شاعر متوسطي بقارب هيليني

شاعر متوسطي بقارب هيليني

مجلة الشارقة الثقافية -عدد نوفمبر 2020
 

  •                                                                                      يا لي  من راويةٍ!  يدي تذهب بالغار ، وتعود بلفحة النار    
  • (لاحرب في طروادة)

بديوانه الجديد(لا حرب في طروادة- كلمات هوميروس الأخيرة) يطور الشاعر نوري الجراح ما بدأه في دواوين سابقة من تجاوز للزمن عبر تعدد الأقنعة الأسطورية العابرة للأزمنة.فالزمن الشعري وحده يتيح لنا ملاحقىة التحيين الزمني المنعكس على تعيين مكاني هو الآخر لاحدود له في جغرافية واقعية، وإن أخذ من الأمكنة التراثية المتوسطية فضاء لرحلاتٍ، سيدونها بلسان هوميروس الذي سيكف عن سرد ماجرى في الأوديسة، ويدع لنوري الجراح أن يتلمس كساردٍ حرباً توقفت في مكان آخر ليس بعيداً عن أمكنة الأوديسة ،والرحلة التي سيقطعها أوديسيوس عائداً مطارَداً بخيبات واشتياقات ولوعات وخسائر.والأنكى أنه لن يجد أحداً بانتظاره.
لكن هوميروس الآن وليس أوديسيوس هو من يقود العربة والقارب ،ويواصل التجوال في الأمكنة المتوسطية التي يحس الجراح أنه ينتمي إليها حضارياً لا بالمعنى الشوفيني الضيق، بل بالإنتماء الثقافي والمعرفي لنداءات بعيدة اختلطت فيها الأعراق والأصوات والهيئات، لكنها كلها تشيّد هذا المعمار الشعري المليء بالفسيفساء المجتلبَة من كل الساحل المتوسطي القديم.
لكن علينا ألا نرهن رسالة الكتاب الشعري هذا بالأسطورة بما أنها تقص مخيالاً مرهوناً بالماضي.فالجرّاح يسحب كل المخلوقات والأحداث والأمكنة والأزمنة لتكون ماثلة في دمشقٍ يتشوقها، ويبحث عن الطريق إليها بقارب شعري لا تسير الرياح بما تشتهي دفتاه. لقد( تدمْشقَ )كل شيء هنا وصار لافتة لحاضر يشترك مع ما يرويه هوميروس من خيبة، لاكتشافه أنه لم تعد ثمة حرب في طروادة ليروي بطولاتها ووقائعها ويُشيد بشجعانها.  وما يعدنا به العنوان هو الكلمات الأخيرة لراوي سِفْر طروادة ومدوّن يوميات حربها ومصائر أبطالها.
هي  رحلة بقارب شعري عبر  المتوسط وعلى ضفافه.حيث سيلتقي ثلةً من
الرائين: من وراء غلاف العمى: هوميروس والمعري، وبنور مضاف : لوقيان السميساطي..بينما يجلب لهم دانتي كخليط حضاري متجانس يسير في جغرافيا وتاريخ متسلسلين رغم التباعد.
هكذا تعددت ثلاثياً: الأقنعة الشعرية، والزمن الشعري ،والمكان الشعري.وعلينا أن نتوقف عند ما تهبنا إياه العتبة العنوانية كأحد موجهات قراءتنا.ونلاحظ أن صيغة النفي المتصدرة لجملة العنوان ستأخذنا إلى حالة الخيبة من حل.حتى  ليندب الراوي الهوميري الجديد نفسه: يا لي من راوية ! يدي تذهب بالغار / وتعود بنفحة النار.كما أنه يركز على الفصل الخاص بكلمات هوميروس الأخيرة قبل أن يسدل الستار على مروياته.قيأخذ الديوان عنوان الفصل ليكون عنواناً له، فيكسب الفصل أهمية مضاعفة في القراءة. وأستحضر للربط بين المنظور الحالي للميثولوجياوالأساطير، وما تناوله نوري الجراح في أعمال سابقة ،قصيدته (رسائل أوديسيوس) التي جعلها الدكتور خلدون الشمعة عنواناً لمختاراته من نوري الجراح، والمقدمة المهمة والمعمقة  التي تصدرت المختارات ,ففي القصيدة نلتقي  أوديسيوس (=عوليس) نافياً مشككاً إن كان هو نفسه من قتل الخطّاب الذين وجدهم يراودون بنلوبي أم آخر سواه .:
((أنا لست أوديسيوس/ وهؤلاء الذين صُرعوا وتخبطوا في فناء منزلي/صرعهم القدر…../ أنا /أوديسيوس/ الميت في باخرة.))
ولعل تصميم فصول الكتاب وتسلسلها تنبئ عن أمثولة قراءة مميزة.إذ تحفزنا على افتراض قوسين يحيطان بالرحلة – الكتاب. الفصل الأول : الملهاة الدمشقية، والثاني :ما بعد القصيدة. وفي الملهاة الدمشقية لا يوجد إلا فصل الجحيم. بانتظار مطهر وفردوس لايبدو أنهما قريبان ..
ينهض المبحر بقارب الشعر في النهاية، ويراهن بعد أن قُتل وبحارته وربابنته  ومبحروه ، على بقاء الصوت صارخاً في برية الأحزان والخسائر والخذلان:
((ادفنونا في الزوارق/  وادفنوا الزوارق في البحر /لاقبر في الأرض يسع صوت الناي.))علينا أن ننتبه إلى انسجام مدهش يمنحه الشاعر للوقائع، فهي كلها رحلة بحرية تحركها الميثولوجيا المسقطة على الحاضر.وهذا التصمميم القوي على الحياة برمزية بقاء الناي لأن دفنه كالبشر متعذر، لا قبر يسعه على سعة البحر والتهامه للناس ، وهي إحالة إلى عصر يخطف البحر فيه سفن العزَّل الهاربين من أوطان جحيمية إلى جحيمات مجهولة.
أما تجنيس الكتاب كعتبة قراءة وموجّه قوي،  فيلتبس أيضاً ليدعنا نقرأ القصائد مرتين : مجتمعةً كفقراتٍ لرحلة في الزمن والمكان، ومرة كنص واحد  مفرداته هي القصائد بفصولها التي تشتملها وتؤطرها.فغلاف الكتاب لا يقدم هويته للقارئ؛ أي لا يعرّفه به بحسب  نوع محتوياته: قصائد مثلاً أو قصيدة واحدة  أو ديواناً يستلزم من القارئ أن يستدعي ما قد وقر في ذاكرته من مزايا النوع المعلن.ولكن ملاحظة استهلالية قصيرة ستعيدنا لقراءة الكتاب كقصائد،حين أعلن نوري الجراح( كُتبتْ جلّ هذه القصائد في لندن ما بين 2017 و2019 ) ، لكن القراءة ستتجاوز هذه الملاحظة التي لم تراعِ هوية الكتاب، فتذهب إلى قراءته كمحاكاة تناصية مع الأوديسة بمفارقة ما تتناص معه ،وتحوير مجراه سردياً وشعرياً بالسفر الحر في الأزمنة والأمكنة والشخصيات، هنا تختلط الميثولوجيات بالأساطير والرموز والإحالات الثقافية الباهرة.ثقافة النصوص في الكتاب ترفعه من البكائيات السطحية وتسمو به، ليكون محفلاً لعشرات التلميحات والتضمينات المنصهرة في أشعاره.ولايملك القارئ إلا أن يوازي بقراءته هذه الذخيرة المعرفية التي تتمرد على وجودها كتاريخ أو أدب متوارث ، لتصبح نداءات عصرية بوجه القهر والمحو والعبودية.
إن عمل الجراح يقدم نفسه لا عبر تلاقي محن الحضارة المتوسطية وما مر بها وما يخفي لها قدرهافحسب، بل كاستعادة لتجانس الفكر البشري.هنا سيحضر جلجامش وهو يستلم نصائح سيدوري صاحبة الحانة، وأوديسيوس وهو يرى سيرس الإلهة الساحرة . ولكن دانتي سيكون مقروءاً بقوة حملت الجرّاح ليجعل الفصل الأول في الكتاب هو ( الملهاة الدمشقية) لتكون كوميديا دانتي الإلهية مسقطةً على دمشق وأحوالها التي لا يخرج بها الجرّاح إلى الهتاف أو الشعار.هنا معاناة وجودية شاملة تستقرئ العذاب الإنساني الذي كتبته أقدارهذه البقعة التعيسة من المتوسط العربي.  في قصيدة أجنحة إيكاروس و قارب عوليس- والعودة إلى اسمه في الخطاب السردي العربي- تتزاوج أمثولتان من إبحار أوديسيوس  في مخاطر رحلته ، ووعد إيكاروس بالتحليق :
((لو أنني/ لم أكن/ في موعد /ولا في ذكرى ما كان موعداً ./  والآن / بعد نور القفزة في ماكان نهاراً خفيفاً على البحر/أسقط في دم إيكاروس/ وأسقط في جناحيه)).
كل شيء هنا معروض للإحتمال والإنتقال الحاد عبر التاريخ والبحر والأرض.الوهم والتخيل واستدعاء رحلة من يريد العودة إلى بيته فلا يجد الطريق.
تحتشد الرموز وتتقابل أو تتقاطع: آلام نرسيس ويأس أوديسيوس(عنوانان لفصلين من فصول الكتاب الأحد عشر)، لكن بروميثيوس سارق النار الإلهية هو الذي ينهي الرحلة(راجعاً في عربة) محفزاً القراءة على استذكار مصلوب آخر هو عيسى:  ( لا كتاب يسع جسدك/ ولا أخدود يطال جبينك المكلل بالشوك).أما الإحتجاج على المجازر التي نزلت بالأرض، فيرفعها مُنبئاً بالطوفان: ((الأرض شبعت من دم الأضحية/فليُقبل الطوفان ويذهب بعظامنا وألواحنا)).
تتموج القراءة في رحلات الكتاب عبر المتوسط وسواحله وناسه.لكنها تمضي لتستشرف الملفوظ الشعري الذي يكتسب خطابه هيبته، ويوقعنا في كمائن أنينه وألمه،  وتموجات نصوصه: موزونة نادراً بخفة تمحو الإيقاع ، وبشكل أنشودة أو ترنيمة ،ولكن بهدوء من يسرد قصة هو أحد أبطالها وضحاياها. مرة يقول : أنا اليعازر الهائم في دمشق ,ثم يتساءل في دائرة الإيهام : هل أنا اليعازر ؟..ويوغل في السؤال:
((هل كنتُ أشبه نفسي/ أم أنني ظل شخص ولد في سميساط على الفرات/ وعاش في المعرة/ ودفن  في رافينا)).
كأنه يحاكي المسألة الهوميرية ذاتها: هل هوميروس موجود فعلاً ؟ أم أنه سواه ؟
يظل الخطاب بشكله التصوفي رغم تنوع الأقنعة، ابن عربي المدفون في دمشق حاضر بين الجمهرة ، فنوري الجراح يبني بعمله هذا هرما ً تأملياً في الإنسان ومصيره ووجوده وموته وحياته بعد الموت. وكل ما في الكتاب يسير بموازاة هذه الرحلة: لتقص طروادة ما حلّ يفرسانها وأفراسها وبأرضها وناسها..