في أن يعيش الإنسان أوهاما يخلقها ؛ليخفف وطأة الحياة وثقل الواقع فيصيّرها أحلاما، ولكن بعض تلك الأوهام تشيع وتصبح مسلّمات يتصرف البشر معها بكونها حقائق.
من ذلك ما يشيع عن الحب ، العاطفة الإنسانية الوحيدة المتبقية رمزا لإنسانية البشر الذين يعانون نكوصاً خطيراً يعيدهم في جل ممارساتهم اليومية إلى غابة ، غادرها الإنسان الأول ولكن ذاكرته  ظلت تحمل لها حنيناً غريبا.ً
أول  تلك الأوهام عن الحب هي التي تربط المحب بمحبوبته برابط الإستعباد والذل والميوعة العاطفية التي نجدها في كثير من شعرنا العربي
ميوعة يتوهمها الشعراء تقرّبا للحبيب واقترابا منه ومشاركة في العلاقة.
 
يتحدث  مصطفى  صادق الرافعي  في قطعة نثرية عن عبودية الحب، يبدؤها بقناعة عجيبة ومفارقة مضحكة ( لا مفر للخلق من العبودية ..) وكأنه يؤكد ما يراه السيد من حاجة لعبد يتبعه فاقدأً إنسانيته . ويعطف الرافعي على تلك الفرضية بالقول ( وإن كان في الأرض عبودية شريفة فهي للحب وحده) وكأنه أفاق من مجازه الغريب حول ضرورة العبودية (للخلق) فيخبرنا بوجود عبودية شريفة! هي عبودية الحب الذي لا يأنف عن  ربطه بالاستعباد والاستحواذ، وهو رأي  مستقرأ من أدبيات ومأثورات ثقافية موروثة ،تجعل الحب مناسَبة للخضوع ووجها للعبودية ، يفعل فيها المحب ما يؤكد خضوعه للطرف الآخر، فتسود علاقة الإذلال والتبعية وذوبان الشخصية في هذه الميوعة العاطفية التي نجد لها تجسدات تصويرية في الشعر العربي والحكايات أيضاً.
وثاني الأوهام الظن بأن الحب أعمى يلقي الإنسان في علاقة لا إرادة له فيها. ذلك الظن يكمل وهماً متفرعا عن سايكولوجية الحب وتداوليته يقول بإمكان الحب من نظرة أولى –ووحيدة ربما- ليلغى بذلك أي توافق أو اختيار في عاطفة الحب التي نريد توسيع مداها في هذه الوقفة، لنحررها من مجرد التعاطف بين إنسانين لتغدو شبكة من الأحاسيس تتمدد خيوطها لتشمل حب الفن والقيم والمعارف والجمال في كل أشكاله وتشكلاته.
النظرة الأولى والعمى المنسوب للحب تلغي  الفاعلية العقلية ،فلا يبحث الإنسان عن سبب لحكمه حتى على الأشياء  لحساب عاطفة ( عمياء ) يحكمها ويولّدها انطباع أول أو نظرة عابرة متعجلة .وهذا ما يهدد قصص الحب ويضع  لها  نهايات  مأساوية تتحول بسببها عاطفة الحب إلى كره وغدر وتخلٍ ،وحتى خيانة أو سواها مما تتنوع فيه مفردات الهجر والتباعد والفقدان ،بسبب تلك العشوائية والسذاجة المفترضة في عمى الحب، وحصوله من نظرة أولى غير مسبَّبة منطقياً.
يترتب على ذلك المصير المأساوي للحب والمحبين القول بوهم ثالث أكثر خطراً هو الإدعاء بأن الحب موت ،أو ربط الحب بالموت مخالفة لبواعثه ودوافعه وأهدافه التي من أجلها ابتكر الإنسان الحب ؛ليزين حياته ويمنحها معنى أعمق من مجرد العيش كباقي المخلوقات على كوكبه ،والمفتقدة للحياة بمعناها الأسمى ،لأنها تعيش ولا تحيى، وتوفر الضروري لغرائزها دون إعلاء أو تهذيب  جمالي.
وليس غريباً أن يضم أشهر كتب الحب عند العرب(طوق الحمامة في الألفة والألاف) لآبن حزم باباً خاصاً عنونه ب(باب الموت) وذكر فيه أخباراً عن رجال ونساء عشقوا فماتوا بسبب حبهم ،مطرياً ذلك ومعتبراً موتهم شهادة ،مستهلاً الباب بالقول ( وربما تزايد الأمر ورقّ الطبع وعظم الإشفاق فكان سبباً للموت، ومفارقة الدنيا.وقد جاء في الآثار من من عشق فعف فمات فهو شهيد) وقد أثبتت دراسات الغزل العذري عند العرب لاسيما دراسة صادق جلال العظم عن الحب والحب العذري أن شعراء الغزل العذري مصابون بشيء من المازوشية التي تجعل محور تجاربهم العاطفية توخي الشكوى وبيان العذاب الذي يعانون والموت الذي يتمنون.
وتشيع في الثقافة العامة اليوم تعبيرات وتراكيب مثل  الموت من الحب أو الموت على الحبيب ، و  ترد في المدونات الشعرية تهاويل ترادف الحب والموت ،لعل أشهرها ما عده القدامى أغزل بيت قالته العرب، وهو قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور                              قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به                                وهنَّ أضعف خلق الله إنسانا
فالأفعال (قتلننا / لم يحيين/ يصرعن) تؤكد الموت كفاعلية متفرعة عن غزل ظاهري بجمال العيون.
ويؤكد المتنبي الطابع القتالي في الحب في مواضع عديدة من ديوانه تصريحا وتلميحا، وأبرزها قصيدته الدالية:
كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيدِ                                 لبياض الطلى وورد الخدودِ
وعيون المها ولا كعيونٍ                                        فتكت بالمتيم المعمود
       راميات بأسهم ريشها الهد..                                    ..بُ تصيب القلوب قبل الصدورِ
هذه المقتلة الغزلية لم تخل من أسلحة فتاكة تبرزها الأفعال : قتلت/ فتكت/ تصيب/ ، وكل ما يليه  حاصل من العيون التي  وصفها سلفه جرير بالضعف ،ووصفها هو بالفتنة التي تحمل الغواية الجميلة والقتل معا : الناعمات  القاتلات أو فتّانة قتّالة ، أرق من الخمر بقلب أقسى من الجلمودِ! أ لهذا صُورت الحرب لغويا بأنها أنثى؟ ثم تدارك  أحد اللغويين ذلك فجعلها ذَكرا( لما فيها من الشدة والقتل) ؟
ولم يخل شعر الحداثة من رؤية قريبة في مبالغات عاطفية لا تقل خطراً عن الميوعة والإستعباد في القديم.
يصف درويش الحب  بالمرض في مناداته(يامرضي المريض!) ويضاعف دلالته المرضية بوصفه مصاباً بمرض:  الحب مرض مريض يلازم الشاعر .
وفي نص آخر يكتب درويش ما يحوجنا لمقاربة فرويدية من جهة ، ولتأمل الهيجان اللغوي والصوري في شبقية العبارة في الأبيات الخمسة المختارة.
عذبتني ياحب
يانهرا يصب مجونه الوحشي
خارج غرفتي
ياحب إن لم تُدمني شبقا
قتلتك
 
ذلك لايعني أن درويش لم يُعلِ الحب كعاطفة إنسانية وحاجة روحية.بل قدم نماذج مميزة في هذا المجال .ولكن الدلالة في نص كهذا تشير إلى إعادة إنتاج مقولات الخطاب القديم حول الحب وتبعاته وتداعياته.
ويصل هاجس ربط الحب بالموت إلى أجيال الحداثة الراهنة من الشباب، فتكتب شاعرة كداليا رياض قصيدتها( ربما) التي تذكرنا بمطلع عبارة ابن حزم السابقة في استهلال باب الموت( وربما  تزايد الأمر…فكان سبباً للموت):
ربما أموت حبا بك
ربما  تزرع على قبري شجرة
ربما يقطعها الحطاب
ربما يصنع من لحائها دفترا
ربما تحبك أخرى سواي
ربما يجعلها الحب شاعرة
ربما تكتب أولى قصائدها لك
على ورقة من دفتري
الذي هو مصنوع من لحاء الشجرة
التي تغذت على جسدي
جسدي الذي مات حبا بك
ربما
 
ورابع الأوهام المضللة حول الحب القول بأن  في الحرب والحب  يجوز أي شيء  .
إن  اقتران الحب بالحرب لا يقل خطرا عن ربطه بالموت؛ لأنه  يبرر النزعة العدوانية لدى البشر ويمنحها إطارا عاطفيا .. وقد تنبه  شاعر ألماني معاصر هو يواخيم سارتوريوس  إلى قرابة مفردتي( الحرب والحب) ) في العربية ، وحرف الراء الذي يلمعه الطغاة ليصنعوا الحروب كي  تمحى مفردة الحب ودلالاتها .
ولكن الإباحة في فعل أي شيء في الحب كما في الحرب مستهجن في الحالين ،فحتى الحرب لا تبيح كل شيء و استخدام أي شيء،  فكيف بالحب الذي يراد بحسب  ذلك الوهم  أن يكون مسوغا لأي فعل مهما كانت نتيجته؟
أخطر ما في تلك الأوهام : عبودية الحب، وعماه ،وربطه بالموت، والحرب أنها تتسلل إلى ثقافتنا، وتتمظهر في كثير من نصوصنا حتى المعاصر منها .وذلك مبحث أجد ضرورة  تناوله من زاوية النقد الثقافي والنفسي والإجتماعي ؛ لأنه مؤشر على قناعة  تهدد أسمى – وآخر- ما ظل للبشر من علائق : الحب الذي  نفترض  أنه يلهب جذوة الأمل والعمل وحب الحياة.
ويطول حديث الأوهام  في المتداول الشائع وأوهام الحديث عن الحب الشعري ..ولنا إليه عودة..فقد توفر كثيرون على موقف شعري يعلي عاطفة الحب ويأخذها بعيداً عن الميوعة والهياج اللغوي والصوري وتداعياتهما …
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*