مع الدكتور علي جواد الطاهر

علي جواد الطاهر داخل النقد خارج الأسوار

علي جواد الطاهر: داخل حركة  النقد خارج الأسوار الأكاديمية

لم يكن الدكتور علي جواد الطاهر(الحلة- بابل 1919-1996) أكاديمياً يرضيه أن يظل وراء أسوار أكاديميته، بل وجد نفسه بعد عودته من السوربون عام 1952منغساً في قضايا النقد الأدبي التي وجد أنها غائبة عن لائحة الدرس الجامعي، كالعناية بالسرد ونقده، ومناهج البحث وطرق دراسة الأدب، والتوجه إلى النصوص ،تجنباً لعموميات الكتابة النقدية  وانشغالات تاريخ الأدب الذي استقل مادة منفصلة ،لتنشأ  دراسة الأدب عبر نصوصه .

وكان علي جواد الطاهر في ذلك كله يوازن بين عمله التربوي ومهمته في النقد الأدبي.فأدخل دروساً جديدة في البرامج الدراسية لطلبة الجامعة ،وركّز على تحليل النصوص والكتابة، وتعلُّم أسس البحث الأدبي والنقدي وقواعده.فيما تمددت جهوده النقدية في الصحافة والدوريات والندوات والمحاضرات الثقافية،فكانت حيويته باعثاَ لالتفاف طلاب وباحثين كثرٍ حول منهجيته واهتماماته النقدية .ومن جهة أخرى كان وجوده يوازن  بمعرفته بالفرنسية بين الثقل التعليمي والنقدي  للمناهج السائدة بتأثير العائدين من بريطانيا وتحمسهم لمقولات النقد الجديد، وبين ما تقترحه المناهج النقدية الفرنسية من رؤى وتصورات جديدة في حينها.مكملاً هذه المعرفة باستيعاب للتراث النقدي العربي وقراءته بوعي متقدم .وتمثَّلَ ذلك بجهوده في التحقيق والإستدراك والمناقشة لكثير من كتب التراث النقدي والشعري. وانسجاماً مع وعيه بأهمية النقد الحضارية والثقافية فقد ألَّف أول كتاب منهجي في النقد الأدبي تم إقراره مادة لطلاب المدارس الثانوية  في العراق.وبرزت جهوده في الأدب المعاصر حيث حقق ونشر قصصاً لمحمود أ حمد السيد الذي يعد رائد الكتابة القصصية الحديثة في العراق، وقام بدراسته في كتاب آخر مشخصاً دون حماسة لريادته ما في قصصه من إنشاءوكتابة تقترب من المقالة والتعليق على الأحداث ، وهو ما لا ينسجم مع الكتابة الفنية للقصة كما ثبت من مزاياها في الدراسات ا لحديثة والكتابة القصصية في العالم.

لكن ما يلفت الطاهرُ نظرَ قارئه إليه هو محاولة السيد المخلصة في تناول مشكلات واقع المجتمع، وأوضاع العراق السياسية في فترة ذات أهمية كبيرة هي العشرينيات والثلاثينيات التي شهدت نتائج الحرب العالمية الأولى، وتوسع هيمنة الإستعمار الأجنبي في البلدان العربية.وسيجد الطاهر نفسه متطابقاً – رغم اعتراضاته الفنية- مع فكر السيد ومضامين قصصه ذات المنحى النقدي الواقعي التي كتبها  تأثراً بما قرأ مترجَماً  من القصص الروسية .

ولعل ميل الدكور الطاهر إلى المنهج الواقعي في الكتابة الأدبية تولدت من إيمانه

المبكر بأهمية أن يتمثل الأدب معاناة الناس وواقعهم ، وأن يتوافق ذلك مع أسلوب عرض تلك الحبكات السردية  الذي يرى أنه يجب أن يكون واضحاً دون إبهام وغموض، وهو ما سيطلبه نقدياً عند قراءة الشعر ونقده، وما يقدم من تحليلات نصية وتعليقات وشروح للنصوص الشعرية ، فقد أكّد على انكشاف معاني القصائد للقارئ، وأن يكون الغموض الصوري أو اللغوي يشف عن المعنى ليراه القارئ ولا يحجبه عنه تماماً ، وهو ما يعبر عنه بالقول عند تحليل قصيدة للجواهري((الشعر الأصيل لا يعطيك نفسه أول وهلة ، ولا يمنع نفسه عنك تمام المنع)).

ولكن عاملاً آخر كا ن له دور بارز في تكوين فكر الطاهر النقدي ومنهجيته التي تميز بها ، وهي إيمانه بالمنهج التأثري أو الإنطباعي في النقد، ويتجلى ذلك في إيمانه بأدبيىة النقد ، وكونه مجلى للأسلوب الذي يرى أنه يناسب المادة المقروءة نقدياً. وهو يصف منهجه بأنه فني يهتم بعناصر المقالة النقدية التي يبرز فيها للكاتب رأي وشخصية ، وتظل للنقد هويته الأدبية. والطاهر لا يذكر(النقد) إلا متبوعاً بوصف (الأدبي).و لا شك أن في التأثرية والإنطباعية ما فيها من عيوب كالذاتية ،وطغيان الأسلوب والإنطباع على الدراسة النصية للمادة المقروءة، وقد يؤدي تلك القراءةَ كاتبٌ غير محيط بآليات النقد الادبي، فيغلب ذوقه ،ويهمل التعليل مكتفياً في نقد ما يقرأ بالثناء أو الهجاء.وذلك ما كان الطاهر يتجنبه في النقد تنظيراً وتطبيقاً

لقد عاد الطاهر من فرنسا بذلك الأثر المنهجي الذي توقف عند النصية والتأثرية، ولم يعكف على الدرس اللساني الذي قدمته المناهج البنيوية التي لم يكن لها انتشار واسع خلال دراسته في السوربون في الخمسينيات،حيث ما تزال المدرسة النقدية  تحت تأثير اللانسونية والمنهج التاريخي من جهة، ودعاة النقد الفني وفي مقدمتهم سانت بوف.

ولقد كانت الواقعية والإنطباعية مما يتجاذب نقد الطاهر الذي نجح في التوفيق بينهما بجعل الإنطباعية أسلوباً لعرض أفكاره، والواقعية رؤيةً يحلل في ضوئها مضامين الأعمال و يستشف المنحى الإجتماعي فيها.

ومن أكثر إنجازاته النقدية أثراً في الثقافة انتباهه إلى أهمية فن المقالة كنوع أدبي وفني لابد من العناية يه.وكتب في ذلك ما يشجع على كتابة المقالة التي يصفها دوماً بالفنية لتوفرها على عناصر الكتابة الأدبية التي تعتني بالأسلوب وطرق عرض الأفكار بأسلوب لا يبعدها عن أدبيتها التي يراها شرطاً لها.

ولم يكتف بالتنظير لفن المقالة ،بل طبّق ذلك في تقديم دراسات عنها ، وتواصل اهتمامه بها فحقق كتاب (من يفرك الصدأ) الذي ضم مقالات كتبها  شاعر بارز في خمسينيات العراق الأدبية وستينياتها هو حسين مردان  الذي كتب المقالة الفنية في الصحافة لسنوات، وتميز بأسلوبه العذب في عرض موضوعاته، وبراعته في التقاط مضامينها ، والإهتمام بعنونتها وابتكار مداخل جاذبة للقراءة.

تلك الإهتمامات الموسوعية للدكتور الطاهر جعلته حاضراً في أغلب قضايا النقد والثقافة المعاصرة، من خلال عنايته بالتراث ،وبالكتابة الأدبية وتحليل النصوص، والتنبه إلى السرد القصصي ،والتأليف فيه نقداً ودراسة ومختارات ، كأنما ليكسر هيمنة الشعر على المشهد الأدبي .

لقد رأى الطاهر أن للنقد الأدبي وظائف عدة من بينها ما يرتبط بتعريف لانسون للأدب بأنه تمييز للأساليب ، ومنها مايذهب بالنقد كممارسة إلى أبعد من ذلك ، فيعده ((عملاً وصفياً على العمل الإنشائي حكماً أو شرحاً أو تفسيراً))،ويعني عنده التحليل أيضاً الوقوف طويلاً (( عند النص لإدراك أبعاده وبلوغ أعماقه ..والعودة إلى القارئ بالنتائج)). وينوه هنا إلى ما سمّاه طيات النص وطبقاته لرؤية ما تخفيه .

ولابد عند مسألة الوقوف طويلاً عند ( النص) من التنويه باهتمام الطاهر مبكراً   بالنقد النصي، ودعوته إلى جعله مركز  الكتابة النقدية .ولعل مقالته ( النص أولاً) من أهم ما كتب في الدعوة النصية المبكرة في النقد الأدبي.وهو يرى فيها أن ((النص أهم من النظرية.فالنص يأتي أولاً ، والنقد الأدبي ثانياً)). ويعكف بحكم تأثره بلانسون إلى ضرورة أن يطّلع ناقد القصة مثلاً على تطورها ،وما كتب فيها من نماذج عبر أطوارها، ليعرف قوانين القصة وأساليب كتابتها المتنوعة. ومن لانسون أيضاً أخذ الطاهر نزعة التحقيق والمراجعة والتدقيق ، فكانت له وقفات بالغة الأهمية في مراجعة الكتب المحققة وبيان أغلاطها، وما فات على محققيها من أشياء في اللغة والمتون المحققة .

لقد تجمعت في شخصية الطاهرعناصر فذة تركت أثرها في ما ترك من ثروة في التأليف النقدي والأدبي، ولا شك في أن مكانته تلك خلقها بكدٍّ يدعو للتنويه والتوقف عند دلالته،فهو مؤثر في مجال النقد الإنطباعي،وفي التيار الواقعي في النقد والكتابة، ومبشّر بضرورة العناية بالمقالة الأدبية، وقد حرص على التواصل عبر الصحافة الثقافية حتى أواخر أيامه قبل رحيله،ما جعله في قلب الثقافة العربية والعراقية لا على هامشها.. وهذا ما ستذكره أجيال القراء والكتّاب على السواء ، وهوخلود يستحقه بجهده وإنسانيته ،وإخلاصه للأدب  ورسالته طوال حياته..