من أين جاءت ما بعد البنيوية؟

من أين جاءت ما بعد البنيوية؟سؤال يضعه الصديق الشاعر والكاتب أزراج عمر عنوانا لكتاب له يبحث في الأصول النظرية والمشغّلات التي أثرت في ظهورها. كتب أزراج كتابه في الأصل بالإنجليزية بحثا أثناء دراسته العليا في جامعة شرق لندن ،ونقله إلى العربية فادي أبو ديب.
هنا عرض نشرتَهُ في عدد مجلة الشارقة الثقافية -آب-أغسطس ،لأهم ما في اطروحة الكاتب الذي أضاف مقاربات أخرى قريبة من الموضوع .
الأصول النظرية وآلتباسات المفهوم
ما بعد البنيوية نموذجاً
لايزال التعامل التثاقفي مع منتج الغرب المصطلحي والمفاهيمي موضع نقاش وجدل وتصويب.لقد جرى اقتراض كثير من مكوّنات الجهاز النقدي الأدبي والفلسفي من مورده الغربي دون تمحيص غالباً، أو بتعميم وتعجّل تفقدانه مقوماته وسياقاته أيضاً.
وليس هذا الأمر حكراًعلى التعامل التثاقفي المنهجي عندنا فحسب, بل هو مؤثر في الصياغات الإجرائية في الغرب أيضاً. ويتجسم بصورة أشد حضوراً وأثراً في القراءات المغلوطة أو الإنتقائية لفكر الآخر، معزولة عن سياقاتها ومكوّناتها المعرفية وزمنيتها ومستنداتها النصّيّة.
كتاب الشاعر والباحث الجزائري الأستاذ أزراج عمر(من أين جاءت ما بعد البنيوية ) يقدم لنا بمراجعته النقدية والمعرفية أمثلة من تلك القراءات ويتعقبها نقداً وتحليلاً.
الكتاب الذي ترجمه عن الإنجليزية فادي أبو ديب يعبرعما يصفه المؤلف (بمشروعه) الذي توخى في بداياته (فحص مدى تأثير اللحظة الإستعمارية الفرنسية للجزائر وترسباتها في عهد الإستقلال على تشكّل قطاع واسع من سرديات المفكرين الفرنسيين، وتحديداً نظريات المفكرين والفلاسفة ما بعد البنيويين وما بعد الحداثيين).ويقود هذا التوجه مؤلف الكتاب إلى دراسة التأثيرت المضادة المحورية الأخرى التي يرى أنها تساهم في تسوية السجالات حول أصول ما بعد البنيوية، وعلاقتها بالتاريخ وموقفها السياسي أيضاً.
وأحسب أن مثل هذا التوسيع يسهم أيضاً في فحص الأصول المكوّنة للنظرية .وهو عمل معرفي يغيب أحياناً عن تقبُّل المفكرين للنظرية وأبعادها وأسسها.
وبكون المؤلف ناقداً ثقافيأً يربط بين المنهج أو الرؤية والنظرية ويرصد انعكاساتهما في الإجراءات النقدية والتداول الفكري، نجده يتتبع تلك الأصول المعرفية لمابعد البنيوية، لتتكشف لنا كثيرٌ من مشغِّلاتها ومحرّكاتهاالفاعلة. وهي أمور تغيب عن نقاش النظرية وتبَنّيها في النقد الأدبي والفكر الفلسفي العربي أيضاً، فالصورة الشائعة نمطياً عن ما بعد البنيوية كونها توسيعاً وتجديداً للفكر البنيوي السابق عليها ، وتعديلاً لكثير مما جنحت إليه البنيوية المدرسية ،وما أصاب قواعدها النظرية من تزمت وتقادم وجمود.
وسنجد بعض التناقضات التي اكتشفتها وكشفت عنها للقارئ متابعةُ المؤلف لثلاثة من أعلام مابعد البنيوية هم : فوكو وليوتار وديريدا.فإذا كانت مابعد البنيوية تقدم نفسها كقراءة مضادة ومشروع مختلف للتمركز الغربي مثلاً، فإن الكاتب يرى أن إهمال بعض المنظّرين المابعد بنيويين لمسألة التهميش اللغوي للشعب الجزائري ، وللإدماج القسري للأفراد- وهو ما نال العرب والأقليات وحتى يهود الجزائر من الفرنسيين القادمين مع الإستعمار- كما في حالة جاك ديريدا الذي ينقل عنه المؤلف شكواه من تهميش كولونيالي متعمد وعزل إثني ناله وهو طفل.لكن ذلك لم يتبلور في صلب النظرية، بل تذهب كريستيفا إلى ما يصفه المؤلف بدقة بالتعميم الذي يجعلها ترى وضعية المرأة ( المسلمة) على وفق الصورة النمطية التي رأتها بها السرديات الغربية التقليدية، والتي جرى فحصها بقراءات مبكرة لإدوارد سعيد وجيل النقد لأطروحة الإستشراق الأولى والتالية.
إن الخلفية التي يقترحها المؤلف لمعرفة الجواب على سؤال الكتاب : من أين جاءت مابعد البنيوية ؟ ليست الخلفية التي تقترحها أغلب الدراسات بشأن أصول -أو منطلقات- ما بعد البنيوية .فهو لايرى أن تاريخها يعود إلى ثورة الطلبة الفرنسيين في مايو-أيار 1968 ،والأحداث ( الراديكالية) التي رافقتْها.إنه يذهب مع روبرت يونغ إلى أنها نتاج حرب التحرير الجزائرية.لكن ذلك لا يعني لدى الباحث أن يكون عامل التأثير الجزائري وحيداً في نشأة مابعد البنيوية ، بل يشير إلى عوامل أخرى ممكنة، كمحاولات التخلص من الإستعمار في العالم، و صعود حركات التحرر الوطني ، والموجات الهامشية كالحركة النسوية الغربية ،وأحداث أيار 1968في فرنسا ، واحتجاجات الشبيبة ضد حرب فيتنام، وحركات الإنفصال في كندا وسواها.
من الأطروحات التي يناقشها ويدخل معها المؤلف في حِجاج معرفي ما اتخذه الشيوعييون الفرنسيون بهدْي الماركسية، واعتقادهم بحرب الطبقات، من موقف تجاه حرب تحرير الجزائر.ويكشف عدم معقولية الحل الطبقي للحرب من أجل التحرير.والذي لايمكن أن تكون الطبقة معياراً رؤيويا فيه.ففي مثل هذه الأحداث الكبرى تتكتل الفئات الإجتماعية وطنياً لا طبقياً.وهو ما يمكن أن نلمحه حتى في الأدبيات الماركسية النظرية.لكنه لم يكن في برنامج اليسار الماركسي والحزب الشيوعي الفرنسي تحديداً.
وفي فحص مرجعيات أدوارد سعيد في قراءته للإستشراق وكشف أنساقه الفاعلة ، يرى المؤلف – خلافاً عن ما يشاع من تأثر سعيد بالتفكيك وديريدا خاصة – أن ثمة قرابةً لعمله في ترابط التأريخ والجغرايا وتفاعلهما بشكل عضوي بعمل غرامشي (السؤال الجنوبي) الذي يتأمل ( في العلاقات بين الفضاء الجغرافي والثقافات والشعوب كصنّاع للتاريخ). ويرى أن المكان الجغرافي قد يصبح أداة للسيطرة الإستعمارية.
إنه يقرأ سعيد بكونه يتشرب أفكاراً كثيرة ويصهرها في مشروعه الفكري.فثمة علاقة يكشفها المؤلف بين قول سعيد بأن الشرق صار ابتكاراً غربياً، وقول فرانز فانون بأن الكولونيالية صنعت المستَعمَروما تزال تصنعه.
وهو بهذا يبحث في الأصول النظرية التي تغيب كما أرى عن قراءات كثيرة ينصب بعضها على مستندات أدبية- روايات في الغالب او مذكرات سياسيين وانطباعات رحّالة غربيين-.وهنا نرى أزراج عمر يواصل بناء فكرته عن الكولونيالية وما بعدها، وأثرها في خلق التصورات والرؤى بعد الحداثية وبعد البنيوية.إنه يلخص مشروع سعيد بكونه تحليلاً للحداثة الغربية وفشلها في رؤية الآخر كمكمّل للأنا الغربية وله المكانة نفسها.
وفي قراءة جوليا كريستيفا يقف عند الثنائيات المتحكمة في مشروعها الخاص بالنسوية، والمتجاوز للمطالب الإختزالية الممثلة بالمساواة بين الجنسين.فهي تدخل في غمار صراع الهويات ،وما بين المراكز والهوامش من اختلافات وخلافات تنعكس في الوعي بالهويات ذتها .وتقوم بتفكيك ( المفهوم التقليدي للهوية النسوية والذكورية ) .وتؤكد حقيقة تغيب أيضاً في السجال الهويّاتي المتمثل في اعتبار الهوية ذات أبعاد قارّة ونهائية.وتؤكد – كما عرض المؤلف – بدلاً عن ذلك على التغيرات الممكنة والتحولات المفصلية التي تعمل في تشكل الهويات وتعرّضها للتحول أيضاً وفق السياقات القائمة زمنياً ومكانياً .و ما وقع من تأثرات كريستيفا بديريدا رغم أنها تسحب مفهوم الإغتراب أو الغرابة لتتأمل ما يحصل من تهميش وعنف لا سيما مع الأقليات والثقافات الهامشية .وتتحدث عن ( إدماج قسري) هو جزء من تسلط كولونيالي يتخفى في نزعات عرقية ضد المهاجرين والغرباء، واستدعاء العرق ومقولات تفوقه.وهو ما نراه يتصاعد في أوربا وأمريكا بشكل منظّم في السنوات الأخيرة ، ويأخذ شكل عنف ممنهج ضدهم ، ويُنكر إمكان وجودهم الجديد في المجتمعات الغربية حتى بطريق الإدماج القسري الذي تمارسته الكولونيالية بسلبها العامل اللغوي والهويات الثقافية للجماعات المهمَّشة.
إن قراءة أزراج عمر لأبرز لافتات مابعد البنيوية وربطها نظرياً بأصولها تكشف عن مؤثرات ومشغّلات غير مضاءة بما يكفي من قبل. وهذه إحدى معضلات أو التباسات المفاهيم في خضم الضخ المعرفي والمنهجي.
لا شك أن أزراج عمر كمواطن جزائري النشأة والثقافة سيجد في أحداث بلده وصراع شعبه من أجل الحرية ، مناسبّة لفحص مصداقية المقولات والمواقف الحداثية المتخفية والتي كشفت عنها الدراسة، وما بدا من تلكؤ أو تغافل كثيرمن مثقفي فرنسا مثلاً عن (الفرْنَسة) التي مورست في الجزائر، مصحوبةً بعنف مفرط سيترك أثره في أدبيات كثيرة معاصرة وحديثة.ويستنتج أزراج عمر من تلك السياسة قيام حالة (اغتراب) بين الشعب ولغته وثقافته. وهو ما يهدف إليه البرنامج الكولونيالي.وقد تكفلت دراسات مابعد البنيوية بكشفه لربطها بين الظاهرة وأصولها النظرية، وتفكيكها لرد عناصرها إلى مؤثراتها الفاعلة.
قد تكون صورة لـ ‏‏شخص واحد‏ و‏نص‏‏