في الذكرى السادسة والخمسين لغيابه: السيّاب:شح الحياة وعطايا القصيدة

شِحّ الحياة  وعطايا القصيدة
في الذكرى السادسة والخمسن لغياب السياب
1-
لم تهبْ الحياة الشاعرَ بدر شاكر السياب الكثيرَ من أمنياته البسيطة،  بل وسمت أقداره بالتعاسة التي جابهها بكفاح سيزيفي، وكدٍّ ستكون القصيدة ميدانه الأهم، ربما لأنها المساحة الوحيدة التي تمكن أن ينتصر فيها ويتحدى ألم تلك الأقدار. وهذا ما يستعاد  بيننا كلما هطل المطر واقترب الميلاد مؤذِناً بسنة جديدة ، فتطل أبياته منشداً للمطر ترن في الذاكرة، وتعيده إلى مسامعنا وأعيننا وذاكرتنا، فأي خلود يطلب الإنسان في حياته سوى ذلك؟
هو الذي وُلد يتيماً ثم تعرض لعناء النشأة  وضرائب السياسة وعنائها ، ثم أسلمتْ أيامَه للمرض الذي طال حتى ختم  قبل ستة وخمسين عاماً وفي أواخر شهركهذا رحلته القصيرة (38 عاماً) التي  سيخرج منها بحسابٍ رياضي الكثيرُ من السنين بددها المرض واستهلكتها السياسة والنشأة المكللة بالحرمان العاطفي والأُسَري. لم تكن أمنياته عصيّة أو كثيرة، لم يُردْ أكثرَ من دفء البيت وحضن الأم ثم حنان المحبة وحيازة الجمال..  حتى ليتمنى في عصف حرمانٍ وجفافٍ عاطفي أن يصبح  ديوانه المرقونة قصائده  في دفتر تداولته عذارى الدراسة وزميلاته ،ووصفه بأنه( ديوان شعر ملؤه غزل ..بين العذارى بات ينتقلُ) :
ياليتني أصبحتُ ديواني         لأفرَّ من صدرٍ إلى ثانِ
ولقد تركت في نفسه واقعة الدفتر الشعري المستعار أثرها، فبعد قصيدته          (ديوان شعر) التي استشهدنا بأبيات منها ، والمؤرخة في 26-3-1944 كتب  قصيدة أخرى من نظمه التقليدي المبكر عنوانها (عودة الديوان)أرّخها في 12-4-1944  صدَّرها  بإهداء إلى ديوانه ( العائد من تجواله بين العذارى ،ذلك الزورق المتنقل بين موج النهود) وكأنها تعيد -وتكرر- تلك الأمنية بأن يغدو المثال(الديوان) شيئاً ملموساً في نواظر قارئاته ، أو أن يصبحن في حوزته كما كان ديوانه بينهن:
بين العذارى بات منتقلاً        ياليتني سائرٌ في أثرهْ
وقد وصفه هنا بأنه:
زورقُ حبٍّ شراعه الغزلُ      مابين موج النهود ينتقلُ
ولعل هذا النوع من النظم رغم تواضعه -لأن الشاعر كتبه في فتوة قصيدته – جدير بدراسة مستفيضة عن الصياغات الثانية للنص وجدواها .. وما يظهر جديداً في صياغتها الثانية وما يختفي أو يتحور.
وأن يكون الشاعرُ ديوانَه، في ظني، هي  إحدى أمنيات السياب  الجديرة بوقفةٍ تحلل نزوعه إلى تلمّس أو تجسيد ما حوله.وهي نزعة تلخصها في فترات لاحقة من تطوره الشعري أسئلتُه العميقة  التي نمثل لها  بخطابه لنهر قريته بويب: أغابة من الدموع  أنت أم نهر؟
وخطابه لقريته جيكور المشحون بالأسئلة القدرية الهائلة:
جيكور..ماذا ؟ أنمشي نحن في الزمنِ
أم أنه الماشي
ونحن فيه وقوفٌ؟
أين أوله؟
وأين آخرهُ؟
هل مرَّ أطولهُ ٍ
أم مرَّ أقصره الممتد في الشجن؟
لم يملك السياب من الأسلحة ما يدرأ به تلك الأقدار.لذا  كانت  أدوات السياب ووسائله شعريةً دوماً. بقصيدةٍ يبوح بأعز أمنياته:
ليت أن الحياة كانت فناءً-
قبل هذا الفناءِ،
هذي النهاية،
ليت هذا الختام
كان ابتداءً.
القصيدة التي كانت سلاحه في ضعفه وحزنه ومرضه. كلما قاربَ الغياب حضرت.
وفي أفيائها يستظل ويبوح بما يتكتم عليه في حياته، فتمنحه ذلك الأمان المفتقَد والعاطفة المنشودة. في متنها يعيد ترتيب الأشياء والموجودات كما يتمنى أن تكون عليه، وفيها يستعيد طفولته الضائعة في موج الحرمان الذي وسم حياته، فما سيل الأمنيات هذه إلا مخيلة طفل يكوّر من الكلمات ما يشبه اللعبة الغريبة  التي يتخيلها ويهفو ليحصل عليها،  ها هو كطفل يجلس ليناجي بويب :
أود لو أخوض فيك أتبع القمر
وأسمع الحصى يصلُّ منك في القرار
صليل آلاف العصافير على الشجر.
..أود لو غرقت فيك ألقط المحار
أشيد منه دار ..
وفي مرضه الطويل الذي نهبَ جزءاً من حياته القصيرة ،لم يطلب من ربه -لابساً قناع أيوب – سوى أن يعيد له ماكان عليه:
يا ربِّ   أرجع على أيوب ماكانا
جيكورَ والشمسَ والأطفالَ راكضة بين النخيلاتِ
وزوجه تتمرى وهي تبتسم
أو ترقب الباب، تعدو كلما قُرعا:
لعله رجعا
مشاءةً دون عكازٍ به القدمُ
3-
إن قراءة السياب في ذكرى رحيله – ولو بعد أكثر من نصف قرن – تشي بحضوره شاعراً يستعيد بالقصيدة وعطاياها  ما لم تمنحه الحياة بشحِّها الذي آلمه وأودى بحياته مبكراً.فكأنه يثأر من الحياة بتلك العوالم التي يشيدها في قصيدته.وأنا هنا أستخدم  (القصيدة) بصيغة المفرد للتعبير عن سير تجربته.فهو بموازاة مرضه، وتنقُّل جسده بين مشافي المدن البعيدة والقريبة ،وحتى مماته غريبا، لم يكتب سوى مفردات قصيدة طويلة  تتناهبها  موجات الرغبة و قسوة القدر.الرغبة بأن يظل له حضوره ، والقدر الذي لا يمنحه إلا المزيد من الألم. وتعميقاً لمقاومة موته أصرَّ في صحو ذاكرته وعافية جسده أن يواصل تجديد القصيدة ،وإثقالهابالرموز التي أقبل عليها كأنما ليعوض بها  عما أفقدته الحياة من معانٍ ،وهي  رموز قادمة من ماضٍ إنساني مشترك غالباً، وذاكرةٍ غيبية عالية التوتر والتعبير المؤثر والغنى المضموني .فإذا كان الحرمان هو الحصيلة العمرية القائمة، فإن له في مخزون قصيدته من الرؤى  السحرية والطفولة والإشارات والأخيلة ما يعوضه عن ذلك.
لقد أقام في بيت قصيدته ، وعاش حياتها متنازلاً عن بيت الواقع؛ لأنه  لم يحزْهُ بأمان ودون خوف، ونائياً عن مساحة التمني التي لم يجرؤ على أن يقولها.كانت أمواج السياسة الغادرة  والظلم الإجتماعي وعلل الجسد تعصف به، فيلوذ بالقصيدة كالفلك الذي ينجيه من الغرق.
في واحدة من قصائد مرضه وقبيل رحيله يكتب من سريره معترفاً :
فأنا فتى ً أتصيد الأحلام
يالك من فراشات جميلة
أتصيد الأشعار فيها والقوافي والغناء.
وعندي أن قوْسيْ حياة السياب أو جملة حياته توجِز هذا الصدع بين ما عاش وما تمنى.. وفي عملِ مخيلتِه في القصيدة وخذلان واقعه الحياتي.
قصيدة السياب هي طوق نجاته  ،وفيها درسٌ لقارئ شعره وسيرته بأنه انتصر بالكتابة ،ونال في ملكوتها ما لم ينله في حياته. بل ربما ستبهر القراءاتِ التالية َ لموته تلك القدرةُ على قطاف ما في شجرة الشعر من ثمار القصائد.ومن جهة أخرى نواله ما حرمته منه الأ قدار.
هاهو يودع الحياة  ليلة إحتفال العالم يميلاد المسيح  الذي ترمز في قصيدته نموذجاً للفداء .فكأنه اختار أن يرحل إلى عالم الغياب ليتوحد به.كما أنه أرَّخ بالمطر وهو من أهم إشارات قصيدته ودلالاتها لفصل التجدد والإنبعاث ، حيث يقوم تموز من رقدته وغيابه، فتعود الفصول ربيعاً بعد المطر. المطر الذي أنشد له وأنزله رمزاً يهطل في القصيدة ويلازمها كلما تجدد.. وهاهو ذا  مطر القصيدة يهب كلما استعدنا ذكراه .
تلك مكافأة القصيدة لمن استبدل بها شقاء الحياة وعدلها الغائب..

24-12-2020