مصطلحات الطاهر ورؤيته النقدية- مساهمة في كتاب(علي جواد الطاهر – دراسات واستذكارات))

علي جواد الطاهر ..دراسات واستذكارات”
صدر في شهر أيلول -سبتمبر 2021 عن دار الشؤون الثقافية ببغداد بالتعاون مع منصة “إبداع” في بغداد مدينة الابداع الادبي اليونسكو وضمن سلسلة” حاضرون بيننا” كتاب” علي جواد الطاهر ..دراسات واستذكارات” لمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لرجيل الدكتور الطاهر.الكتاب من تقديم وتحرير: د.سعد محمد التميمي، الذي تحدّث في تقديمه عن ” الخطاب النقدي للدكتور الطاهر – من المرجعية الى المنهج”.
وضمّ الكتاب دراسات ومقالات حملت العناوين :
علي جواد الطاهر والدرس الأكاديمي ….د. حسن ناظم،
الرؤية النقدية في مصطللحات الدكتور الطاهر ومفاهيمه..د. حاتم الصكر،
علي جواد الطاهر لغويا ..ا.د. سعيد الزبيدي،
الدراسات الثقافية عند علي جواد الطاهر… أ.د. فاضل التميمي، علي جواد
الطاهر باحثا أ.د. سعيد عدنان، عن الطاهر ورسائله …أ.د. عبدالرضا عليّ،
علي جواد الطاهر ..حضور رغم الغياب ..ياسين النصير،
بعض من الوفاء..استذكارا للطاهر …جواد الحطّاب،
روح وثّابة ودروس في التواضع ….عبدالرزّاق الربيعي،
منهجي أنني ضد المنهج ….حوار عمره ثلث قرن أجراه الشاعر عدنان الصائغ.

هنا مساهمتي البحثية في الكتاب تحيةً للدكتور الطاهر، وجهده في النقد العراقي والعربي ،وما أضافه للمدرسة  وللنقد الأدبي من منهجيات وطرق بحث ورؤى يشهد لها الجميع حتى من اختلف معه منهجيا.
 
الرؤية النقدية في مصطللحات الدكتور الطاهر ومفاهيمه- د.حاتم الصكر

(النص  هو روح النقد وجوهره)
                        د.علي جواد الطاهر

 
مدخل: الرؤية والمنهج
التوقف عند المصطلحات والمفاهيم في منهج الناقد الراحل الدكتور علي جواد الطاهريقتضي مساءَلةً معمقة للسياق الذي تم إجراؤها فيه، والتوسيع الذي طرأ عليها من خلال النقد التطبيقي الذي انشغل به كثيرا في نشاطه التعليمي والأدبي معا.
ولا يمكن  كذلك القفز على( الرؤية) التي تقوم بتشغيل تلك المصطلحات عمليا وإنجاز تداوليتها المفاهيمية، وذلك يستلزم التعرف على عناصر تلك الرؤية وتجسداتها النقدية التي عادة ما تواجه بشيء من الصعوبة مرده للمنهج الذي تشكل على وفق تلك الرؤية،وهو ما عرف به الدكتور الطاهرمبكرا ، أي المنهج الانطباعي أو التاثري الذي تم ترحيله من النقد البصري والمنجز التشكيلي ، ويعوّل على رؤية الفنان لموضوعه بناء على ما ينعكس من أثره في نفسه.
ولعل أبرزعناصر الرؤية النقدية لدى الدكتور الطاهر: اعتباره النقد أدبا ، ووصفه دوماً متبوعاً أو مقترناً بالأدبي؛ وكذلك أنواع النص كالمقالة ،للحفاظ
على أسلوبيته الأدبية في عرض الأفكار أولا،وفي الوقوف بقوة بوجه علميته التي سيكرسها البنيويون واللسانيون والأسلوبيون خاصة..
ومن أهم العناصر الأخرى وسطيته أو توسطه، مايعني في المحصلة اعتداله في الرأي والموقف  : توسط يظهر في موقفه الوسطي المعتدل بين الغموض والوضوح  في النص،  ويجعله مع الجديد بشروط وطلبات يمتُّ بعضها إلى ما في القديم من جماليات ومعان. والتوسط دائرة رؤيوية مكتملة لدى الطاهر تسبق المنهج دوماً ولا يحدّدها بمذهب نقدي محدد. وذلك واضح في ما كتبه عن  النقد في كتابه (مقدمة في النقد الأدبي).وتتسع دائرة التوسط لنرى منها : توسطاً  بين القديم والجديد، والموهبة والمهارة، واللفظ والمعنى، والذاتية والجماعية، والواقعية والإنطباعية ، والقواعد والذوق، والتحليل النصي والحكم القيمي أوما يسميه(الوصف والحكم)،، والواقع والخيال ، وسوى ذلك مما يظهر جلياً لقارئ الطاهر.
 
في جهود الطاهر النقدية المبكرة
بعد عودته من السوربون عام 1954 أصبح  الدكتور علي جواد الطاهرمنغساً في قضايا النقد الأدبي التي وجد أنها غائبة عن لائحة الدرس الجامعي، كالعناية بالسرد ونقده، ومناهج البحث وطرق دراسة الأدب، فدعا للتوجه إلى النصوص ،تجنباً لعموميات الكتابة النقدية ، وتخفيف الإنشغال  بتاريخ الأدب الذي استقل مادةً
منفصلة ،  لتنشأ  دراسة الأدب عبر نصوصه .
فأدخل موادَّ جديدة في البرامج الدراسية لطلبة الجامعة ،وركّز على تحليل النصوص والكتابة، و أُسس البحث الأدبي والنقدي وقواعده. ومن جهة أخرى كان يوازن  بمعرفته بالفرنسية بين الثقل التعليمي والنقدي  للمناهج السائدة بتأثير العائدين من بريطانيا وتحمسهم لمقولات النقد الجديد، وبين ما تقترحه المناهج النقدية الفرنسية من رؤى وتصورات جديدة في حينها.وإن كانت لديه تحفظات على المناهج البنيوية التي سادت في حقول مختلفة ، مكملاً هذه المعرفة باستيعاب للتراث النقدي العربي ، وقراءته بوعي متقدم . وتمثَّلَ ذلك بجهوده في التحقيق والإستدراك والمناقشة لكثير من كتب التراث النقدي والشعري. وانسجاماً مع وعيه بأهمية النقد الحضارية والثقافية فقد ألَّف أول كتاب منهجي في النقد الأدبي، تم إقراره مادة لطلاب المدارس الثانوية  في العراق، ليدخل النقد في وعي الدارسين مبكراً.وبرزت جهوده في الأدب المعاصر ، والبحث عن علاماته وبداياته ، كي لا يظل الحديث المعتاد عن ريادات عربية فحسب ، حيث حقق ونشر قصصاً لمحمود أحمد السيد الذي عدّه  رائد الكتابة القصصية الحديثة في العراق(1)، في دراسة له من جزأين في مجلة ( الآداب ) اللبنانية  في نيسان 1969 وحزيران من الشهر نفسه.
واستخدام الطاهر لمصطلح ( القصة ) هنا  وصفاً لروايات السيد يشي بإشارته إلى السرد عامة روايةً وقصصاً ،جرياً على ما أشاعه الكتّاب االمصريون في العقد الأربعيني من القرن الماضي ، حيث سمّوا ( قصةً) كلّ سردٍ، رواية كان أم قصة قصيرة. إلا إذا كان يريد حصر ريادته بالقصة . وإلا فالسيد كما نعلم اشتهر برواية (جلال خالد ) عام  1928، لكننا نلاحظ هنا أن السيد نفسه وصف روايته بالقصة  في المقدمة التي صدَّر بها الرواية.
ولكن التبشير بريادة السيد في العشرينيات للكتابة( القصصية الحديثة) لم يمنع
الطاهرمن تشخيص ضعف القصص  إنشاءً وكتابةً ،جعلها  تقترب من المقالة والتعليق على الأحداث ، وهو ما لا ينسجم مع الكتابة الفنية للقصة، كما ثبت من مزاياها في الدراسات الحديثة والكتابة القصصية في العالم.وبذا نجد أن وصف ريادة السيد للقصة ( الفنية الحديثة) كان بدافع إثبات ريادة سردية للعراق، احتكرها الكتاب المصريون.(2)
إن  (فنية قصص السيد وحداثتها) تجد لها مبرراً  آخر هو إلى المعاصرة أقرب في ظني.حيث أن السيد عاش مشكلات عصره فكرياً وسياسياً ، وانتصر للفقراء والكادحين بسبب صلته بشخصيات يسارية أولاً، وما قرأ من أدبيات قصصية وروائية روسية كُتبت بعد ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسياوانتهاء الحكم  القيصري.
وهذا  ما يلفت الطاهرُ نظرَ قارئه إليه،وهو محاولة السيد المخلصة في تناول مشكلات واقع المجتمع، وأوضاع العراق السياسية في فترة ذات أهمية كبيرة هي العشرينيات والثلاثينيات التي شهدت نتائج الحرب العالمية الأولى، وتوسع هيمنة الإستعمار في البلدان العربية.وسيجد الطاهر نفسه متطابقاً – رغم اعتراضاته الفنية – مع فكر السيد ومضامين قصصه ذات المنحى النقدي الواقعي التي كتبها  تأثراً بما قرأ مترجَماً  من القصص الروسية .فالطاهر- وهذا بعض جهازه النظري النقدي- يرى في المضمون أهمية لا تقل عن أسلوب عرض النص للقارئ. لذا برز في تحليلاته عناية خاصة بمضامين النصوص التي يحللها.فيرى مثلاً أن الثياب في قصيدة الجواهري (لغة الثياب أو حوار صامت) (صارت لغة المظلومين وأنموذج المضطهدين المسخرين) (3)
ولعل ميل الدكور الطاهر إلى المنهج الواقعي في الكتابة الأدبية تولدت من إيمانه
المبكر بأهمية أن يتمثل الأدب معاناة الناس وواقعهم.. وميله المعلن إلى المنهج الواقعي بتنويعاته والواقعية الإشتراكية وأدبياتها  بوجه خاص، فكان يرى ضرورة أن يتوافق  أسلوب عرض تلك الحبكات السردية مع مضامينها الواقعية والحياتية،  وأنه  يجب أن يكون واضحاً دون إبهام وغموض،(4) وهو ما سيطلبه نقدياً عند قراءة الشعر ونقده، وما يقدم من تحليلات نصية وتعليقات وشروح للنصوص الشعرية ، فقد أكّد على انكشاف معاني القصائد للقارئ، وأن يكون الغموض الصوري أو اللغوي يشف عن المعنى ليراه القارئ ولا يحجبه عنه تماماً.
مصطلحات التحليل النصي ومفاهيمه
يقودنا الحديث عن موقف الطاهر من الغموض في الشعر، واشتراطه الشفافية اللغوية والصورية، إلى مناقشة مفهومه للغموض الذي أرى أنه توسط بين موقف عبدالقاهر الجرجاني الذي يدعو إلى عمقٍ مناسب في القصائد ،يسهم القارئ في تتبعه واستقصائه، ليلتذ بالقراءة بعد أن يكتشف المعنى الكامن وراءه كما يكمن الدر في الصدف .وهو ما اصطلح عليه ب(معنى المعنى)، ورأى أنه هو الأساس في عملية الكتابة والقراءة معاً  .وبين طلب الوضوح الذي تمثله مواقف النقاد التقليديين الذين أقروا قاعدة غريبة تنص على أن خير الشعر ما سابقت معانيه ألفاظه ، وأن خير الشعر  ما لايحتاج إلى تفسير و تفكير، بل يسارع بمعانيه عبر ألفاظه  إلى المتلقي كأي خبر أو معلومة.
 
وهذا الموقف التوسطي للطاهر نجده عند تحليله لقصيدة (لغة الثياب) للجواهري فيقول (الشعر الأصيل لا يعطيك نفسه أول وهلة ، ولا يمنع نفسه عنك تمام المنع)(5)
وما دام الشعر بهذه المزايا، فالقراءة النقدية عند الطاهر يجب أن تحتكم إلى النص.وقد دعا مبكراً إلى اعتماد النص، والنص أولاً كما يقول في مقالته الأشهر والتي كشفت أحد الثوابت في فكره النقدي. (6)
فالنص عنده أهم من النظرية واذا كان لابد من النظرية ، فالنص أولا و نظرية النقد الأدبي ثانياً.(7) و يريد فيها أن يكون لناقد الأدب  رصيد في قراءة النصوص قبل الإنصراف إلى نظرية الأدب. ويعطي نصائح للمحلل أو الناقد العملي بخصوص النص وخطوات تحليله ،ولا يرى بأسا من الخروج عن النص بعد الفراغ من تحليل عناصره(8).
وهذا التعويل على النقد النصي يجعله يشطر النقد إلى نوعين: نظري وعملي. (9)؛ فالعملي هو المعوَّل عليه عنده.لكنه ليس كل شيء.فالطاهر يتوسط هنا أيضاً ويعتدل، ، ليجد في النظرية فوائد تلي أهمية النص.وحذره هذا مبرر ودليل خبرة بالنقد ودراية بمسالكه.فالتنظير المفرط الذي أغرق الفعل النقدي غيّبَ الإهتمام بمادة النقد وهي النصوص والمتون. فيما ظل التنظير مجتلباً من سياقاته دون تكييف ،مع إثقال الجهاز النظري بالمصطلحات والتفريعات دون أن تكون ذات جدوى في النقد الذي يصفه بالأدبي الحقيقي ( الفعلي -،العملي، التطبيقي ) (10) . وفيه يزاول الناقد عملية النقدعلى نص يقدمه لقرائه .
وله في تحليل النصوص مصطلحات ومفاهيم يتلقاها القارئ انطلاقاً من مركزية النص في النشاط النقدي.ومنها:الوصف والحكم والتحليل، وهي درجات يعيها القارئ عبر عمل الناقد أولاً. وإذا كان الوصف والتحليل خطوتين متفق على ضرورتهما منهجياً، فإن ثمة تساؤلات حول جدوى (الحكم) في عصرنا حيث تشعبت النصوص وتنوعت ،  ما أدى إلى أن تختلف حولها القراءات.لكن الطاهر بحسٍّ ثاقب وفكرٍ مبصر يستدرك بالقول إن التحليل قد يكتفي بالوصف دون الحكم. ويعزز ذلك تعريفه للنقد في المقدمة بأنه عمل تعليمي أو وصفي على العمل الإنشائي، حكماً أو شرحاً أو تفسيراً (11)وبعض هذه الخطوات يقوم بها التأويليون ومحللو النصوص
دون اضطرارٍ للّجوء إلى الحكم أو ما يعرف بالقيمة .لكن الطاهر يعطف على التعريف جملة خلافية ترى في النقد (حكماً بالقيمة تقويما ً أو تقديراً). ويستدرك بأنه تحليل أيضاً.مشترطاً ما يسميه الوقفة الطويلة عند النص لإدراك أبعاده، وبلوغ أعماقه، والعودة إلى القارئ بالنتائج.
وفي صدد القارئ نكون مع لفتة نقدية مهمة تفرد بها الطاهر بين نقاد جيله أكاديميين وغيرهم، وهي التنبه لموقع القارئ في عملية النقد.وتحدث عن توسط الناقد بين النص والقارئ والتوسط بين الشاعر والقارئ وعقد الأغلفة بينهم، وما سماه الخدمة التي يقدمها الناقد خادماً للنص والنقد والقارئ. بل خدمته تتعدى ذلك إلى منشئ النص نفسه.(12)
وتلك  هي حقيقةُ عملية التوصيل الكامنة في تلقي النص وبثه .فالتوصيل، فيما  يراه  الطاهر كائناً في كل فرد،ليس لمجرد التوصيل، بل لأغراض تتصل بالفن نفسه.وتقريبه للمتلقين بغية ترسيخه في نفوسهم.
 
 الأدبية ميزة للأدب الإنشائي والنقد
ولكن عاملاً آخر كا ن له دور بارز في تكوين فكر الطاهر النقدي ومنهجيته التي تميز بها ، وهي إيمانه ببعض مقولات أو معطيات المنهج التأثري أو الإنطباعي في النقد، ويتجلى ذلك في دعوته لأدبية النقد الخالصة، وتأكيده  لدور الذوق في عمليتي الكتابة والقراءة ، وكون الأدب (الإنشائي) عنده- هو يفضل استخدامه رديفاً للإبداعي من سرد وشعر- مجلىً للأسلوب الذي يرى أنه يجب ان يناسب المادة المقروءة نقدياً. وهو يصف منهجه بأنه ( فني) يهتم بعناصر المقالة النقدية التي يبرز فيها للكاتب رأي وشخصية ، شرط أن تظل للنقد هويته الأدبية.وأبرزها عنده اللغة التي يجب أن  تنهض لتكافئ المقروء نقدياً أو المقروء لذاته. والطاهر لا يذكر(النقد) إلا متبوعاً بوصف (الأدبي). كناية عن اعتقاده ويقينه بأن النقد فرع أو نوع أدبي ، ما دامت مادته التي ينبني عليها خطابه أدبية ، سواء في التحليل النصي أو نقد الظواهر الأسلوبية في الكتابة  ورصدها.و لا شك أن في التأثرية والإنطباعية ما فيها من عيوب  معروفة كالذاتية ، وطغيان الأسلوب والإنطباع على الدراسة النصية للمادة المقروءة،. وقد يؤدي تلك القراءةَ كاتبٌ غيرُ محيط بآليات النقد الادبي، فيغلّب ذوقه ،  مكتفياً في نقد ما يقرأ بمدح أو هجاء.وذلك ما كان الطاهر يتجنبه في النقد تنظيراً وتطبيقاً.
الواقعية والإنطباعية
لقد عاد الطاهر من فرنسا بذلك الأثر المنهجي الذي توقف عند النصّية والتأثرية، ولم يعكف على الدرس اللساني الذي قدمته المناهج البنيوية التي لم يكن لها انتشار واسع خلال دراسته في السوربون في الخمسينيات،حيث ما تزال المدرسة النقدية  تحت تأثير اللانسونية والمنهج التاريخي من جهة، ودعاة النقد الفني وفي مقدمتهم سانت بوف.
ولقد كانت الواقعية والإنطباعية مما يتجاذب نقد الطاهر الذي نجح في التوفيق بينهما بجعل الإنطباعية أسلوباً لعرض أفكاره، والواقعية رؤيةً يحلل في ضوئها مضامين الأعمال و يستشف المنحى الإجتماعي فيها.
وهو يفرق بين نوعين من الإنطباعية، وإن أقر بأن أثرها المعاصر ضعيف، فالأولى يصفها بالفطرية والتأثرية، وهي تلقائية عرفها  الإنسان منذ القدم؛ لأنها فطرة فيه ، كونها لا تتعدى ردَّ فعله على الأشياء من حوله؛ سخطاً أو ارتياحاً لما يسمع من شعر أو نثر، .أما الثانية فهي الإنطباعية التي يصفها بالتأثيرية التي تعهَّدها مختصون وأعلام ، ويقوم الفنان او الأديب بموجب مبادئها بإعادة الإنطباع أو الأثر الذي حصل في نفسه كما أحس به. و ينسحب ذلك على الكتابة النقدية، فيرى الطاهر أن الناقد يمكن أن يعيد الإنطباع  أوالأثر الذي تركته في نفسه قراءة نص إنشائي بذاتية صرف.( 13) ولكنه يجد في الذاتية والإنطباعية عيوباً إذا نالهما التطرف.
الأسلوب الفني  في النثر
إن الطاهر بحكم (الأدبية) التي ينادي بها صفة للأدب والنقد، ونزعته الفنية الجمالية التي تؤكد على الإبداع ،يدعو إلى أن يكون الأسلوب  ذا أولوية في الكتابة،لانه يعني الأصالة. ويميز الكاتب عن سواه، فالنقد عند الطاهر هو فن تمييز أساليب الكتّاب، تأثراً بفكر لانسون.لكنه يسأل: كيف نميز الأساليب؟ مشركاً القارئ – كعادته – في هذا الحوار مع المفاهيم واستنتاج معانيها الدالة. ومادام لكل كاتب أسلةبه وما يوازي النوع الذي يكتب فيه حتماً، فإن التعرف على الكاتب من طريقته في عرض فكرته تتم عبر القراءة وتراكم المقروء لترسيخ المقدرة على تمييز الأساليب.(14)
ومن أكثر إنجازاته النقدية أثراً في نقد النثر انتباهه إلى أهمية فن المقالة كنوع أدبي وفني لابد من العناية يه.وكتب في ذلك ما يشجع على كتابة المقالة التي يصفها دوماً بالفنية لتوفرها على عناصر الكتابة الأدبية التي تعتني بالأسلوب، وطرق عرض الأفكار بأسلوب لا يبعدها عن أدبيتها التي يراها شرطاً لها.
ويريد في المقالة أن يكون لناقد الأدب رصيد في قراءة النصوص، قبل أن ينصرف إلى نظريةالنقد، فقراءة نصوص القصة مثلاً  تعرّفه بقوانين  القصة وسير تطورها من عصر إلى عصر ولدى كاتب عن كاتب(15).
و في تمييز الأساليب لا بد من قراءة لتاريخ النوع المقالي، ومزايا المقالة فنياً ونماذجها المتقدمة.
اسلوبياً يرى الطاهر أن المقالة أقرب الأنواع إلى الشعر  الغنائي، أو هو أقرب أنواع الشعر إليها.لقصرها ربما ،أو لأنها ذاتية تختلف عن البحث والدراسات.
ويتحمس بالقول ( إن المقالة في حقيقتها ، شعر وجداني يزجيه صاحبه نثراً)(16)
وفي هذا خلاف كبير لأن الفكرة تعبر عن فهم الطاهر النموذجي لنوع من المقالة هو الذاتي القريب من الخاطرة، لما فيها من شاعرية.ولكن ذلك لا يصح عل أنواع عديدة  من المقالة. وإن كان في كتاب لاحق هو ( مقالات) يرى أن المقالة ليست إنشاء
مطلقاً  قائماً على العاطفة والخيال،وليست بحثاً مثقلاً بالأسانيد والمراجع.وإنما هي عرض يسهل المادة، ويجعلها أقرب إلى القارئ وأخف عليه).(17)
ولم يكتف بالتنظير لفن المقالة ،بل طبّق ذلك في تقديم دراسات عنها ، وتواصل اهتمامه بها فحقق كتاب (من يفرك الصدأ) الذي ضم مقالات كتبها  شاعر بارز في خمسينيات العراق الأدبية وستينياتها هو حسين مردان  الذي كتب المقالة الفنية في الصحافة لسنوات، وتميز بأسلوبه الفني في عرض موضوعاته، وبراعته في التقاط مضامينها ، والإهتمام بعنونتها وابتكار مداخل جاذبة للقراءة.
النقد الأدبي: وظائف ومسلَّمات
لقد رأى الطاهر أن للنقد الأدبي وظائف عدة من بينها ما يرتبط بتعريف لانسون للأدب بأنه تمييز للأساليب ، ومنها مايذهب بالنقد كممارسة إلى أبعد من ذلك ، فيعده ((عملاً وصفياً على العمل الإنشائي حكماً أو شرحاً أو تفسيراً)) ،ويعني التحليل أيضاً الوقوف طويلاً (( عند النص لإدراك أبعاده وبلوغ أعماقه ..والعودة إلى القارئ بالنتائج)). وينوه هنا إلى ما سمّاه طيات النص وطبقاته لرؤية ما تخفيه .وهذا تأكيد آخر على موقفه من الغموض والإنكشاف، وضرورة وجود مايشف عن المعنى، والبحث عن ذلك  في(طيات النص وطبقاته التي تتدرج بالإنكشاف)( 18 ).للنص إذن بنية عميقة  تختفي وراء شكله الخارجي الذي يبدو للقارئ في قراءته الأولى أو المتعجلة.والطيّات والطبقات إنما هي مستويات تلك البنية النصيّة التي يتوجب على القارئ الغور فيها لتسلم رسالة النص أو معناه. والطاهر لا يستخدم الدلالة كثيراً ربما لأنه يفترض وجود المعنى أولاً ثم تنخلق الدلالة من تراتبات المعاني وتلازمها في كلية النص.وهذه لمحة من رؤية الطاهر المنهجية التي تتفوق على المنهج المحدد، وتفلت من شِباك التأثرية.
الناقد في مواجهة النص
لابد عند مسألة الوقوف طويلاً عند ( النص) من التنويه باهتمام الطاهر مبكراً  بالنقد النصي، ودعوته إلى جعله مركز  الكتابة النقدية .ولعل مقالته ( النص أولاً) التي ذكرناها آنفاً من أهم ما كتب في الدعوة النصية المبكرة في النقد الأدبي.
وهذه النصيّة لا تعني عنده البقاء في أسوار النص اللغوية المعروضة للقراءة وحدوده الهيكلية، كما نفهم من شرحه لفكرته.بل هو  ينوه بإمكان الخروج من  بعد إلى القراءة
النصيّة ،أو ما يسميه المواجهة القائمة على النص وحده مجرّداً، يتوجب وضع النص في سياقه من أعمال كاتبه، وفي سياق نوعه أو جنسه الأدبي، ولربطه كذلك بتاريخ مجتمع الكاتب وواقعه وتاريخ أمته.( 19 )
ويعكف بحكم تأثره بلانسون إلى ضرورة أن يطّلع ناقد القصة مثلاً على تطورها ، وما كُتب فيها من نماذج عبر أطوارها، ليعرف قوانين القصة وأساليب كتابتها المتنوعة . ومن لانسون أيضاً أخذ الطاهر نزعة التحقيق والمراجعة والتدقيق ، فكانت له وقفات بالغة الأهمية في مراجعة الكتب المحققة وبيان أغلاطها، وما فات على محققيها من أشياء في اللغة والمتون المحققة . وهو راغب ان يتم ذلك بوجه ما في النصوص المنقودة .وبذا يخلق  في تصوره ناقداً شبيهاً له، في الموسوعية والإطلاع والدراية.وهي مهمة لا تتأتى لكل متصدٍ للنقد.وتعكس في الوقت نفسه تبجيل الطاهر لعملية النقد ،ورسمه صورة كاملة للناقد، قد لا تتوفر في كثير من الكتّاب.
مصطلحات داعمة
يستخدم الطاهر كثيراً من المصطلحات ويجريها في دراساته حول النقد، وبعضها متداول معروف ، لكن الطاهر بخبرته وتجربته ،ودراسته للمناهج والمدارس والمذاهب الأدبية يعطيها دلالات أخرى مطورةً أو معدّلة .
وهناك  في معجمه النقدي ما يستوقف الباحث كالصدق ،والموهبة ،والذاتية، والموضوعية.وهي وسواها تتسق مع رؤيته وما يعتقده من رأي في النقد .لكن التدقيق في تلك المصطلحات ستغير من الصورة النمطية التي تمت بها قراءة كثير من نتاج الطاهر النقدي.وهي القول بانطباعيته وتأثريته.
ولدينا مما ورد في مؤلفاته ما يجعلنا نشكك في صحة ذلك.ولعله منهجياً أقرب إلى المنهج الفني.فهو يعترض على الإنطباعات حين تكون وحدها في القراءة النقدية(20)
 
ويفهم جيداً صعود الإنطباعية منهجياً لكونها رد فعل على العلمية التي وسمت النقد زمنا.ويربط الذوق بالذكاء كي لا يظل تعبيراً عن مزاج آني أو تعليق ظرفي.أما الذاتية فلا يراها صالحة لعصرنا، ويقول إنه لا يمكن ولا يليق أن يكون الناقد ذاتياً.وهذا يخالف أول المبادئ التي قامت عليها الإنطباعية.
إن جهد الدكتور علي جواد الطاهر الثر تظل به حاجة لقراءات لاحقة من زوايا مختلفة ، تحفز عليها موسوعية الرجل وثقافته وتنوع مصادره وما أضاف للتقد العراقي والعربي من إضافات ذات أهمية كبيرة على صعيد الدرس الأكاديمي والنقدي والترجمة والتحقيق والتطبيقات والتحليلات التي توقفنا عند عينات دالة منها.
هوامش وإحالات
(1) أفرد الطاهر للسيد وريادته كتاباً رائداً(محود احمد السيد رائد الكتابة القصصية الحديثة في العراق) دار الآداب بيروت  1969،كما قام بنشرمجاميعه  القصصية الكاملة في كتاب مشترك مع الدكتور عبدالإله أحمد إعداداً وتقديماً.صدر الكتاب عام 1978 عن وزارة الثقافة والفنون ببغداد.
(2) لعل الدكتور الطاهر أدرك ضعف الوصف بالحداثة لقصص السيد، وأراد حصرها في الجانب التاريخي لا الفني، فأصدرعن دار الشؤون الثقافية العامة ببغدادعام 1990 كتابه (الريادة الفنية في القصص العراقي) تناول  مجموعة (أشياء تافهة ) لنزار سليم، و أصدر جزءاً ثانياًعام 1992 تناول  مجموعة عبدالملك نوري (نشيد الأرض).
(3) علي جواد الطاهر: لغة الثياب …عرفتها، مجلة الثقافة، العدد 6،بغداد حزيران 1972 ، ص23
(4) درس الدكتور قيس حمزة الخفاجي الفكر النقدي لدى الطاهر وشخّص حماسته للواقعية وارتباطها باهتمامه بنقد القصة والمسرحية خاصة، لما وجد  فيهما من ربط بين العمل الأدبي والواقع، يُنظر د.قيس حمزة الخفاجي (الفكر النقدي عند الدكتور علي جواد الطاهرفي ضوء القراءة النسقية)، ص350مركز بابل للدراسات الحضارية والتاريخية،  2010
(5)  لغة الثياب ..عرفتها ، سابق،ص23
(6) ( النص أولاً) نشرها الطاهر في مناقشته لكتاب سهير القلماوي(محاضرات في النقد الأدبي).
((7) د.علي جواد الطاهرر، وراء الأفق الأدبي،وزارة الإعلام ،بغداد 1972،ص96
(8) نفسه،ص60
(9) د.علي جواد الطاهر: مقدمة في النقد الأأدبي، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1979 ، ص 349
(10) نفسه، ص383
(11) نفسه، ص341
(12) نفسه ،ص،32-384
(13) نفسه، ص415
(14) نفسه،  ص332
(15) د.علي جواد الطاهر:وراء الأفق الأدبي، سابق،98
(16) د.علي جواد الطاهر : مقدمة في النقد الأدبي، سابق،263
(17) د.علي جواد الطاهر: مقالات- خطرات في النقد الأدبي، إتحاد الأدباء العراقيين بغداد1962
(18)  د.علي جواد الطاهر : لغة الثياب ..عرفتها، سابق،  ص23
(19) د.علي جواد الطاهر : مقدمة في النقد الأدبي، سابق364
(20) نفسه، ص  417