دفاتر غسان غائب الشعرية

 
مقالي في العدد السادس والخمسين -يونيو-حزيران2021 في مجلة الشارقة الثقافية.عن ا‘مال الفنان العراقي المغترب غسان غائب المتمثلة بدفاتر تتعالق تشكسلياً مع نصوص شعرية مختلفة..لرؤية حداثية تنتظم مفردات الدفاتر التي طُبع أغلبها طبعة خاصة بنسخة واحدة..
 
 دفاتر  الفنان غسان غائب الشعرية
جدل التشكيلي والبصري
 
اقرأ ظلال اللون
تلك التي بلا لغة
محمود البرييكان
 
 
 
يجدر بي أولاً أن أتوقف عند الممكنات التي أوصلت الفنان التشكيلي العراقي غسان غائب(بغداد64 19) إلى تجاربه الأسلوبية الأخيرة التي تثيرها معاينة مجموعة دفاتره الشعرية التي قام بتنفيذها في السنوات الأخيرة بأشكال خاصة، سنرى بالتحليل أنها تنتمي لتقنية الكتب ،وتلازم القصائد المختارة بأشكال من التعالق ،سنبين طبيعته بعد أن نمهد ببيان المقصود بالتعالق وكيفياته، وصلة ذلك بأسلوب الفنان في تنفيذ تلك الأعمال الدفترية بأحجامها المتراوحة بين المصغَّرات الدقيقة ، والألبومات الواسعة.
ولا نقصد بالأسلوب هنا  الشكلَ عارياً أو مجرداً من المحتوى الذي يضمه العمل.رغم أنني لا أطلب  بذلك البحث عن (معنى) محدد لم يعد العمل الفني الحديث يهبه لمبصرِه بالسهولة والسطحية التي كانت تتم بها عملية تلقي الأعمال التقليدية.فقد جرى توسيع (المعنى) ليكون جزءاً من (الدلالة) الكلية التي يشترك الفنان ومبصِر عمله ومتلقيه في استنباطها .تلك هي المتعة التي يمنحها الفن الحديث وسط ارتباكات التلقي والصدى الذي تقابَل به إنجازاته عادةً، لسبب مفهوم كون التلقي النسقي – المحتكِم والخاضع لاشتراطات مسبقة وثابته -لايجد ما يبتغيه ليطابق أفق توقعه بمصطلح منظِّري  جماليات التلقي والإستجابة.هذا الأفق الذي كوَّنته تراكمات النوع ونصوصه المنجزة تاريخياً ؛ ليستقر في وعي المتلقي كمقياس يحكّ به ما يشاهده، ليرى مدى انطباقه أو تطابقه مع تلك الأعراف.لكن شعرية الأعمال وطرق انتظامها البنيوي لا تلبي في منظور الحداثة الفنية وما بعدها تلك الإشتراطات، و تخذل أفق انتظار المتلقي  ليكتشف جديداً مضافاً ، وتحثه على أن يراها برؤى مختلفة و ببصر متجدد ،لا يتوقف عند تماثلها بالضرورة مع ما وقر في نفسه من نماذج للجمال والعناصر الجمالية المكونة للعمل.
ومن أبرز الممكنات التي تعد مهيمنات أسلوبية ورؤيوية معاً  في أعمال غسان غائب تفاعله مع المناهج والمقترحات الحديثة المتجددة في الفن التشكيلي. وتعزز ذلك ثقافته المتنوعة في الأدب والثقافة والنصوص الشعرية  والفلسفة لاسيما الإشراقية منها والمتصوفة بوجه خاص. ويذكر أنه شارك بلوحات  في قاعة كولبنكيان ببغداد ١٩٨٥ وهي متناغمة مع رواية( الطاعون)
لألبير كامو كما يقول، ملفتاً إلى  استخدامه السطوح الهشة  ومواد الكولاج المستهلكة .
 
ويبدو من ذلك  أن النزعة الثقافية في أعماله،  تعود إلى بداياته أيضاً.فهي تربية فنية وجمالية دأب عليها. وتغذَّت منها منجزاته الفنية، وعقدت تلك الصحبة مع النتاج الشعري والثقافي عامة، وتطورت إلى التعالق بين الكلمة والصورة البصرية.
إنه بذلك يستفيد من انفتاح الأجناس والأنواع وزوال حدودها ومجالاتها التي تجعلها جزراً منعزلة عن بعضها.  ويستثمر إمكان تعالق النصوص البصرية  مع ما يجاورها إجناسياً  كالقصائد من جهة ، ونوعياً داخل الفن التشكيلي نفسه.فيكون بذلك قد رفد تجربته بالمشغِّل الشعري والأدبي ، وكذلك بالنحت والخط والمنمنات والتصميم  والطباعة والكولاج من جهة أخرى .وهذا يفسرتعالق نصوصه بكيفيات مبتكرة ومتجددة مع النص  الشعري، لابكونه زينة وتزويقاً كما يجري في كثير من الأعمال المنضوية تحت الحروفية ، والتي لا يمكن أن نؤول العنصر الشعري فيها بكونه من عناصرالعمل الأساسية، بل هو مستضاف فيها بحروف وكلمات منقطعة عن سياقها عمداً، كي يظل البصر في مساحة العمل الحروفي ومكملاته البنائية الأخرى، كالمواد والخلفيات والخطوط والألوان والدلالات المحايثة .
تنضوي اللوحة والأعمال التشكيلية المختلفة على  أثر أعمق من مجرد استضافة الأشعار ،والإنطلاق من بؤرتها المركزية لتوليد عمل بصري مكافئ لها أو مفسر، فتلك وظيفة الفن التوضيحي الذي تعهدته الصحافة لمصاحبة الأعمال الأدبية. فلا يعود للأشكال التوضيحية  وجود فني خاص متعالق بجدارة ، ولا شخصية مستقلة له.لكن تعامل غسان غائب مع المرجع الشعري يتخذ هيئات نصية موازية تسير معه ولا تلتقي به حرفياً بالضرورة .إنها توحي بما يقوله وتتنوع على دلالته؛ لتولد من ذلك دلالات خاصة بالعمل البصري. هنا تقوم اللوحة بإنجاز هذه المهمة،عبر العناصر الفنية التي تشكلها.الخطوط والألوان والمساحات والتعديلات التي يجريها الفنان على الشكل . وهو ما يمثل تفرد غسان غائب.فهو يعمد إلى هيئة (الكتاب) بتصريحه خلال عنونة عمله ، بأنه (دفتر شعري) لشاعر محدد، أو بتبنيه شكل الكتاب واسمه وصفحاته في بناء العمل .
سنقصر قراءتنا لبصريات غسان غائب بتلك الأعمال التي تقارب مفاهيمها وتصوراتها، وتصر على توريط المتلقي البصري بهذه المعاناة الفكرية التي تكون القصيدة مناسبتها ، وسطح العمل أرضها التي لا تكون على هيئة السطوح التصويرية المألوفة.إنها تصهر المرجع الشعري في كيان جديد سيغاير وجودها الأول كمدوَّنة كتابية ،مكانية النشأة والمصدر ،وصوتية جُملية لغوية في جيناتها التي انتزعها الفنان من سياقها الأول؛ ليهبها هذا الوجود عبر تشكيلها بكيفيتين بارزتين:
– الأولى تمثل وجودها مسطورة مقروءة لتتعالق نصياً بشكل نفي جزئي، كما تسميه جوليا كريستيفا، مع التشكيلي المعروض للمعاينة البصرية.أي أنها لا تحتفظ بهيئة مستقلة تماماً،ولا تٌمحى كلياً .
– والثانية التي يكون فيها العمل الفني المتعالق بعيداً عن المرجع الشعري، فينفيه  كلياً في تناص فائق البعد عنه.فلا يوجد إلا بانفصال عن العمل، لكن إشاراته ورموزه تشي بوجوده الظلي البعيد والشفيف معاً.وتكون مهمةالقراءة البصرية أن تكتشف ذلك التعالق وتنجزه بالفعل.
إن التعالق هو توسيع للتناص التقليدي الذي يعني مدرسياً حياة نص في نص آخر.لكن الشعري المستعار  في التعالق  البصَري خاضع لإكراهات  كتابة الفن الشعري وإيقاعاته ولقواعده وحدوده، فيما يميل النص البصري إلى التشفير والترميز ،ووضع اللغة في صلة مكانية جديدة لا يظل فيها  لوجودها الصوتي  من معنى.لأن النص البصري يستجيب لتنضيد عناصره على السطح التصويري المتاح للخط واللون والإيقاع المنتظم من تلك العلاقات بين العناصر.
إنني أبحث هنا عن البصري كونه توسيعاً مماثلاً للتشكيلي.يشير إلى المرسوم بعلاقاته الجديدة التي تخرج من أطر اللوحة المعروفة ،والمتكتلة  في في كتلة معروضة للبصر.فالفنان في الأعمال المعروضة هنا للقراءة يماهي الشكل بالمهمة البصرية لا التشكيلية.وهذا يفسر الأشكال المتدرجة والصفحات والدوائر وغيرها ،مما يتحدى المعاينة البصرية السالفة بالخبرات التي ورثها المتلقي وتعامَل بها مع المنجز الفني.عمل يتعالق مع مرجعه ، و يلخص ويستوحي دلالاتها ،أو يتنوع عليها ويوسّعها، ثم يجد لها الشكل المناسب لهذا التوسيع البصري والتعالق النصي ؛ فيأتي بهذه الإبتكارات بالمعنى الأسلوبي ليفاجئ ذخيرة القراءة البصرية لدى المتلقي ،ويحثه على استنفار مخيلته ليندمج في أفقالأعمال وما تقترحه على مشاهدها.
هي أعمال لا تخلو من غرابةٍ ما على مألوف التلقي البصري.ثمة إشكالات في رؤيتها معروضةً كما في المعارض التقليدية .هي لا تستند إلى جدار ولا تلجأ إلى فضاء متحفي.إنني أقرؤها بكونها خروجاًعن المتحفية في الفن وطرق التلقي جذرياً، لذا هي معروضة للمعاينة الفردية .تتقلب بين يدي مشاهدها كما يتصفح كتاباً ،لكنه غير منظم الصفحات.انتظام أجزائه الوحيد هو انتماؤها للرؤية التي أسقطها الفنان عليها.