باتجاه لوركا: البحث عن التناص المقارن في كتاب للدكتور محمد عبدالرضا شياع

 
 
 
يتنبه المثقفون العرب اليوم إلى ضرورة تبدل المرجعيات والمؤثرات الثقافية.وكما في الترجمة حيث اتجه المترجمون صوب الرواية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومناطق هامشية في  جغرافية السرد، فإن الأدب المقارن وتفريعاته نقدا وتحليلا في العقود الأخيرة  اتجه صوب تلك المناطق لبيان التأثر بالمحصول النصي .وحتى على المستوى النصي الأوربي والغربي عامة حاول المشتغلون بالأدب المقارن الخروج من الصور النمطية السائدة عن التأثير الفرانكفوني والإنجلو سكسوني  في الشعر خاصة.لطالما ظلت تأثيرات شكسبير و إليوت مثلا النموذج النصي المفضل في دروس الأدب المقارن ورصد أنواعها وكيفياتها، وكذلك بالنسبة لبودلير ورامبو .لكن النصية الأسبانية لم تُدرس بما يناسب ثقلها في التناص الذي حوّل اتجاهات الأدب المقارن التقليدية المتصلة بالكتّاب عادة وبالعلاقات التاريخية للنصوص، ومتابعة التأثر والتأثير دون  الوقوف عند التجليات النصية وانصهار المؤثرات بكيفيات متنوعة في النص المتأثر والمتفاعل مع النصوص الأخرى أو المتعالق معها بهيئات حاضرة ظاهريا في النصوص أو غائبة وراء المبنى النصي المقروء. التحويل الذي أجرته المناهج الحديثة يستخدم آليات التناص التي تتجاوز شكلية التأثير والتأثر لتصنف ظواهر التعالق النصي، ووجود النصوص أو حياتها في نصوص لاحقة لها.ويأتي كتاب الدكتور محمد عبدالرضا شياع(الخلفية النصية الأسبانية والشعر العربي المعاصر- بحث في التفاعل النصي) الصادر حديثا لتأكيد نقطتين مهمتين هما: تبدل المرجعيات المؤثرة في الشعرالعربي المعاصر وتعددها ، وتنوع الكيفيات النصية والأشكال لذلك التأثر. ويشي العنوان باتجاه الدراسة؛ فهي تنبئ القارئ بأن التفاعل النصي هو المغزى المراد من الدراسة المقارنة، بعيدا عن مباحث السرقات او التأثر العام.وتأكيدا لذلك يختار المؤلف شعراء  عربا من عقود متنوعة هم البياتي ودرويش ومحمد علي شمس الدين وأحمد الطريبق أحمد ،
مع استعانات عابرة بنصوص للسياب وحسن توفيق، ومن الشعر الأسباني يحصر الكاتب بحثه في نصوص لوركا وتجلياتها في القصائد معتبرا لوركا(النموذج الرمزي في الشعر العربي المعاصر) لأسباب تتصل بحياته و ثقافته وأفكاره والجانب الدرامي في مقتله .ويرى الدكتور شياع أن عظمة الأدب الأسباني تأتي من تفاعله مع الآخر ما يجعل التأثر النصي به ممكنا في الشعر العربي المعاصر، وللذاكرة التاريخية المختزنة عن القرون الأربعة التي استوطن العرب فيها الاندلس وأجزاء أخرى تركت ظلالها المكانية والزمانية على الشعر العربي المعاصر؛ فكثر ذكر المدن الأسبانية والمعالم الشاخصة من حضارتها المستوعبة للمؤثر العربي، لاسيما في بعض فنون الشعر وفي العمارة.ويتبنى المؤلف الأنماط النصية الخمسة التي قررها جيرار جينيت للتفاعل النصي والاشكال الممكنة لظهورها كأبنية نصية  وهي : التناص والمناصة والميتانصية ومعمارية النص والتعلق النصي الذي ركز عليه الباحث، وجعل منه مبحثا مهما ؛ليكتشف صلة نصوص الشعراء العرب المدروسين هنا بالنص الأسباني ولوركا تحديدا، وذكر من هذا التعلق النصي أصنافا من الاستخدام الشعري ؛كالمعارضة والتحويل والمحاكاة. ومن الطريف أن نصوصا للبياتي مثلا وهو من المتأثرين بالنص الغربي عامة تمثل معارضة للمرجع، كما في قصيدته عن سلفادور دالي الأقرب للهجاء بسبب أسلوبه السوريالي .ويمكن أن نعد التحويل من أكثر الأنواع التفاعلية غنى وتأثيراً؛ لأن لمسات الشعراء تجري على مادة المرجع المتناص معه . كما فعل محمود درويش بصورة الأثداء المقطوعة في شعر لوركا تصويرا للمجازر التي شهدها في الحرب ؛لتكون صورة محولة في قصيدته عن مجزرة صبرا وشاتيلا..لا يهتم الكاتب بالقيمة الفنية للقصيدة ،ولا يصدر أحكامَ قيمةٍ عليها ،بل يكتفي برصد ما يجري لنص لوركا حين ينصهر في النص العربي. وقد عزز ذلك بفصل نظري عميق الدلالة والعرض حول التناص والأدب الأسباني، والعلاقة التاريخية بين المكان الأسباني والشاعر العربي ، فقدم نموذجا لانتقال الدراسة في الأدب المقارن من ظواهر التأثر والتأثير إلى التفاعل النصي وكيفياته معززة بالنماذج العربية والأسبانية  بالغة الدلالة والأهمية.
. د.محمد عبدالرضا شياع: الخلفية النصية الأسبانية والشعر العربي المعاصر-بحث في التفاعل النصّي- تقديم الدكتور سعيد يقطين.دار تموز -دمشق- ط1-2013

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*