إبرة الشعر وخيط القصيدة- تقديم

 
 
 تقديم لديوان من خرم إبرة للشاعر عباس السلامي
 
إبرة الشعر وخيط القصيدة
 
ا مع  الشاعرعباس السلامي في كلية الإعلام -صنعاء
للشاعر عباس السلامي(هذيانات عاقلة) كنت قد أشرت إلى وجود القرين في قصائده وحضوره  بهيئات لسانية وصور متعددة، لا عبر المرآة التي يُرى فيها  القرين عادة بل في تناظر الوجودين الداخلي والخارجي للشاعر نفسه.إنه يبحث عن (نفسه) بحثا فلسفيا يلخصه قوله:
بيني وأنا
مسافة
آمل أن أقطعها لأصلني
لقد ذابت أو اختفت المسافة بين الشاعر وقرينه ،وصار هو إياه بالمعنى الفلسفي الذي تحمله صياغة جملتنا نحويا .
وفي ديوانه الماثل للقراءة(من خرم إبره) يواصل  السلامي ذلك االبحث عبر إنشاء بنى شعرية جديدة ، تتمثل في قصائد قصيرة يمكن تشخيص صلتها الشكلية بالهايكو كنظام بنيوي للقصيدة المختزلة والمكثفة التي لا تتمدد كالقصائد الطويلة
أو  تستطرد ، مكتفية بالاختزال الذي رأيته مناسبا تماما لعنوان هذه المجموعة  من المقاطع المائتين وخمسة عشر ،والمرقمة بأرقام تحل بديلا للعناوين الجانبية. فكأن القصائد تمر عبر خرم إبرة الشعر الذي ينضدها في قماشة القصائد ويكَوّن نسيجها الذي نراها من خلاله. ونستذكر هنا مقطعاً  من الديوان يقول فيه:
 
 
لاتلقني
بينك والجدار
اتركْ لي مساحة
ولوبخرم ابرة
كي أتحرر من وخزك
سنفترض هنا أن الشعر هو المخاطب ، وأن المساحة التي يبحث عنها الشاعر كخرم إبرة تنفذ منه هذه المقاطع المختزلة  المغتنية بكثافة تراكيب القصيدة.أما الوخز فهو ثمن المعاناة الشعرية وعذاب المعرفة.
كثافة المقاطع تغري بالقراءة واستخلاص حكمتها أو شعريتها بالمصطلح النقدي وهي حكمة تأتي من تنضيد المقاطع والبؤرة المولدة للنصوص والمتمددة لأطراف النص وزواياه .فالشاعر لا يزال يرى في الشعر أخلاقيا ما يمكن وصفه بالأصالة أو الصدق؛ لذا يفرق بين الشاعر ومدعي الشعر أو الشويعر بالتصغير المهين.ثمة إذن نداءات تبعثها هذه النصوص أو الشذرات الشعرية، وعلينا تلقفها وتنضيدها من جديد باكتشاف علاقاتها ببعضها أو التمعن في صيرورتها الشعرية.
وقد وصفتُ صلتها بالهايكو بأنها شكلية ،وأعني بذلك أنها لا تلتزم بموضوعات الهايكو المقثصرة على الطبيعة والوصف غالبا ،ولكنها تحتفظ بسمات تأملية وفكرية تحيل لبعض ما ترجم من تراث الهايكو. كما نكتشف إذ نتوغل في قراءتها أن بعضها مرتبط ببعض ،فبعض المقاطع لا تنتهي ببداية مقطع  جديد ،وإنما تتتابع المشاهد حول المادة النصية الواحدة  في أكثر من مقطع-ويمكن ملاحظة ذلك في نصوص  المقاطع (36 وما بعدها حتى 54 وكلها تقايس المرأة بالأفعى وتنحاز-  إزاء ما أسند لها من صفات – للأفعى! وقد أسميتها عند القراءة مقاطع المرأة والأفعى ، معترضا على مضمونها الذي يبدو لي متشنجا وهو يعمم طبائع أمرأة ما على جنس كامل.).
الفرادة أوالوحدة التي يريدها الشاعر ربما كانت وراء رفض المرأة في المقاطع التي  أشرنا لها ..هي ضجرات ينفثها صدر متعب يبحث عن صوته :
لا صوت لي مع الجوقة
صوتي معي
وقد يكون تعليلنا هذا بحثا عن مبرر لتلك الرؤية للمرأة وتفضيل سم الأفعى على لسانها أو كلامها وطباعها.أي أن تجويق المرأة جرى ضمن تدجينها وكونها جزءا من منظومة  اجتماعية وثقافية  يرفضها الشاعر الذي لا يجد صوته مع الجوقة.لكننا نعود بالقراءة التأويلية؛ لنقرر أن الموقف من المرأة ومقارنتها بالأفعى أو تصويرها بأدنى من شرورها إنما هو موقف ميتافيزيقي، قد تكون لمسألة الخطيئة الاولى وغواية الأفعى لحواء كي تتذوق تفاحة الشجرة المحرمة حضورا كامنا في لاوعي النص ، وتترجم صوريا و لا شعوريا ماوراء ذلك الاقتران بين المرأة والأفعى في المقاطع المشار إليها.
وبالعودة لعنوان الديوان الماثل للقراءة وددت التذكير بأن الشاعر قد أورد الإبرة في نص من ديوانه الثالث حيث قال:
حينما رأى وطنه ممزقاً
أمسك بالإبرة والخيط
وخاط كفنه
لكن الإبرة هنا مشهدية ، أي أنها تتموضع وتتخذ حيزا في النص، وليست آلة عابرة لرتق ما تمزق من الوطن أو خياطة كفن لا ندري هل هو عائد كما الضمير النحوي للشاعر، أم أنه يشير رمزيا  للوطن الممزق؟ وهي إحالة تلميحية لموقف  ذائع من مواقف النفري ووقوفه عند خرم الإبرة يقول النفري: (أوقفني في الرحمانية، قال: اجلس في خرم الإبرة ولا تبرح وإن مر عليك الخيط لا تمسه) و يعضد ذلك الإحساس بالضيق وضرورة العبور  يستحضر قول النفري عن الرؤية التي كلما اتسعت ضاقت بها العبارة . وهي فكرة فلسفية أعاد السلامي تمثيلها بتناص خفي جميل حين قال:
الطريق
الذي أردنا أن نسلكهُ
يوما
كان أوسع مدىَ
من رؤيتنا
فلم يسعنا معاً
هي الوحدة والفرادة إذن تلك التي يقف منها الشاعر بحساسية عالية ،مطلّاً على ما هو داخل نفسه في المقام الأول  وما تمتد له نفسه خارج جسده  وكأنه اثنان في واحد أو واحد متشظ لقسمين، يلتمان ويتعارفان ليفترقا من جديد:
كثيرا ما أصغي إليَّ
علّي أسمع ما لم أقله!
تناصات كثيرة تحفل بها المقاطع رغم اختزالها ،وهي تذكّر بمراجعها لتقوية دلالتها وتمسها مسّاً خفيفا في الغالب ، كما في استعارة العصا والسحر والأفاعي الملتهمة أو المتحولة في قصة موسى، وقد وجدت لها في نصوص السلامي هيئات معاصرة تفوق الاستخدام الرمزي التقليدي والتضمين الأسطوري ،لتكون جزءا أساسيا من بنية النص الشعري نفسه.
لعلي بكشف تلك التناصات ونظام أبنية القصائد القصيرة قد أضأت للقارئ شيئا من كثير سيجده عند قراءة هذه النصوص الزاهدة بالإيقاعات المدوية والتي حرص الشاعر على اختيار أبنيتها بعناية، لتكون قصائد نثر تستثمر ميزة التكثيف والاختزال لتصل إلينا  بحكمتها ورفضها وتحررها .. تصلنا ولو من خرم إبرة تتماهى فيه بفنية عالية وعاطفة شديدة وتأمل عميق أشكال النصوص ومضامينها معا.
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*