الصكَر من منفى الى منفى- الشاعر عباس السلامي

                  الصكَر من منفى الى منفى

 الشاعر عباس مزهــر السلامي
 
من المؤكد أن للعراقيين علاقة مع المنافي، تختلف عن تلك العلائق التي اتخذها المنفيون في كل بقعة من هذا العالم،علاقة العراقيين مع المنافي شكَّلتها ظروف قاهرة، امتدت بآلامها ومراراتها لأكثر من عقدين، ومازالت المنافي أمام العراقيين مشرعة. فالعراقيون مااختاروا أبدا منافيهم طواعية، فتراهم يدخلونها بحزن، ويغادرونها وهم أشد حزناً،مااختاروها  لِما لهم من خشية في ارتياد المجهول، وكرههم الشديد للرحيل، وخير دليل هو تلك الحسرات التي ينفثونها ، والدموع التي يذرفونها وهم يتركون  ساحات الطفولة ، ومرابع الصبا،لتبقى الذاكرة ضاجّة بالصور ، وبالحنين لها مهما اتسعت لهم المنافي.أضف الى ذلك تعلقهم المفرط بالأسرة التي شكّلَ تماسكها الإسطوري عماد المجتمع العراقي،على الرغم مما أُحيق به من مؤامرات ودسائس ،كانت تهدف ومازالت لخلخلة تلك الأسرة والإطاحة بتماسكها سعياً لتمزيق وحدة هذا المجتمع وتشويه صورته.
منفيون كثر، ومحطات أخرى بانتظار العراقيين، ليعبروها، من منفىَ الى منفى، حاملين احلامهم في الحقائب،وعيونهم شاخصة هناك صوب وطن يحترق!
بكيتُ بأدمع كالجمر، وأنا أستذكر صديقي الدكتور حاتم الصكر، ذلك المنفي وهو يودّع اليمن (منفاه الأول )، بذات الأدمع التي ذرفها يوم دخله قبل عقد ونصف.غادر الصكر اليمن متجهاً صوب أمريكا، ودعها وداعاً آثر على مضض أن يكون بصمت، حرصاً منهُ على قلوب الذين أحبوه من اليمنيين ومن العراقيين المنفيين مثله،ودع اليمن بصمت، خوفاً من أن ينفرط حزنهُ ويبكي منفاه الذي أحبهُ بصدق. خوفاً من أن يضعف لحظة التوديع،وهو الجبل الأشم ، كان الصكرُ كالصقر، حلّق لأكثر من عقد ونصف في سماء الأدب اليمني، اقتنص الفكرة النيّرة، والرؤى الخلاّقة،وألقاها في العقول والقلوب ،ناقشَ وحاورَ ،نصحَ وعلّمَ،ألقى وكتبَ،ساهمَ  وشاركَ، اكتشفَ الطاقات الإبداعية في اليمن وماحوله،واحتضنها فصارت أسماءً لها حضورها في ساحات الأدب، لذا أحبتهُ اليمن،وبالتأكيد انها بكت لوداعه. لم ينقطع الصكر عنا وما انقطعنا عنه، رغم كل الصعاب ،وكان (بريد بغداد) صلة المحبة بيننا، نوصل اليه مانكتب،ويتواصل معنا من خلاله،
التقيتُ حاتم أول مرة في صنعاء التي قذفتني المسافات اليها،صنعاء التي جئتها طلباً للرزق!في نهاية  تسعينيات القرن الماضي، وأنا أدخل جامعتها، وبالتحديد كلية الإعلام فيها ،ارتعشتُ اجلالاً وهيبة وأنا أقفُ في حضرته،وما أن صافحتهُ ، وعرَّفتَهُ بعراقيتي، حتى بَددت كفهُ الحنونة، وذوَّبَ عناقهُ الودود تلك الرهبة عني ،حينهاتلمستُ من أول حديث لي معه،أُلْفتَهُ،فأحببته، ومَن لايحب حاتم، أولايألفه؟ تعلمتُ منهُ الحب، ذلك الحب الذي كان يسبغهُ على الكل ، كان الحب ديدنَ حاتم في علاقاته, ومنه تعلمت ُأيضاً كيف احترمُ الحرفَ، الذي أرادنا أن نجعله متألقاً في معناه، بهياً في طلَته،صحيحاً في نطقه،كان الصكرُ متواضعاً لا حدَّ لتواضعه،ماتسللت الخيلاء ولو للحظة الى روحه السمحة المُحبة،وما أخذ العلو بقامتهُ الباسقة،لم ينحنِ الاّ كما تنحني السنابل الملأى، لم تستهوِ الصكر الصفوف الأمامية يوماً ، وأذكرُ يوم رافقتهُ والشاعرة اليمنية العذبة ابتسام المتوكل، لحضور احدى الفعاليات الأدبية في المركز الثقافي اليمني في صنعاء، وكيف اقتادنا برفقٍ بالغٍ للجلوس في وسط الحاضرين، قال لنا: أفضلُ مكان لنا هو هنا لنسمع ونستمتع، ونكون قريبين من بعضنا، من يومها انحنيتُ تقديراً له،
هذا هو الصكر الذي لا أدري لِمَ أحسستُ ببعده اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، هل لأنني كنتُ مطمئناً عليه وهو في اليمن، يعيشُ كريماً عزيزاً وسطَ من أحبوه؟،هل برحيل الصكر  عن اليمن، انقطع ذلك الشعاع البهي الذي كان يصلني باليمن التي أحببتها وعشقتها؟آه! كنت أحس بقربك مني كقرب اليمن ياحاتم، ابتعدتَ، وها أنذا أغور في الحزن بعيدا،
كنتُ أعدّ الأيام، وأحلم بعودة العراق للعراقيين،كم تمنيت أن يكون العراق وطنا آمناً لتعود أنت ومن أحب، لطالما عللتُ بعادكَ ، وقلتُ لاضير مادمت أنتَ في منفى قريب،لا أريد لك ياصاحبي منفى آخر ، لا أريد لك منفى بعيداً،آه! لا أريد لك أي منفى،
كنتُ في الليالي الممتدة ، وبعيداً عن أعين الظلاميين أرسمك قمراً في سماء العراق،وأسأل بحرقة، مَن هجّرَ الأقمار ؟،مَن جاء بالظلام؟
حلمتُ بعودتك، وها أنا أفزّ على رحيلك،لأعود ثانيةً وسمائي ننتظر ونحلم من جديد ، حاتم يا صديقي، سماؤنا معتمة، وقلوبنا حرّى،لكننا وعلى الرغم من ذلك كله نتحسس ضوءك، ونتلمس وجودك معنا،ندعو لك بالأمان، ونتمنى لك السمو،سنظل معك ، ستظل معنا ،حاضراً بذلك الود الذي تقاسمناه لنختصر تلك المسافات الظالمة