القراءة البلاغية للتاريخ

 
 
 
 
 
إذا كانت البلاغة هي أسلوبية القدماء وطريقة حكمهم على النصوص بشكل جزئي مستند إلى العبارة لا مجمل النص ، فالأسلوبية هي بلاغة المحدثين المعاصرين لنصوصنا ووقائعه التاريخية . التاريخ الذي هو- منذ قراءة ابن خلدون الفريدة والمدهشة –  ليس تتابعا زمنيا للأحداث ، بل ربط منطقي تعليلي بينها، واحتكام إلى أسبابها وعللها، ودراسة لسيرورتها، وصولا إلى مصائرها وخواتمها المنطقية داخليا وخارجيا.بهذا الجهاز الضخم اشتبك محللو الوقائع التاريخية مع مجرياتها ومفرداتها : حروبا ودولا ومجتمعات .لا فرق .فهي نصوص كلها خاضعة للمعاينة والتفسير والتعليل والتحليل أيضا.فالواقعة نصرا أو هزيمة هي نص قابل للقراءة ،والتأويل من بعد بالضرورة .
يدون المؤرخون ما يرونه متفقا مع أهوائهم .لكن التحليل والقراءات اللاحقة هي التي تعطيه مصداقيته. وبعودة ثانية لابن خلدون سنتفهم دوافع النشوء والصعود الوجودي للدول، ثم انهيارها وسقوطها واضمحلالها. وسنجد بيّناتٍ ودلائلَ على كارثية السقوط وما يلحق بالبشر من اضمحلال موازٍ لانقراض دولهم أو تغير مسارها التاريخي. بلاغيا يمكن أن يكون ذلك تحركا( استعاريا) باتجاه المستقبل: أي استبدال نظام بآخر له علاقة بسابقه سياقيا.لكن البلاغة اليوم تعجز عن ملاحقة مدويات الأحداث وخطير التبدلات بآلياتها القديمة. فالبيان والبديع والمعاني لم تعد كافية لتحليل الخطاب وكشف هوية مستخدمه وإيديولوجيته،البيان متلون ،والمعاني مختفية، والبديع لعب.
في الغرب توقفت البلاغة زمنا طويلا ،وأهملتها الدراسات النقدية والأدبية ،وحذفتها الأكاديميات من برامجها المدرسية.حدثنا الراحل الكبيرالدكتور علي جواد الطاهر عن دهشته لخلو مكتبات باريس التي درس فيها في الخمسينيات من أي مرجع في البلاغة . ما دعا رولان بارت ليكتب كتابه الشهر (البلاغة القديمة) متناولا نشأتها وازدهارها ثم موتها.ويقترح لإحيائها دراسة (حطامها وبدائلها وثغراتها).وضمنيا يدعو بارت للتحرر من سلطتها.إن بلده فرنسا كما يبدو لم يعد بحاجة لتفسير بياني أو استعاري لأحداثه الكبرى: الملكية والثورة والجمهوريات المتعاقبة ،وحتى صعود الهوامش أواخر الستينيات.البلاغة غربيا نشأت مع الحِجاج والإقناع والقدرة على تصوير الشيء سفسطائيا، بخلاف ما هو عليه ،وإقناع الآخر بذلك.مهنة فريدة كالمحاماة التي بدأت مع المحاكمات والدعاوى ومرافعات المتخاصمين في قضايا بيّنة الحيثيات وواضحة النتائج ، لكنها تخضع لبراعة أيٍّ من ركنيها المتخاصِميْن في الإقناع.  وجرى إحياء بلاغتنا القديمة أولا ببلاغة مشابهة.. إنها تبرر الهزائم الكبرى والانحسار والتبعثر، و تتناسى مظاهره وتتغافل عنها : كالعودة للخلافة وفرض العقائد بقوة السيوف وفرض التدين بالتطرف وإلغاء الآخر وإعدامه جسمانيا لإقصاء فكره ، وحتى التشبه بالمنتصر لتوهُّم قوته وليس ضعفنا – كما رصد العلامة ابن خلدون في مقدمة كتابه التاريخي- قارئا ما في انهيارات عصره  من مظاهر ، وتتابع الخسائر والهزائم حتى فقدان الاندلس وما حولها وتشريد عربها أو قتلهم. حدث تعجز البلاغة في قراءتها للتاريخ ونصوصه عن جلاء مغزاه ودلالاته كما تفعل بالنصوص تماما.يضيع المعنى عربيا من أجل شاهد بلاغي أو قاعدة من القواعد التي أرهقت النصوص وصادرت دلالاتها .لقد كانت البلاغة الغربية كما يلاحظ بارت تنتقل من القاعدة  أو المصطلح إلى الشاهد،وليس العكس.الحكمة تكمن جوهريا في تعقب الشواهد – ومنها وقائع التاريخ ونصوصه- وصولا إلى القاعدة.وهذا ما نفتقده في القراءات العربية للحاضر. تتفتت الدول وتغيّب العقول وتزيّف المعتقدات لكن التفسيرات تظل في إطار قوة الخصم لا ضعفنا.تحويل بلاغي آخر يطهر ذنوبنا وتقصيرنا لكنه لا يلغي الشاهد التاريخي، ويتركه مفتوحا للتأويل والتحليل والدراسة.وتلك طريقة أسلوبية لا بلاغية ضيقة لجلاء بنى النصوص ودلالاتها ودورها في مستقبل الشعوب وحياة الأمم.
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*