نحو دراسات ثقافية نصية

تسعدني إتاحة دراستي ( نحو دراسات ثقافية نصيّة-رؤية نقدية) لمن يرغب من الأصدقاء والصديقات قي قراءتها، آملاً أن تحظى بالأسئلة والمناقشات التي توخيتها من كتابتها، الدراسة منشورة ضمن ملف ( النقد الثقافي والدراسات الثقافية) في العدد الثالث لعام 2021من مجلة (مثاقفات) التي يصدرها من لندن الشاعر والكاتب الصديق أزراج عمر .
نص الدراسة:
نحو دراسات ثقافية نصية

رؤية نقدية

لتحميل المجلة اضغط على التالي:
نحو دراسات ثقافية نصية- د.حاتم الصكر

يبدو أن الوقت أصبح مناسباً ،بعد تزايد الإهتمام بالدراسات الثقافية ،وما عرفته من تشعب ، كظهور الدراسات الحضارية والنقد الثقافي، التحول إلى مقاربات نقدية،ورؤى تراجع المقولات النظرية من مصطلحات ومفاهيم وتطبيقات، نصية
وما يطرأ عليها من تعديلات وفهم ،وتوظيف في الإجراء البحثي أو في الأهداف والوسائل والموضوعات.
أسئلة المراجعة ومبرراتها
لقد كانت نشأة الدراسات الثقافية وانتشارها حصيلة ما جرى من تغير في استراتيجيات الفنون والآداب والكتابة بعامة، بعد أن أفلحت مقولات مابعد الحداثة في اجتذاب المهتمين ، بما يفسَّر على أنه هوامش في بُنى المجتمعات و موضوعات مسكوت عها.تتعلق بالأفراد أو الجماعات المهمشة والثانوية في التراتب الطبقي أو في العرق أو اللون أو الدور الإجتماعي. وترافقَ هذا الإنتقال بالإهتمام إلى هذه الموضوعات، مع بروزالدوافع و المشغِّلات السياسية والإيديولوجية والإقتصادية التي تُذكَر عادةً عند الحديث عن الحاضنة التي ازدهرت فيها الدراسات الثقافية.
تذكر موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي في مادة (الدراسات الثقافية ) التي كتبتها كريس ويدُن المهتمة بالدراسات الثقافية والنظرية النسوية،أن الإهتمام بالطبقة كان من المؤثرات البارزة في نشأة الدراسات الثقافية، مشيرة إلى أعمال غرامتشي عن الهيمنة والأفكار البنيوية الماركسية ممثلة بألتوسير.وقد دعا كل من طومسون وهوجارت ووليامز – من رواد الدراسات الثقافية بآستعادة وتفسير تكوين الطبقة العاملة الإنجليزية، واستعادة الأشكال القديمة للثقافة الطبقية من خلال مؤلفاتهم التي ركزت على تحرير التعليم من النظرات الفوقية والتحليلات الطبقية المنحازة.(1)
لقد جرى ترويج تلك القناعات في مناخ الهبّة اليسارية التي شهدتها أوربا ممثلة بثورة الطلبة ،بمقابل الإنصراف إلى ما يحيط بالنصوص؛ كالتوزيع والنشروجمهور القراء والوعي الجمعي لهم، وإحياء النتاج الثقافي الشفهي والشعبي عامة واستعادته، والوسائط والقنوات التوصيلية التكنولوجية فيما بعد. وهذا يمثل نكوصاً إلى ماكان يُعرف في النقد الأدبي بالعوامل الخارجية.وبرز التحول من (الأدبية) كميزة جمالية وفنية في النصوص، إلى أدبية اخرى ذات بعد أو تصنيف اجتماعي(2) لكنها كانت مناسَبة غير سارة للمشتغلين بالحقل النصوصي الذين تراجعت أو ضعفت دعواتهم للنصوصية وأدبية الأدب في الخطاب الأدبي عامة، وداخل الثقافة التي ستشهد زحزحة واسعة عن مفهومها المتداول حداثياً ،لما جرى أصلاً من توسيع في مفرداتها ،لآختلاط االسياسي والإجتماعي والإقتصادي في ذلك الخطاب ؛ ولانفتاح الأنواع والموضوعات خارج حدود الأجناس ومزاياها الجمالية ،ليكون ممكنا ً تداول ذلك الإختلاط ،فتغدو النصوص محفلاً جامعاً لمعانٍ تقود إلى الأثر غير الأدبي أو الجمالي فيها…
وتلخص ويدُن تعريفها بالدراسات الثقافية بفقرة توجز فيها ما أصاب النقد الأدبي وميدانه (=النصوص)، منها أن الأدب ((يصبح واحداً من من عناصر دراسة القضايا الأشمل للثقافة والإيديولوجيا والتاريخ الثقافي)). (3)
إن ذلك ينزع عن الأدب أدبيته من جهة ، ويدرجه في حقل إجتماعي وتاريخي من جهة أخرى.و تتكرس لدينا الخشية من أن يفقد الأدب هدفه الجمالي المتجلي في أدبيته وجمالياته النصية ،على أيدي الكتاب أو الدارسين الثقافيين المتعجلين وغير المتسلحين بما يكفي من المفاهيم عن صلة الأدب بالثقافة، وبانعكاساتها النصية أو موقعها في النصوص ،ويسيء من جهة أخرى إلى توصيل الرسالة الثقافية متعددة المؤثرات والنوايا والتوجهات والأهداف بقراءات خاطئة، تلك التي ينجزها دارسون أكاديميون في الغالب نزلوا بالمظلة إلى الدراسات الأدبية والنقد الثقافي!(4).بتعبير أزراج عمر.
العودة إلى البُنى النصية : مقترح
يلاحظ أي قارئ للدراسات المنتمية لتيار الدراسات الثقافية النقدية أنها لا تعتني بالسياقات الفنية للنوع الأدبي ،ولا تولي اهتماماً للتحولات الأسلوبية حتى ماكان منها متصلاً بالمؤثرات الخارجية ، إلا بقدر محمولها الإجتماعي والسياسي والإيديولوجي. فنحن لم نلحظ أي استنتاج أو استقراء لتحول الشكل الشعري مثلاُ،وصلته بالنثر وتأثره بأعرافه وسرديته وإيقاعاته، حتى من زاوية كونه (ثورة) على المألوف، وله محمول يمكن وصفه باليساري لما فيه من مضامين ودلالات، و حرية في التناول وكسر للنسق السائد في الكتابة الشعرية. ولم نشهد عكوفاً على السرد من حيث سبل أو تقنيات المتون السردية إلا بقدر محمولها الإجتماعي والإيديولوجي؛لأنه حين يتم التعرض للأشكال، فإنما يجري ذلك على أساس الإنفتاح لاستيعاب محمولات غير أدبية لخدمة المضامين المتوخاة، أو يتم تصنيف النصوص بحسب توجهها المضموني ، ككتابات النساء والملوّنين والعمال وصنّاع الموروثات الثقافية الشعبية .
وأرى أن ربط الدراسات الثقافية بالنص سيتيح التعرف على موقع الكاتب في مجتمعه وتمثلاته ،والتعرف على درجة وعي الجماعة المكونة لوعيه.. وهنا يكون المسار البحثي النقدي متجهاً من النص إلى خارجه، فيما تتركز جل فاعليات الدراسات الثقافية التقليدية إلى المجئ إلى النصوص من خارجها، لتفحص ذلك في الدلالات النسقية التي تنتجها النصوص.وكأننا بذلك نلغي زمناً طويلاً من التقدم نحو النقد النصوصي الذي لا يحتفي بما هو خارج النص لبيان شعريته، لكون النص مادة لغوية وصورية وإيقاعية ذات دلالة في الأساس.
علل وأسباب: جذور الإشكالية
يمكن أن نعد تاريخ الفكر الإنساني سلسلة من الإنشقاقات الكبرى والتجاوز والإنزياحات.وبذا تتبدى لنا صلة الدراسات الثقافية بالفكر مابعد الحداثي. لقد تركت هذه الحاضنة أثرها الكبيرعلى بعض الدراسات غير الملتزمة بالنظرية الثقافية كمفاهيم ،بما أشاعته من أجواء سياسية شعبوية .وقد حصل ذلك على مستوى المعرفة والعلم معاً..تجاوزٌ مستمر وتخارجٌ يقرب من التمرد ليصل إلى الثورة .وذلك ما تؤكده معاينة مقولات ما بعد الحداثة وتجلياتها ومظاهرها،والتي ولدت في مناخها الدراسات الثقافية واكتسبت مزاياها.
في حوار حصري وهام مع ستيواررت هول أحد أبرز منظري الدراسات الثقافية ،عقده الشاعر والكاتب الجزائري أزراج عمر، يقول مبيناً خلفيات نزعته كدارس ثقافي ((أقف على اليسار من الناحية السياسية، وأتماهى مع المضطهدين سواء كانوا محليين ضمن الحركة العمالية ،أو كانوا من فقراء العالم الثالث. إذن، فأنت ترى أن طريقي إلى اليسار، وطريقي إلى الجدل مع الماركسية، وطريقي إلى الدراسات الثقافية قد أتت من كل هذا.. لقد أصبحتُ نوعاً مختلفاً من الماركسيين بسبب التجربة الإستعمارية ،ونوعاً مختلفاً من الأشخاص المهتمين بالدراسات الثقافية، بسبب انشغالي بمحاولة فهم الثقافة الإستعمارية))(5).
وإذا كان انتماء هول نفسه إلى الفئات المهمشة عرقياً بسبب الكولونيالية وتمدداتها – هول مهاجروصل بريطانيا من كينغزستون عاصمة جاميكا-
فمن الطبيعي أن يتناغم تفكيره مع إيقاع النزعات المتوجهة لتطويع النصوص – حتى الأدبية منها -إلى تلك الرغبة والشوق الحارق لديه لتحقيق هويته وتفحصها ، والسؤال عن موقعه وسط ثقافة استعمارية ،وجد على الطبيعة مايزيده عداءً لها، وتلمّسَ العنصرية والتفوق العرقي الموهوم على الشعوب الفقيرة وثقافاتها.
هكذا نفهم قوله في حوار أزراج معه ((أنا لست دارساً أدبياً على نحو مفصل فقط، بل أنا مهتم بالأدب كموشور مهم أفهم من خلاله الثقافة، والموسيقى، بنفس الطريقة، والفنون المرئية بالطريقة نفسها، والرسم، والأغنية الشعبية))(6) وهو يلتقي مع ما ذهب إليه نقاد الشعر الغربيون،فقد أكدوا أن هذا يجعل عربة الدراسات الثقافية في مسارها الصحيح ،ويعكس المقاربة التي بالغت في نفي الأدبية، وشطبت الأدب كنشاط حيوي فردي، لذوبان فرديته في وعي الجماعة.والخلل في ذلك كامن في محاولة تصوير النصوص برمزيتها ودلالاتها المتعددة وكأنها لا تحوي (الثقافة ) المطلوب الإمساك بمؤشراتها في القراءات الثقافية، فيكون الحل هو الهروب إلى البحث عن الأنساق ،وهي غالباً غير أدبية، بل تأويلات وتقويلات سياسية أو اجتماعية للنصوص.
في كتابه(نظرية الأدب المعاصر وقراءة الشعر) يؤكد ديفيد بوشبندرالكيني المولد صلة النص الأدبي بالثقافة لأننا (( ندرك النص الأدبي، وكأنه ينطوي بالفعل في بنياته ودينامياته على ديناميات الثقافة وبنيتها عموما)).
ويضيف ((إن النص يُرى،بالأحرى،باعتباره تمثيلاً جزيئياً للنظام الثقافي ككل.. هكذا يؤكد النص إيديولوجيات الثقافة وديناميتها،وينتجها في الوقت نفسه)).(7)
صحيح أنه يلاحظ عدم إنكار النقاد الجدد ((علاقة الأدب بعناصر الثقافة الأخرى إلا أنهم يميلون إلى التشديد على تفرد النص الأدبي، كوسيلة لخلق انسجام ووحدة في تنافر الثقافة وانقطاعها، وتصبح لغة الأدب وسيلة خاصة ))(8) ولكنه بهذا الإستدراك يكاد أن ينزع اللغة الخاصة للأجناس والأنواع الأدبية.وهي عماد أدبيتها وانتظامها أو شعريتها بالمفهوم البنيوي.و تكمن خطورة القراءة غير الأدبية في أنها تزيل مكانة النص في عملية التلقي ، حيث يتم التركيز لدى القارئ على المعاني التي تقود إلى كشف الأنساق المضمرة في النصوص، وافتراض تطابق المتون مع تلك الإفتراض وتقويل النصوص ممكن في هذه الحال ، بل تحريفها ..
يتحصل لنا أن ثمة قناعات مميزة لخطاب الدراسات الأدبية ، يمكن إيجازه في احتمالية النصوص وإمكانات استيعابها في خطابها الأدبي:
– التشكيك الذي يعده ليوتار(( نتاج التقدم في العلوم في العصر المابعد حداثي.))(9).
– تأكيدها على الذات الجماعية تبعاً لانشغالها بالهوية والحقوق العامة ، بمقابل رفض الذات الفردية لكتّاب النصوص وفرديتهم وانعكاس ذلك من وجهات نظرهم ، حتى في القضايا التي تهم ضمير الجماعة أو مصيرهم..
هنا أيضاً سنستعيد المؤثر الذي يقدمه ليوتار في (الوضع مابعد الحداثي) كاشفاً ذلك الجذر المعرفي الرابط بين خطاب مابعد الحداثة والدراسات الثقافية، حين يقول:
((إن أي ذات لاتساوي الكثير))ثم يستدرك بالقول (( لكن ما من ذات هي جزيرة منعزلة، كل منا يوجد داخل نسيج من العلاقات هي أكثر تعقيداً وحركية من أي وقت مضى..)) كما أن الإنسان والكاتب ضمناً ((متموضع دائماً في موضع تمر من خلاله أنواع متعددة من.الرسائل)). (10)
– ربْطها الثقافي بالإجتماعي والإقتصادي والسياسي. ذلك الربط الثلاثي الذي يقيد مداها ،رغم أنه مبدئياً يُعد توسيعاً لمستوى التعدد النوعي للثقافة كخطاب. وهنا نتساءل هل يعادل ذلك الإيمان بالتعدد النوعي للنصوص التنوع الثقافي ذاته اجتماعياً،نظراً للتنوع العرقي لدى رواد الدراسات الثقافية؟
– تقزيم المهمة الجمالية للنصوص وإيلاؤها أقل قدر من الإهتمام إلا بما ينعكس فيها من ملامح ( ثقافية) وقناعات سياسية و اجتماعية. فيما نرى أن النصوص تصبح مجالاً للتمظهرات الثقافية، ولكن انطلاقاً من أبنيتها ،وليس بافتراضات مسبقة كما جرى في كثير من دراسات الأكاديميين حول ذلك.
يتحفظ بوشبندر على ذلك لأنه ((يؤدي إلى عزل الأدب كحقل منفصل عن النشاطات الثقافية الأخرى)) .(11)
وهذا ما يؤكده هول في حوار أزراج عمر معه((إن مسألة العقل، ومسألة الثقافة عندي قد تشكلتا مسبقا. فأنا بصدد العمل على قضية الثقافة، وكنت مهتما بالأدب جزئيا بسبب ما يقوله عن الثقافة الواسعة)).(12)
ويمكن أن نفسر ذلك بتوقعات القراءة التي تفترض أن النص الأدبي سيحمل الكثير من المقاربات الإجتماعية والسياسة والإقتصادية التي تبحث عنها وفيها الدراسات الثقافية السائدة غالباً.وبالضد من ذلك ستعزو تلك القراءات خلوَّ النصوص الأدبية بسبب طبيعة خطابها من تلك المؤشرات، إلى سيطرة النسق والجمود أو المحافظة الجمالية على الأعراف القارّة وسواها مما صار يتهم به القول المعاصر والموروث معاً بغض النظر عن حداثته ، بل ستتهم حداثته ذاتها بأنها رجعية، وهو وصف أطلقه الدكتور عبدالله الغذامي في مناسبتين مختلفتين تماماً: على أبي تمام مرةً، وعلى أدونيس أخرى.!. و يجري تعميم ذلك من بعد على النصوص المجتلبة للتطبيق من مناطق إنتاجها الأدبي المغلف بالمجاز، إلى المحاكمة الواقعية التي تحيل الإشارات إلى وعي نسقي حقيقي ،لا إلى فعل كلامي مجازي. فورود عبارة مثل وشر الشر ما قال العبيدُ للفرزدق تعني لدى الغذامي ((حمايةً للسمو الطبقي للفئة الفاضلة)).(( 13) مهملاً سياق الخبر الذي ينص على المناسبة، حيث قرأ الشاعر نصيب بين يدي الخليفة سليمان بن عبدالملك أبياتا يبالغ فيها بمدحه : قفوا خبروني عن سليمان،بينما قرأ الفرزدق وصفاً لركبٍ كأن الريح تطلب عندهم لها ترةً، مما أغضب سليمان من الفرزدق فحرمه من العطاء وأجزله لنصيب! في حين عاب على الدراسات الثقافية متابعاً كلنر في قوله إنها ((احتفلت بالهامشي في مواجهة ما اصطلحت عليه بالراقي)). (14).وها هو يقف هنا مع الراقي-الخليفة ضد الأدنى=الشاعر. ونذكر أن الغذامي وجّه في السياق ذاته نقداً للدراسات الثقافية، كمعاناتها من فقر نظري، وتمجيدها للخطاب المعارض لمجرد أنه معارض،وتركيزها على العوامل الإقتصادية والمادية، وتأويل كل فعل بحسب شروط الإنتاج والإستهلاك.
– العودة بالنص النقدي إلى العمل خارج حدود النصوص وتجاهل سماتها الفنية والجمالية ، لصالح تناول ما يخص مهمتها الجوانب الإتصالية والإجتماعية والتداولية بشكل عام، حد إتاحة الكتابة في موضوعات لا طائل منها.
وهذا ما ستتلقفه التطويرات أو التمددات للدراسات الثقافية في حقل النقد، فيتم نبذ النقد (الأدبي) وإعلان موته ، لصالح النقد( الثقافي) والنيابة عن التحليلات النصية وعمليات القراءة المجازي؛ لكشف الأنساق المضمرة والبحث عن أدلة على وجودها في تلك النصوص.
يبدو أن الفكرة متجهة الآن إلى تجريم الممارسة النقدية النصية ،واستخلاص الظواهر وتطورات الأنواع والاشكال في الحقل النقدي وعمليات القراءة،وفي التلقي بالضرورة. وصار معتاداً أن نقرأ كلاماً كثيراً عن عدم الحاجة إلى مقاربات نقدية أدبية مهتمة بالجماليات الخاصة بالنصوص، عبوراً إلى قراءة ثقافية مسبقة الفرضيات عن العقل ونشاطه الثقافي في كشف الأنساق المضمرة-حتماً- في طيات النصوص التي تتقاذفها رياح القراءات المنقِّبة ،بما يشبه التحقيق القضائي مع المتهمين، وبما سيجسد التشكيكية التي تتسم بها مابعد الحداثة..
النقد الثقافي مادونا أم ملتون؟
ينقل الدكتور عبدالله الغذامي عن جوناثان كولر تساؤله عما يحدث حين ينصرف أساتذة الادب عن دراسة ملتون إلى دراسة مادونا، وعن شكسبير إلى الدراما
التلفزيونية، والكتابة عن السجائر والسمنة.(15)
وهو تساؤل يجدر بنقاد الأدب أنفسهم طرحه كي يظل للنص مركزيته في الفكر النقدي والدراسات الثقافية أيضاً.وقد رأينا ارتداداً على النصوص، ونزع مرجعياتها السياقية، فقاد التحليل الثقافي إلى الإنهماك فيما اجتماعي أو نفسي بحثاً عن الأنساق المضمرة والأنظمة التي تحكم النص.
لقد جرت قراءة الماضي الشعري باحتقار وتسفيه وتعميم، والأخطر معرفياً هو إسقاط مفاهيم معاصر بطريقة ارتدادية على نصوص تحكمها سياقات تاريخية ومهيمنات تعمل بقوة في إنتاجها.
إن ذلك سينجز دراسات متعالية، فتبعد فنونا ً شعرية بالكامل؛ لأنها أُخضعت لمنظور ثقافي مستحدَث. هكذا تتجسم خطورة الإجراءات لو افترضنا أن الغربيين من نقاد الفن مثلاً ،طبقوها على قراءتهم للفن الكنسي الذي لم يعد له وجود، لكنه ماثل في الذاكرة الفنية كإشارة حضارية ،ولم يتم تحليله بكونه مليئاً بالمضمرات الثقافية! والرسوم والمنحوتات كنصوص بصرية تم وضعها في إطارها الزمني والفني وقت إنتاجها.
بهذا يصعب الحكم على شعر المديح والحكمة والغزل بأحكام عصرية،إلا إذا أرادت القراءات الماضوية والرجعية أن تقدمه كفن مستمر الحضور و نموذج أعلى للتقليد.
لا نستغرب إذن – عند توسيع الإنفتاح النصي على قراءات إجتماعية واقتصادية وسياسية وجماهيرية بمفهوم التلقي – أن نشهد ظهور دراسات تلوي أعناق النصوص لتدخل في ما هو ثقافي، دون تحقق أو تدقيق للقواعد النظرية.
يصف ليتش مقولة ديريدا ( لاشيء خارج النص) بأنها بمثابة البروتكول للنقد الثقافي مابعد البنيوي.(16) يتقل الغذامي تلك المقولة نقلا عن ليتش مجترح المصطلح والمروّج له كمشروع ثقافي ،أراد الغذامي أن يستقر عليه كمشروع له بعد انقلابه على النقد الأدبي وإعلانه موته في كتابه.
ومقولة دريدا لن تكون لصالح فهم الغذامي للنقد الثقافي ،لأنها تعيد الإعتبار للنص وتُبعد ما هو خارجه. وتوقِّياً لذلك يضيف الغذامي تفسيراً للمقولة، بأن ليتش يعدّ (الظاهرة ) أية ظاهرة نصاً .وهو ما سوف يتخلى عنه عند التحليل، نمثل لذلك بمحاكمته لتحول اسم علي أحمد سعيد إلى أدونيس، واستنتاجه أن ذلك فحولة ونسقية متعالية، مغفلاً المشغّلات الإعتقادية لأدونيس في اختيار هذا الرمز الفينيقي في مرحلة من مراحل وعيه السياسي..كل شيء ممكن أن يصبح نسقاً مضمراًعنده، فيقرأ (أنا ) نزار قباني بأنها أنا الفحل الذي تحدث بآسم كل فحل وكل رجل ،هارباً إلى ما هو خارج خارج النص تماماً! ونازعاً عن الأنا الشعرية رمزيتها وما تعنيه كقناع لعاشق مثلا!
يمكن لنا أن نورد أمثلة كثيرة عن إسقاطات القراءة النصية الثقافية للغذامي، ومرجع ذلك إلى أنه قام برفع الغطاء المجازي عن النصوص، وحاكَمها كوقائع لغوية ذات معانٍ ، وليس بكونها رموزاً لها دلالات تخضع لتدرج دلالي وتحويل وتلميح ، تتضمنه الرموز والإشارات والعلامات.
ويفسّر التفوّهات كما تصب في تفسيره للأنساق، ولكي ينزع عن الشعر حداثة خطابه.ثمة واقعة أخرى: جواب أبي تمام حين سأله مستمع لشعره : لمَ لا تقول مالا يُفهم؟ فأجابه: وأنت لمَ لا تفهم ما يقال،فيفسره الغذامي بأنه تعبير عن تعالي الذات ونكرانها للآخر من أب حداثي نسقي لا يختلف عن المحافظين ! متناسياً أن ذلك كان تلخيصاً لرأي أبي تمام ومدرسته حول مهمة المتلقي في فهم ما يقال من شعر، بدل اتهامه بالصعوبة والغموض.( 17)
ثم تصعد المبالغة(الثقافية ) في تفسيرات الغذامي حتى يقول إن عمر بن عبدالعزيز(( هو أول رواد النقد الثقافي)).(18). بعد أن سرد في ثلاث صفحات تقريباً مديحا ً لعدله ،وطموحه لرسم ((علاقة إسلامية إنسانية لرابطة الحاكم بالمحكوم)). ولن يزعج هذا الوصف طبعا فنسنت ليتش الذي لن يقرأ كلام الغذامي لحسن الحظ ،لأنه لا يقرأ العربية !
يصف أمبرتو إيكو الإنسان بأنه (حيوان رمزي)، ويضيف أن ذلك الوصف ((ليس صيغة تخص لغته فحسب ، بل ثقافته أيضاً))(19).وذاك يأخذ إيكو كسيميائي لدراسة دلالات العلامات والإشارات كعلامات المرور وترقيم غرف الفنادق والأنظمة الحياتية المماثلة كطراز الملابس ، فالثقافة عنده قد وُلدت عندما استطاع الإنسان أن يبلورأدوات من أجل السيطرة على الطبيعة..وأن الأداة مرهونة بنشاط رمزي .(20). لكن الرمزية تسقط في تحليلات نقاد الثقافة التقليديين والمناصبين العداء لأدبية الأدب والقراءة النصية المجازية، من ذلك ما وصف به الغذامي كتاب ( كليلة ودمنة) بأنه كتاب مؤسساتي أو رسمي مكتوب للملوك والعقلاء ،وفهمه الخاطئ لرفض المتنبي المقدمة الغزلية التقليدية في عصره-إذا كان شعرٌفالنسيب المقدّمُ/أكلُّ فصيحٍ قال شعراً متيمُ؟ ،وتفسيره لذلك الرفض للتقليد بأنه تحقير للأنثى! وتفسيره الأنا في الشعر بأنها تجسيم وتفخيم للذات بإسقاطه مجازية الضمير وتوسُّع الدلالات.
إن وراء ذلك رغبة في جر النصوص إلى محرقة التمثيل الواقعي لا الرمزي.ولا يكون للبلاغة قديمها وحديثها من دور.فهي مقولات لاترضي المفسرين لأنها تكشف الجانب الخيالي والتصويري خاصة في الكتابة الشعرية.وإذا فقدت لغة الشعر خصوصيتها ورمزيتها، فما ذا سيظل منها؟ ولماذا يجب ان تكون ثقافة النصوص في تعارض مع رمزيتها وتمثيلها للأشياء صورياً؟
الأكاديميون والعمى الرمزي
لقد وصف بارت بعض الأكاديمين بالعمى الرمزي؛ لأنهم لا يرون في النص إلا معنى واحداً هو في العادة حرْفي جداً(21) ونسب لهم العمى الرمزي وليس سواه لاعتقاده بجدوى القراءة التي تحول النصوص رموزاً، تسمح باستخلاص الدلالات حتى الثقافية منها.وهذا ما نقترحه في دراستنا هذه.ونخشى أن تكون التوصلات النقدية الثقافية في مثل قراءات الغذامي تصب في معنى واحد، هو الخضوع لنسق مضمر يكشفه الناقد الثقافي بعصاه السحرية، أي بقراءته الحرْفية لا التمثيلية أو الرمزية.
ولعل هذا ما دعا بعض النقاد إلى التخفيف من حمولة النقد الثقافي الإصطلاحية، بما يقرب من ذلك ويهرب منه ،بل يعيد مقولاته ومصطلحاته، فاقترحوا (القراءة الثقافية) (22) اسماً لهذه المحاولة الخجول لتقريب القراءة من النص ثقافياً، أي بمقترب
مقتَرضٍ من المصدر!.يقول د.محمد عبدالمطلب صاحب المقترح ((إن القراءة الثقافية، هي تلك التي تتجه إلى النص، تتأمله بهدف ردِّه إلى الأنساق الثقافية التي تدخلت في إنتاج خطوط الدلالة، سواء تلك الخطوط الطولية التي تتحرك بالمعنى إلى الأمام، أو تلك التي تفسح الطريق أمامه، ومن هذه وتلك يتحقق ما نسميه (المعنى التكاملي)، وهذه الخطوط الطولية تتعانق مع الخطوط الرأسية التي تحفر في الدلالة للوصول إلى منابعها العميقة أو المضمرة، أي الوصول إلى الطبقات الثقافيةالمترسبة في هذه الأعماق)).
يتضح بمراجعة هذا المقتطف أن مشروع عبدالمطلب يظل أسير مصطلحات النقد الثقافي وخطابه، فهو يستخدم الأنساق الثقافية التي يصفها بالمضمرة ، فينسبها إلى الدلالة المترسبة في الأعماق ،متعامدةً مع ما سمّاه (المعنى التكاملي). وهو لايقدم جديداً سوى تغيير بعض الصفات في سبك المصطلح وإنشاء أفق غامض لها تدور فيه تحت مفهوم القراءة المرن وغير المتعين،ليعود إلى المضمر والشبهات حول وجوده ولو في أعماق النصوص ودلالاتها.
إننا بحاجة لمصارحة نظرية حول الحقل الذي تعمل فيه الدراسات الثقافية عربياً، وصلتها بالتعليم والتربية، وهو مما يسكت عنه المنظِّرون والتطبيقيون في هذا المجال عربياً، فيما كانت الدراسات الثقافية تنحو تعليمياً بالتركيز على ما يعتور المنهج والكتاب المدرسيين، وطرق التعليم وأعرافه، من تمييز عرقي أو جنسي أو طبقي. وهذا ما بدأه الدارسون الثقافيون في الغرب ،ولم ندرك خطورته إلا بقدر ما يتصل بالجانب السلبي من الخطاب ، وما يرفضه أو يعترض عليه.
خاتمة حوارية
قد تبدو مقاربتي مناقضة للأسس أو المنطلقات الإنسانية الحرة للدراسات الثقافية، ونقد أطروحتها بصدد النصوص ومهمتها . وربما كان ذلك انعكاساً لما التقطت من معالجات تزعم الإندراج في الدراسات الثقافية ،دون التمكن من تحقيق ذلك. ربما. ما رصدت بصدد حاضر الدراسات الثقافية المتداولة والمستندة إلى قواعدها النظرية.
لكنني أضع ذلك كله للحوار كي نصل إلى التحقق من القواعد النظرية والمشغّلات والتعديلات أو الإنزياحات التي جرت على منطلقات الدراسات الثقافية، والمحاولة الجادة لأي تعديل أو تكييف يناسب دفاعنا عن أدبية النصوص،والقراءة النقدية الرمزية والجمالية لها ، بعيداً عن تسفيه المنجز الأدبي شعراً وسرداً ونقداً، بدعوى الحاجة لهجْر جماليات النصوص بذاتها ، إيغالاً في حقول أُريدَ لها في بدء التوجهات الثقافية والحضارية أن تكون مساندةً -لا ناسخة – للأدب وموروثه الروحي وتحديثاته وآفاقه الممكنة.
الهوامش والإحالات
(1) القرن العشرون -المداخل التاريخية والفلسفية، موسوعة كامبيردرج في النقد الأدبي9، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة 2005،مادة الدراسات الثقافية، كريس ويدُن ، ترجمة هاني حلمي حنفي ،ص 247
(2) نفسه ،ص 249
(3) نفسه،ص 253
(4) أزراج عمر: ماذا فعلنا بالدراسات الثقافية المستورَدة؟ صفحة( ثقافة).،جريدة العرب ، لندن الجمعة 26/4/2016
(5 ) و(6) حوار أزراج عمر مع ستيوارت هول: أجمل ما أنجزنا في الكاريبي تخريب اللغة الإنجليزية.آخر حوار معه قبل وفاته. صفحة (ثقافة)جريدة العرب-الأحد 26/4/ 2020 ،
(7)ديفيد بشبندر: نظرية الأدب المعاصر وقراءة الشعر، ترجمة عبدالمقصود عبدالكريم، الألف كتاب الثاني،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة 1996،ص 142
(8) نفسه ،ص56
(9) جان فرانسوا ليوتار: الوضع مابعد الحداثي- تقرير عن المعرفة،ترجمة أحمد حسان،دار شرقيات ، القاهرة 1994،ص22 ،ويركز ليوتارأيضاً على تغير وضع المعرفة بتغير المجتمعات؛ لدخولها العصر الصناعي وتأثير التحولات التكنولوجية على المعرفة.نفسه،ص 27
(10) نفسه ، ص35
(11) بوشبندر، ص 56
(12) حوار ستيوارت هول، سابق
(13) د.عبدالله الغذامي: النقد الثقافي- ص138 (14) نفسه ص20 و فكرة الهامشي والراقي في الدراسات الثقافية، ترد بصفات مختلفة. كالمقارنة الطريفة بين الثقافة الشعبية وثقافة الصف أو النخبة كما يسميها آرثرأيزابرجر، واضعاً موسيقى الروك أندرول في قسم الثقافة الشعبية، بينما تناظرها في ترتيب ثقافة النخبة أو الصفوة السمفونيات والأوبرا. يراجَع، آرثر أيزبرجر: النقد الثقافي – تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية ، ترجمة وفاء إبراهيم ورمضان بسطاويسي، المشروع القومي للترجمة،القاهرة 2003، ص194
(15) الغذامي، سابق،ص17. ويمكن التذكير بجدول آيزابرجر في الهامش السابق، وفيه ترد أيضاً الرسوم الإباحية الكوميدية جزءاً من الثقافة الشعبية، بينما عد الأعمال الزيتية – اللوحات من ثقافة النخبة!
(16) نفسه ،ص35
(17) نفسه،ص181
(18)نفسه، ص159
(19) أمبرتو إيكو : العلامة- تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد،منشورات كلمة -أبو ظبي والمركز الثقافي العربي، بيروت2007 ،ص203
(20) نفسه ، ص204
(21) جون ستروك:رولان بارت: ضمن كتاب، البنيوية وما بعدها ، تحرير جان ستروك، ترجمة د.محمد عصفور ، سلسلة عالم المعرفة 206، الكويت 1996، ص 82
ولبارت دراسة حول الأدب في المدرسة يزجي فيها نقده للطرق والأسس التي تقوم عليها دراسة الأدب في مراحل الدراسة في فرنسا، حيث يعامَل النص في المدارس الثانوية موضوعاً للشرح والتفسير المرتبطين بتاريخ الأدب. درس السيميولوجيا، ترجمة عبدالسلام بنعبد العالي،ط2، دار توبقال ، الدار البيضاء 1986،ص78
( 22) د.محمد عبدالمطلب: القراءة الثقافية، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 2013 ويستطرد موضحاً (( لاحظنا ازدواجية القراءة الثقافية بين السطوح والأعماق، وتلازُم هذه الثنائية مع ثنائية الثقافة والنص، حيث تبدأ القراءة من النص لترتدَّ منه إلى الثقافة، وقليلاً ما تبدأ القراءة من الثقافة لتصعد إلى النص)).
وهنا رابط الدراسة في المجلة للتوثيق والإطلاع.