حقائق الحياة الصغيرة

مقالي عن رواية القاص لؤي حمزة عباس القصيرة(حقائق الحياة الصغيرة)
لؤي حمزة عبـاس يسجل حضوراً خاصاً في رواية حقائق الحياة الصغيرة
العدد الخامس والخمسون- مايس- مجلة الشارقة الثقافية
May, 01 2021
لا يقدم القاص والروائي العراقي لؤي حمزة عباس، وعداً لقرائه بأكثر من (حقائق)، تمهيداً لوقائع عاشها جيله ومدينته وبلده، ويصفها العنوان بأنها (صغيرة) لتخدم في اتجاهين: بيان أنها إنسانية وعادية، لكنّ ما سيمر بها من سياقات السرد لم يرد لها ذلك، ومن جهة أخرى يريدها أن تعبّر عن فنّية كتابتها وطبيعة أو إيقاع سردها، فهي لا تترهل، وتضيع في التفاصيل والشخصيات المتعددة والأمكنة الكبيرة والمتباعدة شأن الروايات، بل تقتصر على الشخصية الرئيسية، ترميزاً لكونها قصة كل إنسان عاش سياقاتها، وبضعة من صحبه، عابرين في طفولته ونشأته وتعليمه، وهي لا تخرج من أحياء مدينة البصرة حيث يعيش الكاتب ويعمل، لذا تغري التواصلات التي تتيحها القراءة بمطابقات ممكنة بين شخصية الصبي والكاتب، احتكاماً إلى الفترة العمرية التي تكون فضاء الزمن السردي في العمل، والأحداث والوقائع الكبرى، كحروب العراق الطويلة، ونظامه السياسي والعسف الذي رافقَهُ، والضحايا الذين تفرقت دماؤهم وأعمارهم في المعارك والسجون والمنافي.
تليق بمثل هذه الأحداث (رواية) ذات طابع ملحمي، لكن لؤي حمزة عباس القادم من تجربة قصصية مهمة ولافتة، يجتزئ صوراً وأحداثاً مقطعية ذات دلالة ويسردها بنفس وإيقاع قصصي، فيكون العمل بصفحاته المئة وعشر صفحات، أقرب إلى (النوفيلا) أو الرواية القصيرة.
وبرغم أن تجنيس (حقائق الحياة الصغيرة) قد تم على الغلاف الأمامي بكونها (رواية) كما يشير غلاف الكتاب، نجده أقرب إلى (النوفيلا)، كما وصفه الكاتب في مراسلة شخصية، والأمر يتعدى استحقاقات الوصف والفهرسة وغيرهما مما يتطلبه النشر، فيتصل بالإيقاع الذي ينتظم العمل ويقرّبه من هذه التسمية.
يتم وصف النوفيلا عادةً بأنها أقصر من الرواية وأطول من القصة، لكنها لا تتهجن بسبب ذلك أو تفقد سماتها بين النوعين السرديين، ولا تعني اختزالاً للسرد الروائي أو تطويلاً للقص، فهي تقوم على لمِّ شعث الأحداث وانتقاء الوقائع وحذف التفاصيل التقليدية والعناصر البنائية المميزة للرواية، لتكون بهذا الإيقاع المستند إلى مركزية في السرد ووجهة النظر، وعودة للمركز البؤري للعمل من حين لآخر دون استطالات وامتدادات خارجة عن سياقه.
ويعضد هذا التصور تجزئة العمل إلى مقاطع صغيرة متسلسلة بالترقيم، لتكون امتداداً للقص، ولتكثيف السرد ورصد التحولات الزمنية، والأحداث والوعي والمصائر.
ثمة تقديم مجتزأ من فقرة في العمل يتصدر الكتاب ليكون عتبة مهمة لقراءته بين عتبات كثيرة تؤطره: (لا ينصت الجرذ لحكاية الإنسان بتفاصيلها الحزينة غالباً والمدرجة أحياناً فحسب، بل يعيش فيها، ففي كل حكاية جرذ ينطّ من سطر إلى سطر، ويقفز من معنى إلى معنى، لو ناديت الجرذان التي تحيا، منذ أول الخلق في شعاب القصص والحكايات، لتبددت القصص وطارت الحكايات مثل دخان تنفخه الريح).
يبعث هذا المقطع الذي يسبق فقرات القص الحادية والثمانين المرقمة، رسالة سيعود القارئ لتذكُّرها حين يقرأ العمل، فالجرذ ليس ذلك الرأس والذيل والهيئة التي يبدو عليها، بل يتخذ هيئات شتى في خوف البشر ورعبهم وما يتعرضون له من سحق وموت، تماماً كما تقدم الحكايات أولئك المنسحقين الخائفين، والصبي، ورفقة من الجند والطلبة والعزّل والنساء والمعذبين والسجناء والمسفّرين قسراً من مدنهم، جرذان بشرية تقف في توافق مع إنسان كافكا الممسوخ، فقد كان غريغور سامسا، بتحوله بعد كابوس إلى صرصار، إدانةً للرأسمالية وماكنتها التي تغرق البشر في وجود مادي رتيب، يفقدهم هويتهم الإنسانية، لكنّ لصبي الجرذان في عمل لؤي حمزة، وجوداً إنسانياً معززاً بالوعي بما تعنيه كل الإشارات في طفولته، وما يعانيه الجرذ من موت مخيف، وما يرافق المدرسة من عنت وقسوة، وأخيراً محرقة الحرب التي أودت بسنوات من عمره، وأعاقت وعيه وعطلته، فكانت مَقاتِل الجرذان وجثثها وذيولها المقطوعة ورعبها، الصورة السردية المعادِلة لذلك كله.
لقد توسعت دلالة الجرذ، ووردت تلفظات في العمل تقود إلى هذا التوسيع، منها (مثل جرذ خائف صار جندياً، يصعب تمييزه عن جنود الموكب الذي يواصل المسير).
هنا يجد الكاتب مبرراً لصلة الصبي بالجرذان المختبئة في الحكاية، وكان سارداً خارجياً، فأمكنه ذلك استبطان وعي الطفل، وإطلاق تأملاته من عمقها، حيث تختفي ولا يعلنها لأحد، كما يساعد موقع الراوي في رصد مشاعر الطفل وإدراكه، وما تعنيه إشارات المدرسة والبيت والأصدقاء من دلالات. أما اضطرابات الزمن وتنقلات السارد في فضائه، فأوجدت قفزاتٍ أوجزتها النوفيلا في مقاطعها القصصية التي بلغ بعضها بضعة أسطر فحسب.
لكن ذلك لم يقمع شهية الكاتب في الوصف، فجالَ في مواقع من مدينة البصرة ومظاهرها الحضرية، وأبرزها محطة القطار وعرباته وسكته، وما تعنيه من انعكاسات في الوعي، والشاعرية التي يتم بها استيلاد رمزٍ موحٍ من وجودها.
يعيش الفتى زمن الحرب، فيكون الجرذ مجرد إنسان مختبئ في موضع تحت سطح الأرض مظلم ومغبر، لا يدري متى تقطع القنابل وشظاياها ذيله.
ولقد تماهى مع الجرذ في المواضع التي يتخذها الجنود ملاجئ لهم، تشبه حفر الجرذان الصغيرة، بانتظار لموت بعماء أسلحة القتل.
ومن دلالات هذا التماهي، قول السارد: (سيكون جرذ الحرب الاسم الذي أناديك به من بين سائر الجرذان.. أنت ظلي وصورتي، ملاكي الحارس ومرآتي)، وهذه بعض من رسائل يكتبها الفتى، ويلفها لتدخل جحر الجرذ، وليسمع صداها متوهماً ما يقوله الجرذ من رأي، وبالاستيهام ورسم الشخوص والأشياء كان الفتى يداري جرذيته ويتفوق على خصومه.
(ثمة فتى- جندي وجرذ تجمعهما الليالي الطويلة فوق الأرض بعد أن جمعتهما تحته)، وتلك إشارة أخرى على القارئ أن يلتقطها، فنظام القص في العمل متلازم بتركيز عالٍ، قد يتلخص مصيرٌ ما، أو تسلسل حدثي، أو تحول بجملة واحدة، فضيلة فنية تسربت من القصة القصيرة حتماً، وحوار مع جرذانه هي مرايا، كما سماها، يجد فيها نفسه، فيلومها ويعنّفها، ينشق عن جرذيته فيضرب حجراً على الجرذي رافضاً ما يبرر به خوفه.
(يكلّم الجرذان منذ تعلّم الكلام، فتسمع منه وترد عليه)، هذه أول فقرة تطالع القراءة في العمل، وهي تمهّد لهذه المعاشرة الجرذية المتدرجة، ثم الاقتراب والتماهي معها، حالة لا بديل عنها في سياق القص، حيث ينعدم وجود الفتى، صبياً يقمعه المعلم الحزبي، ويؤذيه الصبي القوي المتسلط متنمراً عليه، وعلى الحيوانات الضعيفة التي يحرقها بعنف مفرط.
وإذا كان غريغور سامسا قد انتهى صرصاراً منسحقاً في مكنسة المنظفة المنزلية، فإن فتى لؤي حمزة عباس يواجه مصيره عبر أحلامه الموءودة؛ الحرب التي ضاعت سنينه فيها، والحب المغدور لبلقيس التي كملكة الأسطورة يتشهاها الآخرون، ويكتشفها مع البحّار النزق في موقف غرامي ينهي حلمه بمحبتها، وينسحب إلى جُحر خوفه مرة أخرى، ويعتزل المنافسة التي تنهي قصة بلقيس بتسفيرها مع أسرتها من المدينة إلى خارج العراق. وجه آخر للعسف الذي يرصده الكاتب لفترة الثمانينيات التي تدور فيها الأحداث، فتنتهي بمشهد خروج بلقيس وأمها بصُرَر الثياب القليلة، باكياتٍ بلا صوت، لينغلق باب الحب في وجهه إلى الأبد، وتمتلئ السماء بنشيج يصعد من قلب أمه، وجدّته الحزينة التي كانت تختزن له الحكايات، وتطعم خياله طفلاً وفتى بسحرها.
إن عمل لؤي حمزة عباس ذو حضور خاص، في رصده للوعي والحدث وحرية الخيال الذي أضفى على لغة السرد نكهة جمالية مضافة لجماليات العمل وأدواته.
أعجبني
 

تعليق

٠ تعليق

أمس الساعة ‏١٠:١٦ ص‏ 

تمت المشاركة مع أصدقاؤك

الأصدقاء
ينوب عن القلب في فضاء معرض بغداد الدولي للكتاب في جناح دار خطوط كتاباي:
– تنصيص الآخر ..المثاقفة الشعرية والمنهج ونقد النقد.
– و طبعة ثالثة من مرايا نرسيس.. الأنماط النوعية والتشكلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة .
قد تكون صورة لـ ‏‏‏شخص أو أكثر‏، ‏كتاب‏‏ و‏نص‏‏
Hamid Oqabi، د.سعد محمد التميمي و٤١٦ شخصًا آخر
٢١٩ تعليقًا
مشاركتان
أعجبني
 

تعليق
مشاركة