((تنصيص الآخر ))-التثاقف كعملية فنية-الشاعر صدام الزيدي

 
“تنصيص الآخر”.. التثاقف كعملية فنية

صدام الزيدي

موقع ضفة ثالثة
الإثنين 30 نوفمبر 2020

"تنصيص الآخر".. التثاقف كعملية فنية
DIFFAH.ALARABY.CO.UK
“تنصيص الآخر”.. التثاقف كعملية فنية

في كتابه الصادرحديثًا، ضمن منشورات “خطوط وظلال” للنشر والتوزيع- عمّان، بعنوان “تنصيص الآخر: دراسات في المثاقفة الشعرية والمنهج ونقد النقد”، يقارب الناقد والأكاديمي العراقي المقيم في الولايات المتحدة، حاتم الصكر، موضوعًا يتصل بالكتابة الشعرية وما اقترحته دروس التناص والتأثر بهذا الصدد. فالمثاقفة الشعرية، وفقا للمؤلف، ضرورية لتكوين الشاعر الذي لا يمكن أن يكتفي بموهبته وقدراته، ولثقافة القصيدة التي يشحب دمها وتفتقر إلى الحيوية حين تنقطع عن المصادر التي ترفد الموهبة وتعمقها بجانب الخبرة والتجربة الإنسانية. كما أن درس المثاقفة، والمثاقفة الشعرية خاصة، يهب القراءة فرصتين: أولاهما، أنه يتفحص وجود الآخر والصلة به عبر متون عربية يكون التناص والتأثر والهضم أهم مبرراتها وأركانها أيضًا. أما الفرصة الثانية فهي أنه يتيح فنيًا تلمس الكيفيات النصية التي تمت بها عملية المثاقفة سواء أكانت بطريق التأثر الفردي (أي شاعر بآخر)، أو تأثر شاعر بظاهرة شعرية. ويظل للترجمة والدراسات المقارنة إسهامها الواضح في المثاقفة مع الآخر بطريق تقديمه كما في متونه وعبرها فيكون باثًّا والمتلقي العربي مستقبلًا. وفي الفرصة الثانية أيضا، تتم دراسة الكيفيات الممكنة للصياغات النصية، وفي مقدمتها الجانب اللغوي والتركيبي ثم عناصر الخيال والتمثلات الذاتية، والأشكال والأساليب التعبيرية.
ومثّل الجانب الموضوعي أو المضموني مادة لدراسات المثاقفة رغم تحفظ الحداثة منهجيًا وتعبيريًا على كتلة الموضوع وإدراج النصوص تحته كفريق لا تميز بين كتاباته، وتستبدل به البحث عن الدلالة في النص وما تأخذه من تلاوين وتنويعات مباشرة أو رمزية.
ونستطيع بفعل رؤى المنهج البيئي مثلًا، أن نتبين موقف الشعراء من الآخر ممثلًا بمدينته ورمزيتها وإيحاءاتها والموقف منها شعريًا. وهذا بحسب الصكر مستوى آخر فيه تتوسع دائرة المثاقفة لتشمل التأثر بالأفكار والرؤى والتصورات الغربية وسواها من نتاج ثقافات الآداب الأجنبية في مجال موسيقاها وإيقاعاتها. ومن هنا أخذ الصكر في رصد تنوع تلك التأثرات وتجدد مراجعها، بفعل التقارب الثقافي وتعدد منابع المثاقفة جغرافيًا ولغويًا وثقافيًا.
إن درس المثاقفة غير بعيد عهد في الدراسات النقدية والثقافية وما يجاورها أو تجاوره من الحقول المعرفية. فقد جرى في التقليد الشائع في دراسات الشعرية العربية أن تتم المقارنات داخليًا، بين نصوص ذات حاضنة واحدة، رغم أن تاريخ النقد العربي ترك لنا مدونات تؤكد تأثر الشعراء بالنتاج الشعري أو الفكري للثقافات المجاورة والبعيدة التي تم التواصل معها بطريق الترجمة.
ويرى المؤلف أنه ربما من المكرر القول بأن أشعار المتنبي وحكم أرسطو تصلح مثالًا لذلك بعد تخفيف التمحل الذي تمت به قراءة تلك العلاقة. ومثلها ما شاع في الشعر العباسي من تأثر بمقولات فلسفية يونانية ومن حكم الهند وسرد الفرس، وهو مما أتاحته الصفة الكوزموبوليتية للمدينة العربية وانفتاحها على الثقافات الأخرى. وكذلك تأثر العلوم اللغوية والبلاغية والفلسفية بالمنطق اليوناني.
غير أننا سنشهد (بالانتقال إلى العصور الحديثة)، كيفيات أخرى للمثاقفة تتم عبر التماس المباشر مع الآخر بالدراسة والتعلم، وبنشاط الترجمة ونشوء الحقول المتخصصة بالترجمة والأدب المقارن. وسوف تتعزز تلك الصلات بالهجرات الكبيرة التي تمت بشكل موجات لم يكن الرعيل الأول من المهاجرين العرب إلا روادها الذين فتحوا طرقها.
وتخلص مقاربات الصكر، بهذا الصدد، إلى أن المنافي والمهاجر باتت ساحات ممكنة لتعميق التثاقف. ثم جاءت الهبَّة التكنولوجية والثورة الوسائطية لتغني المهاجرين الجدد من الشعراء والكتّاب عن الاندماج الثقافي بمجتمعاتهم الجديدة، وأعادت صلتهم بأوطانهم وآدابها كما لو كانوا فيها.

قصيدة المنفى
وفيما يلاحظ الناقد عدم تفاعل قصيدة المنفى والمهجر والمغترب مع محيطها الجديد، بالقدر الكافي “الطارد للعزلة الثقافية والخوف من الآخر”، والإحباطات التي عاناها كثير من شعراء تلك البيئات التي لم تفلح في دمج بعضهم بإيقاع ثقافاتها، إلا أن خطاب بعضهم ظل عاطفيًا لا ينصاع لأعراف المعرفة، فضلا عن غياب المشغّل والمؤثر البيئي الشعري الجديد في شعرهم الذي لم يجد لديهم مِعَدًا هاضمة تتمثل ولا تجتر، فغالبهم يجهل لغة مغتربه وشعرائه وسياقاته الثقافية.
لكن الصكر استثنى أمثلة (قال إنها ممتازة) لشعراء ومثقفين من الشباب خاصة “يتفاعلون ثقافيًا” مع هذا المحيط، وتقدم قراءاتهم وتجاربهم إضافات مهمة للقصيدة العربية الحديثة. ورغم ذلك، ثمة تنوع حاصل ومؤثر بفعل قوانين التراكم الكمي والتحول النوعي التالي له. كما أن الحرية التي تتيحها الحداثة لمتبنيها تسمح باستيعاب المكان وتمثل مفرداته والتعبير عنه ولو بدرجات متفاوتة وكيفيات مختلفة.

تتمحور دراسات الكتاب حول التثاقف كعملية فنية تأخذ مظاهر عدة كالتأثر والتناص، ورؤية المدينة والآخر، ونقد النقد والتغيرات المرجعية والمؤثرات
في الكتابة الشعرية، وما يتصل بها من تمثّلات.

وهنا يتحدث الصكر عما أسماه بـ”عوامل الثقافة البصرية المتاحة وتعدد طرائقها كمؤثر في التكوين الذاتي والإعداد الثقافي للشعراء”. ولا يعني بالثقافة البصرية: “الاندهاش بالمرئيات العيانية”، إنما تمثل المكان كوجود جمالي وليس التعاطف معه، إذ قد يكون المكان معاديا أو مفردة في عناصر رفض التعايش مع المكان الجديد، أي المنفى. وهنا تحضرنا، وفقًا للمؤلف، لتمثيل حالة شعراء كتبوا في مدن وأماكن معينة ما يمكن تسميته “أهاجي تنفّر القارئ من وجودها”. وفي هذا السياق، ثمة إدوارد سعيد انتبه إلى هذه المسألة واعترف بمعاناته من المكان الجديد على مستويات كثيرة: تتعلق بالهوية والوجود والثقافة واللغة؛ لتصل إلى ما يسميه: “حالة طباقية لها أعمق الأثر في تفكيره وعيشه داخل هذا المكان وخارج مكانه هو”.
في دراسات الكتاب الواقع في (264) صفحة من القطع الوسط، يعالج المؤلف الوعي بالمكان المفترض للتثاقف والرؤية الشعرية التي تحتويه، متوقفًا عند مظاهر أخرى تتصل بالتثاقف مثل الاستشراق كدرس لتفحص المؤثر وقراءته معرفيًا وكشف خطابه.
وفيما يتعلق بـ”عملية نقد النقد”، يرى أن “كلامًا ثالثًا يبين لنا كيفية التثاقف مع المنهج وتطبيقاته الممكنة على النصوص الشعرية المقروءة بهدي تلك المناهج ورؤاها”. وبهذا المثلث المفترض: التأثر والاستشراق ونقد النقد، راجع الناقد عددا من النصوص ذات الدلالة بغضِّ النظر عن تطابقها مع رؤانا وتصوراتنا.
أما “تنصيص الآخر” كعنوان رئيس للكتاب، ووفقا لما يقترحه الكتاب أيضًا، فهو عملية معرفية حضارية، فضلًا عن كونها من حيثيات التحديث في الفنون والآداب وسياقها الفني والجمالي.  ويبين هنا أنه “حين يتم الاقتراب من الآخر ليكون نصًا لا وجودًا تمثاليًا شاخصًا ككتلة واحدة يُقبل أو يُرفض”، تكون الكتابة الشعرية قد كسبت ذلك الرافد المهم لتعميق مجرى حداثتها، ومنح الهواء المطلوب لظهور الثمار الجديدة وتجسيدها في أفراد النصوص، والظواهر الثقافية المحيطة بها.

التثاقف كعملية فنية
بشكل عام، تتمحور دراسات الكتاب حول التثاقف كعملية فنية تأخذ مظاهر عدة كالتأثر والتناص، ورؤية المدينة والآخر، ونقد النقد والتغيرات المرجعية والمؤثرات في الكتابة الشعرية، وما يتصل بها من تمثّلات.
وتتوزع دراسات الناقد في سياق محتويات كتابه الأحدث، في التثاقف الشعري، على عناوين داخلية رئيسة، تبدأ بتقديم، يتبعه عنوان: “المثاقفة- إجراءاتها النصية وكيفياتها الممكنة”، تمهيدًا لمناقشة “المثاقفة الشعرية من السرقات إلى التأثر: صياغة الوهم  وتنميط الآخر”، ليأتي الحديث عن مواضيع: “النص والصورة: المدينة في مرايا المثاقفة الشعرية”؛ “تبدّلات المؤثر وتحولاته النصية”؛ “الاستشراق- الهوية- المكان -التمثلات الشعرية”؛ “المقاربات المنهجية في السياق الحضاري: المؤثرات والدلالات”؛ “الكلام الثالث: نقد النقد في المثاقفة- إشكالات المصطلح وتداخلات المفهوم”؛ “المثاقفة المهجرية: فضاء المنافي والمغتربات”؛ “نموذجان من المثاقفة المهجرية المجاورة”؛ “الاستغراب الشعري- تطبيقات نصية”.

فعل حضاري
يشير الصكر، بدءًا، إلى أن المثاقفة، كفعل حضاري، ترتبط بمسألتين هما: الترجمة والأدب المقارن. فضلًا عن دخول الأنثروبولوجيا وفلسفة العلوم في الإشكالية، التي حاول تقليب ما هو ممكن من وجوهها، مستعينًا برؤية تاريخية، ليس من قبيل الرصد لتعاقب أنواع الصلة بالآخر عبر الزمن، إنما لمحاولة بيان ما يمكن في مجال المثاقفة.
تحررنا “العلاقة النصية بالآخر” من مطابقة انتظاره، كما تهبنا في الوقت نفسه “جزءًا من نصنا”. وتنقلنا علاقة شعرنا بالمؤثرات الأجنبية إلى حقل المثاقفة مباشرةً، داعيةً إيانا للبحث عن تمظهرات للمؤثر الأجنبي، وملموسية نصية في القصيدة العربية، لكنها (وفقا لما يراه) لا تمنع من تفحص كيفية تمثُّل المؤثر، والصلة الثلاثية بين عناصر عملية المثقافة كلها: (المؤثر؛ عملية التأثير؛ التأثر).
وحينما نبحث عن المقاربات فيما يتعلق بأخلاقيات الكتابة وأعراف القراءة وميدان تحقيق النصوص، فإننا بذلك نبعد الموازنات المجردة المحتكمة إلى المعيار القبْلي الراسخ، وبدلًا عنها نركن إلى الموازنات القائمة على المشترك بين النصوص وفق الباعث الإنساني والفني الذي تقوم عليه المثاقفة، والأثر العام والمؤثر المقصود في عملية المثاقفة. وهنا يلاحظ الناقد أن ثمة أنواعًا أدبية وجدت في ثقافتنا بفعل مؤثرات مباشرة “لكنها سرعان ما استقلت وتمددت لتستوعب خصوصية التعبير النصي الجديد”، بل “ازدهرت بفعل هذا التمدد وخاصية التكيف التي استنفرت في داخلها، وتنكُّرها من ثمّ لنشأتها الأولى”.

ثلاثة مستويات
يبحث المؤلف في الدوافع وراء عملية المثاقفة والتأثر والتأثير، بفحص مستوياتها المحددة إجرائيًا، وهي ثلاثة مستويات، ففي المستوى الأول (المقارني/ النموذج الفرنسي): “لا يمكننا دراسة المثاقفة والتأثير والتأثر دون إطارها المقارني”. وثمة المستوى الثاني (الأيديولوجي/ تحجيم الاستشراق): أي ما يعبِّر عنه خطاب الاستشراق ملتقيًا بإشعاع النص وانتشار تأثيره في المنهجيات المقارنة. وهكذا غدا، بحسب خطاب الاستشراق، كل إرسال تأثيرًا يتم بفاعلية الأثر (الاستقبال)، المنوطة بالشرق دائمًا. كما أن الغرب (بات دائمًا) يمثِّل النص المشعّ المولّد أو البؤرة. وهو أمر ستطيح به المناهج بعد البنيوية “القائمة على استراتيجية التناص، والدخول في عملية تكافؤ نصّي وتعالق وتفاعل”. وبالحديث عن آخر المستويات الثلاثة (المستوى الفني/ سرقات المحدثين) فعند هذا المستوى تضيق مساحة المؤثرات حتى تغدو استقصاءً لما يتركه كاتب في نصّ أو واحد من أفراد النوع وفي اللغة القومية ذاتها أحيانًا. وتستمر معاينة المستويات الثلاثة ليتوقف الصكر أمام التأثير والتأثر متفاعلًا مع شعر المتنبي (مثالًا) من ناحية “المؤثر الأجنبي”.

ضدية التثاقف
“الخصومات: ضدية التثاقف وفضائحيته”، تحت هذا العنوان، يستحضر الصكر أدونيس الذي كان برأيه مثالًا لـ”التعقب الفضائحي” كونه أكثر الشعراء العرب تماسًا ثقافيًا مع الغرب عيشًا وكتابةً ومثاقفةً وترجمةً. وبهذا الصدد، يشير إلى أنه جرت ملاحقة نصوص أدونيس، لا بروح التشرب الثقافي، بل بالبحث عن مرجعية حرفية لملفوظاته حتى ما كان منها مشتركًا انسانيًا، غير أن الطريف أن مُخوِّني (أدونيس) وراصدي (سرقاته) يتهم أحدهم الآخر.

تنميط المدينة
في القصيدة يشف المكان ويمتزج بالذاكرة والصورة المؤلفة عنها. وهنا تستوقف مفردة “الصورة” الناقد ليناقش كيفية وإمكان تنميط المدينة لتنتج عنها صورة نمطية لها ستكون فاعلة في اختصارها أو تحديد موقعها في وعينا. على أن المثاقفة (والحالة هذه) تتخذ شكلًا أحاديًا لا يستمع فيه المنمِّط إلى ما في الآخر من مكنونات تبرر وجوده. وكذلك المدن “تصبح مناسبة للتنميط” بشكل متخلف عن المثاقفة، غير حيادي أو منتج. ويتبع ذلك، بالضرورة، تبرير كراهية أو محبة المدينة عبر الصورة النمطية لها، وبالرؤية إلى دلالة المتمثِّل؛ كالأمكنة الكبرى وما يلازمها من نتاج الوعي بها بدوافع، أجملها الصكر في دوافع إيديولوجية؛ حضارية؛ سياسية؛ فكرية.

يشير حاتم الصكر إلى أن المثاقفة، كفعل حضاري، ترتبط بمسألتين هما: الترجمة
والأدب المقارن؛ فضلًا عن دخول الأنثروبولوجيا وفلسفة العلوم في
الإشكالية، التي حاول تقليب ما هو ممكن من وجوهها.

العناوين
تناولات كتاب الصكر في المثاقفة الشعرية والمنهج ونقد النقد، يصعب عرضها هنا بنوع من الشمولية، ذلك لأن كل جزئية منها تتطلب حيزًا أكبر مما هو ممكن. غير أننا نشير ختامًا إلى العناوين التالية، في إشارة سريعة، قد تفتح بابًا يفتحه المؤلف في الأصل مثيرًا جدلًا وأسئلةً ونقاشًا، عندما تناول أيضًا: تبدلات المؤثر وتحولاته النصية؛ إطلالة عربية على الشذرات الشعرية والمغامرات السريالية؛ الاستشراق/الهوية/المكان وتمثلاتها الشعرية؛ مفارقة الهوية بين خلق الذات وإكراهات الآخر؛ خارج المكان/داخل الذات؛ طباق: القصيدة والسيرة؛ المقاربات المنهجية في السياق الحضاري: المؤثرات والدلالات؛ مدخل حواري: المنهج عصا أم طريق؟؛ تعقيدات الحداثة: الفعل والممارسة؛ تعديلات المنهج: تمثيل الواقع- الفن والمحتوى؛ تطوير الرؤية: التحليل الاجتماعي للأدب؛ الانضباط اللساني وتداعياته: البنيوية وما بعدها؛ (تيارات ما بعد الحداثة) النقد النسوي: الغياب الدال؛ النقد الثقافي وموت النقد الأدبي؛ المنهج بكونه انعكاسًا للوعي والسياقات الفاعلة؛ (الكلام الثالث) نقد النقد في المثاقفة: من إشكالات المصطلح إلى تداخلات المفهوم؛ (المثاقفة المهجرية: فضاء المنافي والمغتربات): مقدمة في المهجر والمهجرية؛ نموذجان في المثاقفة المهجرية المجاورة؛ الاستغراب الشعري: تطبيقات قرائية.