النجاة من حرفة الأدب

 
 
 
النجاة من حرفة الأدب
لطالما ضج الأدباء والفنانون عبر التاريخ بالشكوى مما يصيبهم في حياتهم من ضنك وضيق .وقد تنوع ذلك العنت والتهميش من مجتمعانهم وسلطاتها النافذة ليشمل حصار إبداعهم  أو مصادرته ومنعه ،وملاحقتهم بعد قوله أو نشره، ثم تأتي سلطة العرف نفسه حيث ينالهم من اعتراضات مجتمعهم على أفكارهم وتجلياتها النصية ، أو تعامله معهم بدون ما يستحقون .
لكن أشد ما تعرض له الكتّاب والأدباء في حياتهم هو سلب حقوقهم الفكرية ،وتجاهل أوضاعهم ،ودفعهم إلى الإفتقار، وحرمانهم من أي تميز أو تعامل عادل..فضلاً عن المظالم التي وقعت عليهم فلم ينالوا أي تكريم مستحق يضعهم في الذاكرة الوطنية لبلدانهم عبر تخليدهم في نصب وتماثيل مناسبة ، واعتماد أماكن دراستهم وعيشهم أماكن تذكارية ترعاها المؤسسات الثقافية ،وجمْع مؤلفاتهم ونشْرها، أو إحياء ذكراهم ودراسة أعمالهم؛ وسوى ذلك من سبل الإحتفاء المعنوي بهم، ما يمكن أن يعد احتفاء بالثقافة والفكر، وتشجيع الأفراد على الإحتذاء بهم..
تلك أفكار عادت لتشغلني وأنا أتابع ندوة تفاعلية أقامها برنامج (كتاب مفتوح) الشهر الماضي،أدارها الشاعر عبدالرزاق الربيعي الشاعر وسام العاني، وكان الضيف على مدى حلقتين هو غيلان الإبن الأكبر للشاعر بدر شاكر السياب.
ومن ضمن ما جاء في الندوة من تساؤلات أجاب عنها غيلان، استوقفني سؤال عن تفسير اتجاه غيلان للدراسة العلمية وعمله مهندساً ،خلاف المتوقع من ابن لشاعر عربي أسهم في تجديد القصيدة ،وصارت له في الشعرية العربية مكانة بارزة بل تخطى عمله وطنه والبلاد العربية ،وغدا شاعراً معروفاً في العالم عبر ترجمة أعماله وما كُتب من دراسات  أكاديمية ونقدية حول شعره  ، أجاب  غيلان بأن ما  دفعه للدراسة العلمية بعيدا ً عن الأدب  هو ما جرى لوالده في حياته من شظف العيش والتهميش،  وما ناله من ظلم و(قسوة ) صرّح بها في قصائده ، بل جعلته تأثراً وغضباً  يشخّص هذه القسوة حتى لدى أهله وحبيباته .ربما لم يكن توجه غيلان للعلم اختياراً واعياً بشكل متكامل في حينه ،ولا صادراً عن إدراك تام، لكنه في دلالاته يرينا هوْل ما يصيب المبدع والمفكر في أوطاننا؛ يناله الحيف ،وتحاربه السلطة والمجتمع لتحرمه من وظيفته، وتراقب نتاجه، ولايتلقى من مجتمعه ما يناسب جهده، وتذهب حقوقه نهباً لجشع الناشرين وهوسهم بالبيع والتسويق.
لم ينل السياب خلال رحلة حياته القصيرة إلا العذاب والعناء. يُتم مبكر وسجن وفصل من الوظيفة ،ومرض لم يجد من يشفيه منه ، وعداء من رفاق حزبه ، وتهم وتصغير وشائعات تمس حياته الشخصية فضلاً عن وطنيته . يذكر غيلان أن أسرته لم تكن مستقرة في سكن وعاشت في بيوت مؤجرة أو حكومية سرعان ما طُلب منهم مغادرتها بعد وفاة والده.
وكان الإهمال قد مسَّ حياة السياب كلها، وانتهى به الأمرمتنقلاً بين مستشقيات العواصم حتى مات غريبا. وليته سلم من الظلم والعنت بعد موته.فبحسب ما قال غيلان فعند طبع أعماله الكاملة بعد سنوات من وفاته لم تتسلم الأسرة  الحقوق المنصوصة في العقد مع الدار الناشرة إلا بعد سنين وبتدخل رسمي من وزارة الثقافة العراقية، كما تواصَلَ نشر الطبعات اللاحقة دون الوفاء بأيّ من مستحقات الأسرة كما هو معتاد في أعراف إعادة النشر.
مقالات كتبها السياب في حالة توتر وتجاذب مع الحزب نشرتها دارنشر معروفة  دون استئذان  ورثة السياب ،ودون  عقد يوضح الحقوق بالضرورة…مقالات لم ينشرها في كتاب خلال حياته لمعرفته بظرفيتها والتشنج المختفي بين طياتها ..تصبح كتاباً يتداوله قراؤه حتى دون مراجعة وإيضاحات بالسياق الذي كتبت فيه ،ونُشرت في الصحافة في أوج اختلافه مع الحزب، والإندفاع  في صياغة أفكاره بشكل حِجاجي  ممتثل لوقائع طارئة ذات بُعد شخصي غالباً.
تناول غيلان ما ارتكبه الناشرون لاسيما في المواقع الإلكترونية وسواها من أخطاء في سيرة السياب، وإشاعة قناعات ليست حقيقية كالمبالغة في حالة فقره مثلاً، أو الحديث عن علاقاته العاطفية بشكل مسيء لشخصه،  بل ذكرأن بعض المطبوعات تضمنت أخطاء في  الصياغة ليست في أصول القصائد كما يعرف الجميع.
كان حديث غيلان عن توجهه العلمي  يشخص  حرفة الأدب التي  أصابت والده والتي تحدثت عنها كتب التراث ،والحرفة التي عنها يتحدثون ليست المهنة أو الميزة الوظيفية والمهارة ،بل هي  رديف الحُرفة (بضم الحاء)   التي تدل على البؤس والحرمان والتعاسة،  وقد روي في مقتل الشاعر عبدالله بن المعتز أن الناس قالت قتلته حرفة الأدب لأنه تولى الحكم ليلة واحدة .هذا وابن المعتز لم تفقره الحرفة بل كان مرفهاً في قصورالخلافة التي نشأ فيها ،وتجسدت الرفاهية في تشبيهاته وصوره ، لكن الشعر لم يؤهله للخلافة وأطيح به.،وثمة من اضطرتهم الفاقة وأدركتهم الحرفة فعمدوا إلى الإنتحار ، أو إلى هجر الكتابة والتأليف . وقد وصلت بأبي حيان التوحيدي حال الضيق أنه أحرق كتبه في عملية انتحار رمزي احتجاجاً على ماقوبل به من رفض وتهميش.فقال في رسالة جوابية إلى من لامه على حرق كتبه  ،شاكياً مما لقيه(( كيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد؟ ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة)).
وتمثل هذه الرسالة عندي دفاعاً عن المحروفين والمعذبين في زمنهم ووسط من لا يقدرون عملهم،  ويتركونهم للفاقة التي أجبرته وهو في العقد العاشر من عمره  وبعد مؤلفاته الكثيرة  في الفلسفة والأدب أن يتغذى بالكفاف، و لا يجد ودّا من أحد.  وتنبأ في ثنايا الرسالة بما ستناله كتبه لو حافظ عليها ،ثم تداولها من سيجهلون مبتغاه فيها فيحرفون كلامه  أو يسيئون قراءته. فالتوحيدي لم ير من معاصريه إلا أناساً لا يأبهون به رغم معرفته وشهرته. ويزيد حجة ثابتة بقوله للائمِه ((إن العلم  – حاطك الله – يُراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة)). وهذا مالم يوفره له علمه ولا عمله فيه فلم ينج من حرفة الأدب ..
ولقد أدركت الحرفة كتّاباً وشعراء كثراً، فأكلت أعمارهم ولم تدعهم يكملون مشروع حياتهم ويواصلون نتاجهم، بل تابعهم الغبن حتى بعد وفاتهم..وليس السياب حالة نادرة، فقد تعرض كثير  من شعراء التجديد والحداثة للحرفة والفاقة، ونالهم العناء والمرض، فذهبوا وفي نفوسهم غصة مما لاقوه من جحود..والأخطر أن يكون ما نالوه سبباً في تنفير الآخرين من الأدب وأسبابه كما صرح غيلان.وذاك قريب مما قاله أبو تمام حين شكا من أنه لم (يدرك ) ما ابتغى لأنه (أدركته حرفة الأدب)، لاهياً بالجناس البديعي الذي وسم أسلوبه عن المصير  الذي لاقاه بديع صوره وألفاظه وفكره وأشعاره:
إذا قصدتُ لشأوٍ خلتُ أنيَ قد     أدركتُه أدركتني حُرفة الأدب