قراءة شحصية لمنجز الفنان الراحل رافع الناصري- العدد 1-السنة الثانية-آذار 2021

قراءة شخصية لمنجز الفنان العراقي الراحل رافع الناصري في العدد الخاص به .وهو الأول -السنةالثانية- آذار -مارس 2021 من مجلة ماكوMAKOU التي يصدرها إلكترونياً من لندن الفنان ضياء العزاوي .
الحفر والشرق والحداثة
مرجعيات الرؤية والعمل الفني لدى رافع الناصري
قراءة شخصية
حاتم الصكَر
1-
يؤرخ الفنان رافع الناصري لتجربته في الرسم والغرافيك بخمسين عاما قضاها دارسا ومدرسا وفنانا متفرغا بين الشرق والغرب، كي لا يقصر المؤئر المعرفي والفني على جهة واحدة هي الغرب الذي اعتاد الفنانون العرب أن ينسبوا إليه تأثراتهم ووعيهم بجماليات الفن وحرفياته .
في محاضرته التي قدمها مسهما في ملتقى صنعاء الثاني للفنون التشكيلية مايس-مايو 2009 يسرد الناصري وقائع ومحطات ومفاصل تشكلت عبرها رؤيته وتواصلَ إنجازه في الرسم والحفر والعمل الفني المصاحب لذلك ، كالتصميم والإخراج الفني والصحافة ،والمدهش هنا أن عرض اللوحات والأعمال الغرافيكية كانت وسيلته للتعريف بتجربته بدءا مما يسميه الدرس الأول الذي يترك أثره عادة في التوجيه والممارسة.
ذلك الدرس يتمثل في بغداد منتصف الخمسينيات حين يعرض جواد سليم على طلاب معهد الفنون الجميلة يدا برونزية عملها لزميله فائق حسن ويطلب نحتها بمادة الطين ، وفي الصين مطلع الستينيات حين يكون الدرس الأول رسم مزهرية ورود متنوعة وحفرها وطباعتها بالأسود والأبيض ، ثم يأتي طور جديد يكتشف فيه الناصري أمكنة كثيرة شرقا وغربا في أوربا وآسيا والبلاد العربية مشاركا في معارض أو عارضا تجربته ، فتتعمق رؤيته بتلك المشاهدات البصرية والثقافة متعددة المصادر.
وعن ذلك يقول الناصري مختتما حديثه عن تجربته الفنية:( تلك باختصار أهم المحطات الفنية التي مررت بها وعشتها شرقا وغربا،إنها اللحظات الرائعة التي تراودني دائما، تشجعني اوتتحداني ، عند مواجهتي سطحا أبيض للوحة جديدة، ولعل أصعب ما في الأمرأنها تفرض شروطها القاسية على حالتي النفسية وتزجني في حيرة الإختيار بين أن أنسى ولا أنسى الدرس الأول في الفن.).
ويمكننا أن نفهم حيرة الفنان المعرفية إزاء المتراكم من المفاهيم والتجارب ما يجعله كما قال مؤخرا في المناقشات الجانبية لجلسات ملتقى صنعاء الدولي للفنون يتمنى التحرر مما درس ويصوت لصالح الفطرة والموهبة دون تعالٍ على التجربة والقراءة ولكن من أجل التحرر من ربقة النظريات والعمل بعفوية يتطلبها اليوم حفارنا المعاصر ورسامنا وفناننا التشكيلي بوجه عام. وهكذا نقرأ صراحة الناصري في التعبير عن حواره مع البياض الذي يتحدى الفنان ويدعوه لاستنفار طاقات يديه ومخيلته معا، فتتآزر الحِرفة والذوق والرؤية لإنجاز ما يظل خالداً على السطوح التصويرية ، مُشْرعا للقراءة البصرية ، أو يرسخ في الطباعة والحفر ليواجه الإنسان في سيرورة الفن وحوار الروح مع جمالياته.
انصراف الناصري لأعمال الحفر والطباعة مبكرا ستكرسه واحدا من رواد هذا الفن الذي لا يزال نادرا في المحترفات التشكيلية العربية ، وسيكثر طلابه في الأمكنة التي عمل فيها فهو يعي ريادة فناني العراق القديم للحفر على الطين ، لذا كان المبادر لتأسيس فرع الكرافيك في معهد الفنون الجميلة كأول مكان لدراسة هذا الفن في العراق. وستنتقل النزعة الغرافيكية إلى رسومه بكثافة ممتدة باحتشاد على السطوح التصويرية واستخدام المواد المختلفة ، كما تجسده في أعمال الناصري إشعاعات اللون المنبثقة من أشد مناطق العتمة في اللوحة ، كما يؤاخي المؤثرات المعرفية في رؤيته الفنية، فيمارس الحروفية في فترة مبكرة من اتجاه الفنانين نحوها حيث ، و يشغف بالتصوير موثقا الوجود المادي أو الكتلوي للأشياء ويأسرها في عدسته التي تقتنص أكثر المشاهد عذوبة وعفوية ، وهذا ما كان يفعله ونحن نتجول في أزقة صنعاء القديمة وأسواقها ومبانيها التقليدية ،
في عمّان كان يستريح في مشغله متفرغاً منذ عام 2004 ، لكنه حتى وهو خارج عملية التعليم كمهنة ، يستمر في تبني وتعليم العشرات من طلاب الفن ، كما يكتب انطباعاته ودراساته عن الفن والفنانين، وينجز لوحات بأحجام كبيرة ورسوما مصاحبة للأشعار صدر منها ألبومات أو محفظات فنية .
لقد اغتنت تجربة الناصري الغرافيكية بوعيه بمادة عمله واختياره لموضوعاته فيقول عن هذا الفن في كتابه(فن الغرافيك المعاصر) –عمان1997(يتميز فن الغرافيك بسمة متفردة بين الوسائل الفنية.فالنطاق الواسع للمواد المستخدمة زتنوع تقنيات الطباعة يجعلان هذا الفن وسيلة مرنة وثرية،مما يتيح للفنان امكانات متنوعة للتجرب والتعبير) .
وهذا يفسر عمق منجز الناصري وتنوع تجربته التي تحتل في التشكيل العربي والعالمي مكانة خاصة اكتسبها بالمثابرة والتفاعل ، فهو لا يتوقف عن التجريب بعد تلك السنوات التي امتلأت بالإبداع ،وفاضت عنه كما فاض عنها، فصار الفن يعني الحياة عنده ،كما أن حياته هي فنه بالضرورة .
2- يتميز الفنان رافع الناصري بين فناني جيله ومَن عاصره في الذاكرة البصرية، بأنه لا يندرج تقليدياً في مدرسة أو اتجاه.هو فنان دائب التجريب والتحول . يمضي غير بعيد عن الغرافيك الذي درسه فأحبه وقام بتدريسه.ومن نافذة الفن الواسعة يطل رافع الناصري ليمتزج بالحياة الثقافية في وطنه دون عزلة أو ترفع. مرسمه ومحترفه ببغداد وعمّان متاحان للجميع من طلبته وأصدقائه.وفي لحظة ثقافية نادرة عند عملي في تحرير مجلة الأقلام أهداني تصميماً نادراً لترويسة المجلة، مازجاً بين الحروف العربية وظلالها التشكيلية ، وبقيت لسنوات أيقونة فنية تمزج الحرف بالكتلة التي تبرز شخصيته، ولا شك أن الناصري كان يوظف خبرته وما تعلمه ومارسه في الحفر والطباعة لتوليد ذلك الشكل الجمالي ومحتواه.
ومن مظاهر تميز الناصري عن سواه من فناني المرحلة الستينية ما نلاحظه في تفرد
مصادر ثقافته التشكيلية التي لم تكن غربية فقط في مرجعيتها، شأن زملائه ممن نهلوا المكوّن الثقافي الفني من المدارس الغربية فحسب ، فقد كان من أوائل ناقلي المؤثر الشرقي. ولعل دراسته لفن الحفر في الصين لتثلها فيه تراث قديم ، وما تعلمه هناك من مبادئ سيظل يتذكرها كدروس في حياته الفنية، هي من روافد تجربته ومؤثراتها ، ومن أبرز مكوناته الشخصية.لذا لم يكن التجريب عنده نزقاً أو إتباعاً لمدرسة أوتقليداً لأسلوب شائع.
هذه المزايا الثلاثة: نزعته التجريبية، ودراسته وتخصصه في الحفر ، والمؤثر الشرقي-الصيني تحديداً ،ستترك سماتها في أسلوب الناصري كما في رؤيته للفن. وهي التي حددت تحولاته من النزعة التشخيصية والأكاديمية لحد ما في المراحل الأولى تأثراً بدراسته المبكرة في الصين، إلى التجريد والأسلوب الحر والتحديث في الموضوع والمعالجة..
يقول الناصري في كتابه(فن الغرافيك المعاصر) –عمان1997(يتميز فن الغرافيك بسمة متفردة بين الوسائل الفنية.فالنطاق الواسع للمواد المستخدمة وتنوع تقنيات الطباعة يجعلان هذا الفن وسيلة مرنة وثرية ،مما يتيح للفنان امكانات متنوعة للتجرب والتعبير.).
لقد كان اختيار الناصري التخصص في فن الحفر إلى ما عرفه العراق القديم من استخدام الطين ،وإنتاج نماذج مكررة من الأواني والأدوات والأشكال المتعددة من تلك المادة التي تكثر في وادي الرافدين ، لما تتميز به تربته الطينية من وفرة تلك المادة ونوعيتها ، وتكوين الأشكال الخليقية منها ، بمساعدة ما تتركه الشمس الحارقة التي تعلو سماء مدن الوادي من أثر، وللناصري صلة بآثار العراق القديم التي يقول إنها تعود سنوات النشأة المبكرة ،وهو معلم ثقافي شبيه لما عرفته الصين في تاريخها الفني القديم وموروثها، فتكرس ذلك النزوع لدى الناصري ، وستؤثر النزعة الغرافيكية لديه وآليات الحفر والطباعة في ما ينفذ من رسوم على السطوح التصويرية ، ويبدو الإحتدام والتكتل الشكلي على لوحاته المرسومة بالزيت ،ثم تحوله إلى التلوين بالأكليرك المشع وما نفذه فيه من أشكال زرقاء ميزته بعالم فيروزي يدعو للتأمل.
يحصل الولع بالحفر وتجسيد الأشكال لدى الناصري، كما يقول مستذكرا خمسين عاماً من رحلته الفنية قبل غيابه، بدرس اليد البرومزية الذي تعلُّمه من دروس الفنان جواد سليم كما أسلفنا ،.لكن الدرس الثاني كما قال الناصري في محاضرته، كان في الصين حين رسم مزهرية الورد، وحين اطلع على الوصية التي يرددها الصينيون وخلاصتها:
أن الفنان العارف متى يرفع الفرشاة الدقيقة عن السطح، ينسال اللون حرا ليعبر عن مكنونات النفس ،وأملها أيضا).)
أعادت السيدة الشاعرة والكاتبة مي مظفر نشر حوار مطول ومهم معه أجرته عام 2004 لمجلة ألف التي تصدرها الجامعة الأمريكية بالقاهرة.هنا يكشف الناصري عن سبب اختياره الصين للدراسة الفنية بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة ببغداد، فيقول إنه قبل تخرجه من المعهد بأشهر شاهد معرضاً للفنون التقليدية الصينية أقيم ببغداد، فتولدت لديه الرغبة للدراسة في الصين ،والإطلاع على تجارب الشرق ،بعد أن أعطته دراسته الإطلاع على فنون الغرب.
لكن الناصري لم يغادر منظوره الغرافيكي. وقد تمثل ذلك في المساحات التي يجسدها في أعماله والفراغات التي تتخلل الأشكال حتى في أعماله الزيتية أو المنفذة بالأكليرك.
وسيقوده التجسيد المتاح في الطباعة والحفر إلى مصدر ثقافي بصري آخر هو الفوتغراف. كان الناصري شديد العناية بالصورة .يقتنصها بدقة ومن وجهة نظر خاصة لاتكتفي بتقديم المشهد كما ترتبه صورته المعروضة ،بل يحاول أن يجد له ترتيباً آخر يضفي عليه الدهشة والشاعرية.
في البرتغال سيقضي رافع الناصري أواخر الستينيات عامين ، وسيتضح في وقت لاحق هجرانه للأكاديمية والتشخيص، وتقوية صلته بالمدرسة الأوربية والأسلوبية الحديثة ،وتأكدت نزعته التجريدية في أعماله التالية، حيث تغير أسلوبه وترك التشخيص والموضوع المتعين الواضح ،واهتم بالألوان وتوزيع الكتل بتجريد يعتمد القيم الفنية للمساحات والألوان والخطوط بدرجة كبيرة، إضافة إلى تغير منظوره للحرف ووجوده في اللوحة .وقد أكد ذلك في ندوة صنعاء المذكور في الدراسة فقال (إن اكتشافي للحرف العربي وجمالياته ) أدَّت إلى استخدامه في مواضع تجريدية ) يقول إنها أصبحت المنطلق الأساسي لكثير من أعماله اللاحقة )وهو ما صرح به أيضاً في حوار مي مظفر حيث بيَّنَ أن ( الحرف لم يغب عن عمله قط،ولكنه يتجلى في أشكال مموهة ومجازية؛ كإشارة أو رمز وجزء من كتلة أو حركة.)وهذه هي الرؤية المتقدمة التي اكتسبها من تحولاته الرؤيوية بفعل تغير المصادر الثقافية والفنية الفاعلىة في تجربته. ولصلة الفنان بالحروفية وضع خاص ، فهو لم ينغمس في تلك النزعة تماماً ، بل مارسها كواحدة من سبل التعبير الفني، وما اختيار التجريد إلا موازنة منه بين تقنيات الحداثة الأسلوبية،واستلهام الحرف العربي وجمالياته.كما ذهب بتجربوة الحرف إلى معاينة محتوى النصوص الشعرية وفنيتها ةتجسيدها في اعماله ، فأنجز لوحات تشكيلية تتعدى المهة التوضيحية المصاحبة للنصوص. فواشج بين المكتوب والمرسوم في كتب منشورة . كقصائد للمتنبي وابن زيدون والجواهري و درويش ومي مظفر وإيتيل عدنان ؛ليؤكد صلة المكتوب بالمرسوم ،وهو أمر ينسل من عمله الطباعي واشتغاله في التصميم،واستعانته أحيانا بالكولاج، وهي سياحات حرة بين وسائل وأساليب وتنويعات متاحة بسبب رؤيته الحرة المتجددة .
3-
وإذ تستعيد الذاكرة ذلك اللقاء في صنعاء مع رافع الناصري وزوجته الكاتبة مي مظفر مشاركاًين في مهرجان الفنون السنوي المنعقد هناك. فقد تجولنا في أزقة صنعاء القديمة ، فاستوقفته طُرز العمارة اليمنية وطرقات المدينة الضيقة وأسواقها، والتزيين المحيط ببيوتها ،وكذلك الأزياء التقليدية والتقاليد والمفردات اليومية المميزة ، فكان يصور بحماسة ومتعة وبرؤية فنية كثيراً من الوجوه والأمكنة والتفاصيل الصغيرة ؛كالأعمال الشعبية على الجدران والسيارات ، ويقتنص وجوه المارة المعبرة شيوخا وأطفالا ، وتستوقفه المهن والمعروضات والباعة والمجانين والمارة وكل ما تضمر الحياة في المدينة التي تجمع الماضي والحاضر معا ،كما قال لي، فهي متفردة بذلك عن المدن التاريخية التي تحولت أطلالاً ومتاحف ،وتعوزها نبضة الحياة..
كثير من طلبة رافع الناصري واصلوا رسالته في تنويع الفن العربي برؤى غرافيكية ورسوم وملصقات وتصاميم ، ستظل شاهدة على عطاء متعدد الجوانب الحِرفية،كما هو في الأسلوب والرؤية والعمل الفني ..