من يذكر بلند الحيدري؟

 
 
 
من يذكر بلند الحيدري؟
 
 
 
ذلك السؤال الذي يمثله العنوان أثاره زميل في مراسلة أخيرة لمناسبة ذكرى رحيل الشاعر العراقي بلند الحيدري عن عالمنا (1926-1996) .وهو سؤال متوقع ومشروع، كما يقال عادةً. متوقع لأن بلند لم ينل ما يستحق في مكتبة النقد الشعري ما يوازي موقعه في التحديث الشعري ،ومرحلة الرواد التي عاشها ، فهو والسياب والبياتي متجايلون ،بل ولدوا في السنة ذاتها لكنه لم ينل مانالوه من شهرة وانتشار وقراءة .وهو سؤال مشروع لأن شعره يندرج ضمن تلك السنوات الملتهبة من عمر الشعرية العربية في العراق ،وبدء المقترح التجديدي الذي انطلق من بغداد التي ولد بلند  فيها ونشأ ،ورافق زملاءه الشعراء الذين عرفوا بالرواد، فضلاً عن صلته بالفن العراقي والعربي، وبالفنانين الأوائل كجواد سليم وفائق حسن، والجماعات الفنية التي تشكلت حينذاك.
الأربعينيات الشعرية التي شهدت انطلاق ما عرف بالشعر الحر ، شهدت أيضاً نشر أول ديوان شعري لبلند هو (خفقة الطين) 1946.الشاب العشريني كتب شعراً موزونا مقفى بإيقاع حاد، هو في بعض تفسيره تأثربالياس أبو شبكة وشعراء المهجر، يشاركه فيه  الشاعر حسين مردان أيضاً. لكنه في موضوعاته وخطابه يمزج الرومانسية بالواقعية ،ويقدم نموذجا لشعر التمرد والصعلكة والثورة الذي سيوغل فيه  بجرأة فريدة صديقه حسين مردان، الشاعر الذي عرف بمشاكسته للتقاليد السائدة شعرياً ومجتمعياً، ويمكن القول إن أثر مردان فيه كان أوضح من سواه.وربما كان وراء تلك الإيقاعية العالية، والهيجان اللغوي والصوري والعاطفي.
نحس شبح مردان ونحن نقرأ مثلاً مخاطباته للمرأة ،وموقفه منها، وطريقة غزله . المراة عنده كائن مطلوب. ولكنها معنَّفة و مجابَهة بقسوة وترفع ،سوف يختفيان في مرحلة النضج اللاحقة:
نزت الآثام في عمري فثوري              وارقصي نشوى على قلبي الكسيرِ
مضغ الحزن شبابي يافعا                فامضغي بالشهوة القصوى مصيري
 
هذه  النظرة الملخصة بالحاجة لعشق المرأة والبوح بوجودها الشرير هو الذي يجمعه بشعر الياس أبي شبكة ثم بحسين مردان.فبقدر ما تكون المرأة معشوقة تبدو في الخيال الشعري هنا منطوية على غدر أو فتنة تفضي إلى الموت؛ لترقص على جثة الشاعر، كما تفعل نساء الحكايات والأساطير- سالومي مثلاً-.
ففي بيتي بلند اللذين اخترناهما نموذجاً لتلك الثنائية : العشق والموت  تتجسد رقصة المعشوقة على قلبه الكسير، وتمتعها بالشهوة على أشلاء مصيره.
إن محافظة بلند على تلك الإيقاعية وانشغاله بتجسيد ما يؤمن به من قيم ومثل تختلف عن مجايليه جعلت حرصه على متابعة التجديد والعيش في أجوائه مهمة ثانوية.وذلك أبعد عنه ملاحظة النقاد والقراء المنشغلين بالشعر الجديد ،والجدل الدائر حول القصيدة الحرة ، ومدى الحرية المتاحة للشاعر ليجدد في القصيدة.كان بلند مشغولاً بمشروع يتمثل في الإختلاف عن معاصريه.هجر البيت والمدرسة  وآثر أن يعيش تمرداً وجودياً  ،ما جعله قريباً من زمرة الفنانين والشعراء الذين تتوزعهم المقاهي والصحف  والشوارع والصالات الفنية والمنتديات الأدبية.
لكن الإطلالة على دواوينه المنشورة – وهي قليلة قياساً لعمره الشعري – ترينا تبدلات حياته وقناعاته.
فثورته واختلافه وتمرده تمثلها دواوينه الأولى ، فالتفت للطين وخفقته مذكراً بحسين مردان ولعنته للطين في تشاؤمه ، ثم راقب المدينة وهجاها مجسداً ذلك في ديوانه (أغاني المدينة الميتة)1951 ، لكن رياح الثورة وقيام الجمهورية ستعزز نزعته التقدمية فيكتب ديوانه (جئتم مع الفجر) 1961وحين هاجر مضطراً بسبب الضغوط السياسية كتب ديوانه (خطوات في الغربة)1965وتحول لتعميق الخط الدرامي في شعره في ديوانه (حوارعبرالأبعاد الثلاثة) 1972.ثم توارى عن الظهور شعرياً ،ولم يكتب كثيراً سوى كتابه الذي ضم مقالات في الفن والأدب والحياة أسماه(زمن لكل الأزمنة) .
لعل مرحلة الغربة من أكثر فترات حياة بلند الشعرية عمقاً ونضجاً.إنه يكتب عن وحدة ومعاناة وعزلة.
هذا أنا ملقى
هناك حقيبتان
وخطى ً تجوس  على رصيف لايعود إلى مكان
 
من ألف ميناء أتيت
ولألف ميناء أصار
وبناظري ألف انتظار
تتجسد الغربة بلوازم عادية : حقيبتان ورصيف وخطى ، لكن تلك عُدَّة ضياعٍ لا إقامة.كأن بلند الحيدري هنا يعيد ماكان عليه في شبابه من ضياع .لكن الفرق هو أنه اختار تشرده وصعلكته في البدء ، واضطر للتشرد بعيدا عن وطنه متنقلا في العواصم حين كبر، وضاق به الوطن أو ضيَّق عليه ، نستذكر في ابياته تلك البياتي واللامكان في شعره، والعدد ألف والمبالغة الصورية والتقفية….
لم يكن مأزقه مأزق هوية كما تحاول بعض الدراسات أن تثبت.محتجة بكرديته .لأن الرجل عاش ببغداد وتثقف عربياً، ولم يكن  ليعبأ بالأمر حتى لو استقرت  في وعيه تلك المسألة المتعلقة بالهوية، فالقضايا القومية لم تكن متبلورةً في العراق حينذاك ، ولم تكن تلك معضلة الشاعر.إنها أوسع من ذلك.بدأت بالتشرد والخروج على العائلة ورفض المرتبة الإجتماعية التي أرادتها له عائلته الأرستقراطية. وآثر العمل بمهن بسيطة عامداً وفي وقت مبكر. لكن صدمة بلند كانت في ذاته المتشظية والضائعة.
فالمسألة تتعلق بأزمة وجودية.بدأت ذاتية تخصه كفرد، وأشبعها أو عالجها بالتشرد والتمرد ، ثم اتسع وعيه ليلتزم بفكر يساري حر ينتبه لمعضلة الفقر والعدالة المفقودة والإستعمار وقضايا الشعوب ،فنتج عن ذلك ما عكسه في قصائد الستينيات ، وانتهت الأزمة بالتبلور أوسع من ذلك أيضاً، ليكون محورها أو جوهرها مشكلة الغربة ومعاناة تداعياتها.
بهذا نرى توسع أفق الشاعر من الذات إلى الجماعة ،فالعودة للذات في غربتها واغترابها- وإن حضر فيها الوطن كمكان يعادل أو يمثل طرف الغربة-.
خلص الشاعر إلى تلك الإعادة للموتيفات السابقة ،فراح  يكرر تجربته في نصوص مختلفة. وقد ظهر ذلك في نزعة تشاؤم تكمل الغربة والوحدة ، فيقول مكتشفاً وملخصاً دورة حياته:
وإذا الحياة كما تقول لنا الحياة
يد تلوح في رصيف لا يعود إلى مكان
ويمكن أن نمثل للوحدة الحادة في شعره بقصيدته الشهيرة(ساعي البريد)، فقد اتخذ من شخصية ساعي البريد مخاطَباً له دلالة التواصل مع الآخرين الذين بعُد عنهم بلند وبعدوا عنه.فماذا يحمل ساعي البريد لمنتبذٍ مكاناً بعيداً، نائياً لا يراسله فيه أحد؟
 
ساعي البريد
ماذا تريد … ؟
أنا عن الدنيا بمنأى بعيد
أخطأت …
لا شك
فما من جديد
تحمله الأرض لهذه الطريد
ما زال على عهده
يحلم
أو يدفن
أو يستعيد
ولم تزل للناس أعيادهم
ومأتم يربط عيدا بعيد
أعينهم تنبش في ذهنهم
عن عظمة أخرى لجوع جديد
ولم تزل للصين من سورها
أسطورة تمحى ودهر يعيد
ولم يزل للأرض سيزيفها
وصخرة
تجهل ماذا تريد
أخطأت ساعي البريد
لاشك
فما من جديد
 
 
 
تصلح القصيدة لمقاربة مستويات عدة في شعر بلند، كالحوارية التي تميز بها عبر اهتمامه المسرحي، وحضور الأصوات في شعره ، وكثرة المخاطبات.فساعي البريد هنا هو الشخصية التي توجه السرد بعد أن توجه إليها.لقد أراده الشاعر حاملاً مع ما يحمل في حقيبته شعوره بالعزلة والبعد.
لقد أخطأتَ العنوان .يقول الشاعر لساعي البريد.ومن هذه الجملة النواة تتولد أو تتفرع البنى الدلالية الأخرى.فالشاعر في منأى موصوف بالبعد لتعميق المسافة والإبتعاد.كما أنه يريه ما في الخارج من مآسٍ، عاشها الشاعر وهرب منها لمنآه هذا.فكل شيء مازال على حاله، لاسيما عناء البشر الذي تمثله صخرة سيزيف.
يحتفي بلند أكثر من زملائه بالقافية شبيهاً بالبياتي .وربما كان هذا أحد أسباب عدم تمييز تجربته بين الرواد، إذ تكتشف القراءة هذا التكرار الإيقاعي والتشدد في التقفية والتكرار الجملي أو بالمفردة.
وأياً ما كانت الملاحظات الفنية على شعر بلند، نحس أنه عانى تهميشاً من مؤرخي التجديد الشعري ومن دارسيه، يحق للقراء والباحثين مناقشة أسبابه…