د.حاتم الحوهري: حلم الفراشة -جدليةالشعر بين التدوين والمشافهة

 
 
حلم الفراشة لحاتم الصكر: جدلية الشعر بين التدوين والمشافهة
 
د.حاتم الجوهري
شاعر وناقد أكاديمي مصري
 
كنت في حيرة كيف أقارب “معرفيا” التصور النظري/ التطبيقي عند الناقد العربي المعروف د.حاتم الصكر، للشعر العربي الحديث وقصيدة النثر في كتابه “حلم الفراشة: الإيقاع الداخلي والخصائص النصية في قصيدة النثر”، الصادر في طبعته الثالثة بمصر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في يناير 2020م، والذي جاء 285 صفحة وفي إحدى عشر دراسة متصلة منفصلة كل منهم تقدم لبنة في بناء الصكر، لتصوره الشعري وقصيدة النثر.
من جهة أكن الإعجاب الشديد لخطابه ولغته الرشيقة للغاية دلاليا وأسلوبيا، وقدرتها على امتلاك ناصية الجذر الغربي للمصطلح الذي يطرحه، مع قدرة تركيز عالية لتناول قضاياه ذات الصلة في تمثله العربي وتدافعاتها، ومن الجهة الأخرى بعين الناقد الذي ينظر للنص وأطروحته النقدية من الخارج -بعد فهمها- كان لدي ما أقوله.
لذا قررت أن أٌقسم تناولي لأطروحة الصكر في مقاربته لمفهوم الشعر العربي الحديث وقصيدة النثر إلى جزءين ( تكاد تكون مقاربته لقصيدة النثر أقرب لتسميتها قصيدة التدوين في مقابل قصيدة المشافهة، أو جدلية الشعر بين التدوين والمشافهة) ، الجزء الأول التواصل مع منطق الحجاج الأدبي والقوام الرئيس للأسس الثلاثة التي يبني عليها تصوره للشعر، والجزء الثاني وضع هذه المقاربة في عين النقد والقياس من خلال أربعة محددات، وجدتها قادرة على مقاربة طرحه وتناوله نقديا.
 
القصيدة المدونة/ قصيدة النثر وأعمدتها الثلاثة
في الجزء الأول ومعايشة الخطاب الذي يطرحه الصكر لمفهوم الشعر العربي الحديث وقصيدة النثر، وجدت أنه يقوم على ثلاثة أسس مركزها الاتساع والرحابة في الانتصار لقصيدة النثر/ التدوين العربية، وذلك على مستوى:

  • توسعة مفهوم الإيقاع، ليتجاوز الشكل المعتاد والأولي للوزن والموسيقي، ويتمدد للبحث عن أنماط التكرار والمقابلة والمشابهة في بناء الجملة، والمفردة، وكذلك الأثر الصوتي أيضا لكن بعيدا عن القوالب الجاهزة التكرارية النمطية التي رُصدت فيما عرف ببحور الشعر القديمة، هو إجمالا يوسع مفهوم الإيقاع لاستكشاف أنماط التكرار والمشابهة والمقابلة على معظم مستويات اللغة، والتي يستطيع كل شاعر أن ينتجها وفق مخزونه التراكمي واستيعابه للمنجز اللغوي السابق عليه، حتى يتجاوزه ويقدم الإيقاع الخاص به.
  • توسعة مساحة التأويل في المكتوب، حيث يرى الصكر أن التركيز على النص المكتوب والانطباعات البصرية للكتابة واحتمالاتها، تعطي أفقا أوسع كثيرا للنص، بعيدا عن الأنماط الجاهزة للنص المسموع وكونه يسعي لمقاربة المتلقي عبر مفاهيم وحيل أقرب لفنون الأداء الحركي والصوتي والتمثيلي، هو ينتصر لفكرة الكتابة المجردة التي تصنع أفقا لا متناهيا عند متلقي النص المكتوب، يتيح له الوقف متي يشاء، والوصل متى يشاء، وضَرب المثال لذلك عبر قصيدة مكتوبة قدم لها عدة احتمالات لتأويل النص المكتوب، واختيار متي قد تتوقف جملة، ومتي قد يتكون مقطع من عدة جمل..
  • توسعة نطاق الشعري من القصد إلى الأثر، أي بمفهوم أن القصد في سياق الوزن والموسيقى كان هو مركز تعريف الشعر، إلى أن يتحول الأثر المتعدد والمنفتح على الإنساني المستمر لمعيار الشعرية، بحيث يكون معيار الشعرية دائما محل اختبار وانتظار لأثر تلقيه، بعيدا عن الاعتراف الجاهز لنطاق الشعر عندما يحقق القصد السماعي من خلال الموسيقى والوزن.

 
جدلية المدون في مواجهة الشفاهي
في سياق هذه المقاربة قدم الصكر عدة ثنائيات بالمواجهة، لابد لأحدها أن يقصي الآخر وينتصر عليه لكن بلغة رشيقة لا تثير الصدام وتجذب القارئ نحوها، وأبرز هذه الثنائيات/ المركز التي طرحها الصكر في كتابه أو بالفعل هى الثنائية/ المعركة/ المركز؛ كانت ثنائية “الشفاهي في مواجهة المدون”؛ حيث ستلحظ أثر هذه الثنائية/ المركز في معظم أطروحته المعرفية والفلسفية وبناء مفهومه عن الشعر وقصيدة النثر/ التدوين..
يمكنك أن تضع كل رهان الصكر وخطابه الشعري/ النظري/ الفكري/ التحديثي على الانتصار للمدون وما يتبعه من سمات، في مواجهة الدعوة لتجاوز الشفاهي وما يرتبط به من سمات، هو يقسم العالم لبرزخين برزخ المدون وبرزخ الشفاهي، وعليك أن تختار في أي برزخ ستكون.
اجتهد الصكر كثيرا وبرع في تقديم خطاب لا يفتقد أبدا للدقة والرشاقة والحساسية والإنسانية والمعايشة، في بناء حجاج أدبي ينتصر لفكرته المركزية عن التحديث التي ترتبط بالمدون وثقافته شديدة الاتساع والرحابة، كما برع أيضا في ربط الشفاهي بالتقليدي والمحسوم أمره مسبقا.
هو يرى أن المدون قادر على كسر أفق التلقي، والشفاهي لابد أن يأتي وفق أفق التلقي، وأن المُدَوَّن عند الإنتاج وفي وعيه الداخلي لن ينشغل بالجمهور وسلطتها، في حين لابد عند الإنتاج أن يستحضر وعي الشفاهي سلطة المخاطب المحدد المتعين الذي هو الجماهير ومعايير تلقيها.
 
طبقات جديدة في إنتاج الشعر المدون وترجمة مصادره
بالإضافة لفكرة الصكر المركزية عن أفق إنتاج المدون/ النثري وتلقيه، في مواجهة أفق إنتاج الشفاهي/ الموزون وتلقيه، وانتصاره للمدون من خلال توسعة المفاهيم الأساسية الثلاثة: الإيقاع وتمثلاته، والتأويل في المكتوب، والشعري من القصد إلى الأثر، قام الصكر في الكتاب برصد ظهور طبقات جديدة تضاف لتراكم المدون/ قصيدة النثر، على مستوى ظهور طبقات/ أجيال جديدة من الشعراء المدونين أو شعراء قصيدة النثر عربيا، وكذلك ظهور معارف مترجمة جديدة عن تجارب نثرية جديدة، تضاف للمتن الرئيس الخاص بسوزان برنار الذي اعتمدته الحالة العربية في بداياتها، كذلك طرح الصكر استكشاف محاولات تلقي الشعر الحديث عبر الوسائط المتعددة الجديدة في المجتمع الافتراضي.
ذلك كان الجزء الأول من مقاربتي للوقوف على منطق الحجاج الأدبي والقوام الرئيس للأسس التي يبني عليها الصكر تصوره للشعر في كتابه المعنون “حلم الفراشة: الإيقاع الداخلي والخصائص النصية في قصيدة النثر”، الذي يبدو لي وكأنه عنوانه هو “نام الكتاب فحلمت كلماته بأنها تغني سرا”، أو تغني دون صوت نمطي اعتاده الجميع، وكانها تغنى بإيقاع داخلي يسمعه كل إنسان في رأسه فقط، ويكيفه كما شاء.
 
الخروج من سحر خطاب الفراشة
أما الجزء الثاني من مقاربتي لأطروحة الصكر النقدية في التحديث الشعري، عن المدون والشفاهي ببعد الخطاب الفلسفي والمعرفي، فكان يجب عليّ فيه أن أخرج من سحر الخطاب المدون وغوايته الشديدة التي قدمها حاتم الصكر- بصفته حقيقة من ملاك ناصية البلاغة العربية-، لأتبين موقع الخطاب في المنجز البشري في العموم ووفق أنماط التدافع التي قدمها وثنائية التدافع بين المدون والشفاهي، ومدي القدرة على تعميمها ومركزيتها، أو علاقتها بسياقها التاريخي كمذهب أدبي واضح محدد القسمات.
 
محددات النقد السياقي الثلاثة ورابعهما في التجريد
هنا ومن أجل ذلك النقد الخارجي لأطروحة الصكر ومقاربته للشعرية العربية رأيت أن أخط لنفسي أربعة محددات هي، موقف الخطاب من السياق الموروث في العموم، ثم موقف الخطاب من السياق التاريخي الخاص بظروف إنتاجه في الخصوص، ثم موقف الخطاب من السياق الآني ومحاولة تعميم منطقه وحجاجه مع الظرف الراهن الخاص بالذات العربية، وأخيرا محاولة التجريد ومقاربة الخطاب واختياراته الإنسانية والفلسفية بشكل خالص بعيدا عن كل السياقات.
 
خطاب الصكر في سياق الموروث
حين ننظر للمحدد الأول الذي هو موقف الخطاب النقدي عند حاتم الصكر من السياق الموروث، سنجد أنه تبنى فكرة تجاوز التراكم الموروث (تحديدا في نمطه السائد)، حيث اعتبر أن الموروث يتمثل في تقاليد المشافهة وسماتها وأثرها في الإنتاج والتلقي في الشعر العربي الحديث، واعتبر أن التحديث في مواجهة الموروث سينبني على ما هو غير شفاهي في الشعر أي التكريس لما هو مدون، وما سيضيفه أفق تلقي “المدون” للذائقة العربية من مساحات ومكاشفات جديدة. من ثم كان موقفه العام من التراث الشفاهي/ الشعري قائم على المواجهة والتخطي والتجاوز للسائد والنمطي فيه، والسعي لتأسيس أنماط جديدة، وفي الوقت نفسه الاستشهاد من ذاك التراث على وجود الجذر لتصوره عن القصيدة المدونة/ النثرية.
 
خطاب الصكر في سياق إنتاجه الذاتي
أما عن سياق إنتاج الخطاب التاريخي وموقفه من معاصريه ومجايليه الذين تناولوا القضية الشعرية ذاتها؛ فيمكن القول أن خطاب الصكر ومقاربته للشعر العربي تجاوز الكثير من الصدامات والتقاطبات الحادة في هذا الصدد، رغم أن خطاب الصكر على المستوى الفلسفي قد يكون أكثر جذرية من خطاب التحديث في مواجهة الموروث عند البعض، لكن خطاب الصكر في سياقه التاريخي لم يثر من الصدامات ما أثاره النزاع بين جابر عصفور وعبد العزيز حمودة مثلا، لذا يبدو خطاب الصكر وكأنه خطاب “قبيلة التحديث” واصطفافها الأكثر مهارة في تقديم ذاته، والانتصار لمشروعه في لغة سلسلة جيدة السبك وشديدة الإلمام بما تقول.
 
خطاب الصكر في علاقته بالسياق الآني
السياق الآني للذات العربية ربما يتجاوز التقاطب الرئيس الذي تمترس حوله المثقففون والنقاد العرب في القرن الماضي، حول ضرورة الانتصار لجانب من جانبي الثنائية إما الموروث/ التقليد أو التحديث/ التجديد (وربما الأصح الحداثة كإطار عام وافد من السياق الأوربي)، حيث يرى البعض أن الذات العربية في القرن الحادي والعشرين وفي بداية العقد الثالث، قد تجاوزت مرحلة القرن الماضي وتمركزها حول الاستقطاب الناشيء حول المسألة الأوربية، من اليسار العربي كممثل للتحديث في صورة خطاب الحداثة بمشتملاته ومرجعياته الأيديولوجية والفلسفية والفكرية والأدبية، في مواجهة تمترس مقابل حول رفض كل تحديث كمحاولة للتاكيد على الذات من جانب اليمين العربي. حيث يرى البعض أن الذات العربية يمكنها أن تتمركز حول ما هو “آني” قادر على تجديد الذات واستعادتها في العموم وإنتاج خطاب جديد يتجاوز ثنائية التقليد والتحديث، بتمثلهما هنا الذي هو قصيدة النثر/ التدوين في مقابل قصيدة الوزن/ الشفاهية، لأن الظرف وسياقه التاريخي يتمترس حول علاقة جديدة بين المبدع وسياقه العام، فيها يستعيد المبدع إحساسه بالجماعة، وربما يكون هنا الأمر أقرب لدورة من الانفصال والاتصال مع الجماعة/ الجماهير، فبوصف الشاعر هو في الأساس بنية حاضرة في جماعته الإنسانية، لذا حين تتراجع فكرة الجماعة ونهضتها يتجه الشاعر لما هو ذاتي وينعكس ذلك على آليات الكتابة نحو الانعزال، والتدوين هنا يصبح اختيارا اجتماعيا ليس أكثر، في حين أن استعادة الجماعة البشرية لطموح وجودها العام، تجعل الشاعر يتواصل مع آليات الكتابة بروح الجماعة ومخاطبتها، والمشافهة تصبح هنا أيضا  فعلا اجتماعيا طبيعيا بدورها لا أكثر.
 
خطاب الصكر المجرد خارج السياقات
أخيرا سنتناول الخطاب النقدي ببعده الفلسفي والوجودي الذي يقدمه الصكر مجردا، ودون ربطه بأي سياقات، أي سنضعه في ميزان التجربة الإنسانية في العموم، والعلاقات التي تعبر عنها في تطورها وعلاقتها بالطبيعة البشرية وما يجري عليها في الخصوص، سيكون هنا النقد الأبرز الموجه لخطاب الصكر المركزي هو محاولته الفصل بين تأثير اللغة ككلام منطوق، وما ارتبط به من ظواهر ارتبطت بطبيعة التواصل البشري المباشر عبر اللغة المنطوقة، وبين فكرة التطور البشري معتبرا أن اللغة كنظام منطوق على المستوى الأدبي هى مجرد مرحلة في التاريخ البشري، دون أن ينظر لطبيعتها اللصيقة بالإنسان من جهة كونه كائن اجتماعي، يتواصل مباشرة عبر اللغة المنطوقة وما صاحبها من سمات.
يبدو هناك في المضمر داخل خطاب الصكر النقدي محاولة لاختيار مركز كلي ما في مواجهة العالم، احيانا يكون هذا المركز عند البعض هو الدين أو الأيديولوجيا أو الفلسفة أو الحب أو الوطن، لكن الصكر يقترح بشكل ضمني مركزا للظاهرة الوجودية وهو الشعر، مجردا إياه حتى من سلطة الجماهير وعلاقته الاجتماعية بهم، هو يُخلص –ويتبدى ذلك في لغته شديدة السبك والحساسية- للحظة وسياق انتاجه وتحررها، ويسعى لخلق ووجود جماهير خاصة على مستوى التحرر نفسه والتجرد ذاته، بحيث تهتم تلك الجماهير المتخيلة بالتوسعة والتجديد في الشكل ومساحاته (الإيقاع وتأويل الجمل وأثر النص المتغير)، متجاوزا فكرة المضمون الاجتماعي وواضعا نصب عينيه الشعر كمركز، لكن السؤال هنا ماذا إذا توحد المبدع في حقبة زمنية ما مع المسار الاجتماعي لجماعته البشرية، وعبر عنه بفطرة وأيضا تأثر لحظة إنتاجه بشكل طبيعي بسمات الإنتاج الموجه للجماعة شكلا أيضا، مستعيدا ما للغة المنطوقة من جماليات!
ثنائية الشفوي في مواجهة المدون إذا أردنا تعميمها سنقول أنها لن تصمد أمام التغيرات الاجتماعية والثقافية لدورة الظاهرة البشرية ما بين الاضمحلال والاستعادة، التي تمر بها الجماعات الإنسانية، ربما ارتبط الشفوي في مرحلة ما بالموروث الحضاري للجماعات البشرية خاصة في التجربة الأوربية/ المركز، ومنها انتقل الموقف من الشفوي إلى العديد من الثقافات التابعة والعربية منهم، لكن الشفوي وربطه بالموروث كان مجرد حيلة أوربية للبحث عن تمثلات تفرغ فيها غضبها الشديد تجاه مرحلة العصور الوسطى، لكن الظاهرة البشرية في العموم قادرة على تجاوز منظومة قيم ما والتي قد يطرحها أحد النماذج في مرحلة ما.
من هنا تكون اختيارات الصكر الشعرية في خطابه النقدي على المحك عند تجريد مفاهيمها، وقياسها بالنسبة لطبائع الظاهرة البشرية وسماتها في العموم.
 
خاتمة: حقيقة يريد للكلام/ الشعر أن يغنى
هل يمكننا في الختام الحديث عن الدوافع العامة الكامنة ومحاولة استقراءها عند الصكر والتي تقف وراء إنتاج الخطاب النقدي في كتاب حلم الفراشة ومفهومه للشعر العربي الحديث والقصيدة المدونة!؟ أعتقد أن اختيارات حلم الفراشة قد تقف في النهاية على تمثلات الحالة الأوربية في علاقتها بالحالة العربية، بمعني أنه يقف على إعادة إنتاج الثنائيات التقليدية والضديات نفسها ومشابهاتها في الحالة العربية، في مضمر خطابه هو يقف في مواجهة شعراء المرحلة الواقعية في العموم، وأقصد بهم شعراء التيارات الرئيسية الذين كتبوا القصيدة متحررين من عمود الشعر، لكن ملتصقين بحالة الذات العربية قومية أو اشتراكية أو عروبية كانت أو حتى على صلة واقعية بها دون انتماء أيديولوجي محدد، لذا في المجمل ينتصر خطاب الصكر لجماعة شعر اللبنانية بمشروعها التفكيكي للذات العربية دون أن يصرح بذلك، لأن خطاب الصكر هنا يقف على مسافة ما منهم فهو ينتصر للشعر وحده ربما دون ان يحسم قراره تجاه من سيهزم في مقابل هذا الانتصار! من هنا قلت أن الصكر يجعل من الشعر مركزا للعالم.
وربما يتماهي ذلك مع مرحلة الصدمة التي مر بها إنتاج الخطاب نفسه عند الصكر عراقي المولد والجنسية والهوى في الأساس، وفظائع الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، ثم احتلال الكويت وغزو العراق ودماره، حتى سقوط بغداد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتفكك ما كان يطلق عليه البوابة الشرقية للعالم العربي؛ ربما من هنا وبهذا الدافع ينتصر الصكر لحالة الشعر كمركز مقترح وبديل للوجود، بعيدا عما واقعه من آلام نتجت عن بدائل أخرى وشعارات لم تحقق المرجو منها في الواقع العربي.
لكن الحقيقة -من وجهة نظري- وراء الخطاب النقدي المطروح في حلم الفراشة، أن الصكر لا يريد للكلام/ المدون/ الشعر أن يخرس أبدا ويظل مدونا فقط، إنما هو يريد لكل كلام (نص شعري) أن يرفع الصوت بالغناء عاليا علو السماء، لكن على طبعته الخاصة وطريقته الخاصة دون أن يخضع لأعراف الغناء الموروثة التي أصابته في مقتل وارتبطت في وعيه الخاص بكل ما هو مؤلم، وهذا هو حلم الفراشة الحقيقي الذي يسعى له حاتم الصكر في مقاربته وتصوره لمفهوم الشعر العربي الحديث، أن يغني كل كلام مدون ذا أثر وفق لحنه الخاص وموسيقاه المميزة، لأن اللحن العام والجماعي لم يكن على قدر المرجو والحلم الذي ادعاه لنفسه، لذا يطرح الصكر حلم الفراشة والشعر خارج الجماعة وتقاليدها المنهزمة بديلا.