المثاقفة بين الإنتحال والتأثر- أ.إبراهيم خليل

جريدة القدس العربي-لندن -صفحة ثقافة-الخميس 19-2-2021 قراءة لكتابي (تنصيص الآخر…) قدمها الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل فشكرا له.

الرابط في الجريدة

في «تنصيص الآخر» للعراقي حاتم الصكر: المثاقفة بين الانتحال والتأثر

 ابراهيم خليل

صدر للناقد العراقي حاتم الصكر دراسة جديدة بعنوان ثلاثي هو «تنصيص الآخر: في المثاقفة الشعرية، والمنهج، ونقد النقد». عن دار خطوط وظلال في عمان 2021 ولأن الكتاب كبير الحجم (264 صفحة) متعدد الموضوعات، فقد اقتصرنا في قراءتنا الأولى له على بعض ما احتواه من دراسات وأبحاث، استوقفتنا بما فيها من وجهات نظر جديدة.
فالمؤلف الصكر في مقدمته يلح بشدة على أن المثاقفة ـ أي تبادل الأثر والتأثير بين الآداب العربية وغيرها من أوروبية وأمريكية ـ لا تنفصل قطعا عما يعرف بالمقارنة الأدبية comparative فكل منهما تؤدي إلى الأخرى.
سواء اتبعنا في دراستنا الاستقصائية الأعراف الفرنسية للأدب المقارن، أو الأمريكية التي لا تشترط التأثر المباشر في مواقفها التحليلية من نظرية المقارنة. ولهذا فإن اقتراب الشاعر العربي ـ مثلا ـ من الآخر ـ وإن لم يقم اقترابه على الاقتباس أو التضمين ـ فإن هذا الاقتراب يكسبه رافدا مهما من الروافد التي تؤدي لتعميق مجرى الحداثة في هذا الشعر، وتبعا لذلك يجني الشعر العربي من ذلك ثماراً جديدة.
وفي ضوء ذلك يحاول الصكر أن يجيب عن السؤال الذي يعنيه أدبيا بتنصيص الآخر. وهنا لا بد في رأيه من النظر في ثلاثة أطراف، هي: المؤثِّر، على سبيل المثال إليوت، فهو مؤثر بالنسبة لصلاح عبد الصبور، والمتأثر، صلاح عبد الصبور في مسرحياته الشعرية فقد تأثر بإليوت، والأثر أو التأثير، وهو التنبيه على الوجوه التي يتجلى فيها ذلك الأثر داخل النص موضع الدراسة المقارنة. وتبعا لذلك تقوم الدراسة المقارنة عند الصكر على ثلاثة أركان، أو كما يسميها مستويات هي: المستوى المقارني أي الإجرائي، والمستوى الأيديولوجي، وأخيرا المستوى الفني.
فعلى المستوى الأيديولوجي، ينبغي لنا أن نسعى لتحجيم الاستشراق، أي لا ضرورة للنظرة المرتابة نحو الأدب الغربي. أما على المستوى الفني فينبغي ألا نغض النظر عما يتراءى لنا مما يعد سرقة أدبية من سرقات المحدثين. وأن نفرق بين ذلك وذلك الذي يعد من قبيل التناص اللاشعوري، أي غير المتعمد، وغير المقصود. وفي هذا السياق يشير الصكر لدراسة إحسان عباس بصفتها نموذجا لبعض شعر البياتي (1955) وما فيها من تنبيه لبعض التوافق بينه وبين إليوت على مستوى الصورة، والمعادل الموضوعي.
وبالقدر نفسه يشير لما نشر عن اقتباسات بدر شاكر السياب من الشاعرة إيديث سيتويل، ولا سيما من قصيدتها المشهورة «ما يزال المطر يسقط» التي ظهرت منها اقتباساتٌ في قصيدة السياب «أنشودة المطر» وذلك ما تنبه له كل من نذير العظمة ومحمد شاهين.

أدونيس وسرقاته

وفي هذا الفصل الجيد من كتابه «تنصيص الآخر» يتناول الصكر سرقات أدونيس، لا بصفتها ضروبا من التناص، بل بصفتها انتحالا مثلما جاء في عنوان كتاب كاظم جهاد «أدونيس منتحلا» (1993) وما كان أومأ إليه المنصف الوهايبي من استنساخ أدونيس الحرفي لبعض كتابات النفري (محمد بن عبد الجبار 354هـ) وما أكده عبد القادر الجنابي في كتابه الموسوم بعنوان «رسالة مفتوحة إلى أدونيس» التي لم يكتف فيها باتهام الشاعر المذكور بالسرقة والسطو وحسب، بل يتهمه علاوة على ذلك بعدم فهم الصوفية، والتصوف، في انتقاد غير مبطن لكتاب أدونيس عن»الصوفية والسيريالية» (1992). فعلى الرغم من أن هذا الكتاب حظي باهتمامات ذوي البصر بالتصوف، إلا أنه، في رأي الجنابي، وفي رأي الصكر، يضيف للشاعر السوري المزيد من الفضائح، بدلا من الإنجاز الشعري والفكري. ولهذا يدعو الصكر، في نهاية هذا البحث السجالي عن المثاقفة الشعرية، لعدم الخلط بين السرقات والتأثر، والحذر من أن تعد مثل هاتيك السرقات ضربا من التثاقف، إذ ينبغي التفريق بين الاقتباس الحرفي، والأخذ المباشر الذي يبلغ حد السطو على أفكار الآخرين، ورؤاهم الشعرية، وبين الأثر الذي يقع الشاعر تحت سحره وقوعاً غير شعوري.

التوازي بدلا من التأثر

يحدث أن يتناول عدد من الشعراء المنتسبين لثقافات متعددة موضوعا واحداً، فتظهر في أعمالهم تلك بعض وجوه الشبه التي تستدعي الدراسة المقارنة، على الرغم من أن ذلك لا ينسحب عليه ما يقال عادة عن الأثر والتأثير. ولذلك لا تقوم المثاقفة الشعرية لدى حاتم الصكر على التأثر وحده، بدليل أننا نجد أفكاراً متشابهة تتكرَّر لدى شعراء زاروا أو أقاموا في نيويورك، وكتبوا عنها قصائد. وهذه الدراسة المقارنة لعلها تقوم على مبدأ التوازي، بدلا من الأثر والتأثير. فالشعراء الذين كتبوا شعرا عن المدينة المذكورة كثر، بدءاً من وايتمان صاحب «أوراق العشب» وأمين الريحاني، ولوركا وجبران خليل جبران، مرورا بالبياتي وأدونيس ومحمود درويش وراشد حسين وسعدي يوسف، وانتهاء بالعراقي سركون بولص، وحسام السراي. فعلى الرغم من التباين اللافت في اتجاهات هؤلاء الشعراء، إن كان الأمر على المستوى الأيديولوجي ـ البياتي الماركسي ـ أو الفني ـ أدونيس السيريالي ـ أو النفسي ـ حسام السراي، وسركون بولص، أو الثقافي ـ جبران، والريحاني ـ فإن هؤلاء الشعراء جميعا يلتقون على رأي واحد، ونظرة واحدة، وهي هجاءُ ـ إذا ساغ التعبير- هذه المدينة، جريا على مذهب الأمريكي وايتمان، الذي تعزى إليه المحاولة الأولى على هذا الصعيد. ونعني بها هجاء المدن. فالمؤلف لا يفتأ يعزو لرواد المدينة من الشعراء العرب أمثال جبران والريحاني والأجانب أمثال لوركا وسنغور، والمعاصرين أمثال البياتي وأدونيس وسعدي يوسف وراشد حسين ومحمود درويش، المواجهة الضدية لها بصفتها كيانا من الإسمنت المسلح، الذي يفتقر للحياة، ويخلو من الروح. فهي عند بعضهم حشد من الثياب بلا رؤوس، وعند آخر صدأ يملأ الجسور، وفراغ يعم القلب. وعند شاعر آخر أرض الزيف. وهي عند آخر هيكل عظمي مكتمل بروح هزيلة، لا تدب فيه الحياة. وهي عند محمود درويش في قصيدته «طباق» (2003) المهداة إلى إدوارد سعيد بعد عام من وفاته بابل القديمة، أو سدوم. وعند حسام السراي لا تعدو كونها حانة كلّ روادها من الكلاب. وعند أدونيس في «قبر من أجل نيويورك» (1971) تمثال امرأةٍ ترفع خرقة في إحدى يديها، فيما تخنق باليد الأخرى طفلة اسمها الأرض، في إشارة ساخرة منه لتمثال الحرية.
يستخلص الصكر من هذا التتبع الاستقصائي لصورة نيويورك في قصائد من الشعر العالمي، والعربي، إن الشعراء قد يتفقون من غير تواطؤ على الدخول في موضوع ما، والخروج منه بالشيء ذاته، أو التصور نفسه عن ذلك الموضوع. وهو قريب مما سماه العرب قديما «التوارد» فجل الشعراء الذين ذكرهم، وذكر قصائدهم، دخلوا نيويورك حالمين، وخرجوا منها ثائرين ساخطين، لأن المدينة لم تكن كما توقعوا، بل كان العشبُ فيها دولارا، والكنيسة مصرفا، ودار الأوبرا بنكا. وهي أشبه ما تكون بوحش حجري، وحانة للكلاب، في شارع يطلق عليه شارع الملوك. وهي فيما يؤكده أمين الريحاني (1910) مجد كاذبٌ، وقلبٌ خاوٍ.
وفي الكتاب الذي يضم دراسات عدة يقف المؤلف بنا إزاء ركن آخر من أركان المثاقفة الشعرية، ألا وهو تنوع المؤثر، وتنوع ضروب التأثر الناجمة عن تنوع المؤثر، واختلافه من حين لآخر. وفي آخر يقف بنا عند الاستشراق، وارتباكات الهوية، وفيه يجد القارئ تحليلا شيقا لقصيدة درويش «طباق» وهي من ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» وكان المؤلف قد أشار إليها مراراً في الفصل السابق.
وصفوة القول هي أن هذا الكتاب يتضمن فصولا تجمع بين الشمول، للظواهر قيد الدراسة، مع الإحاطة بالكثير من التساؤلات التي يتطلبها موضوع المثاقفة، والمقارنة، والمنهج النقدي.

ناقد من الأردن