المثاقفة البصرية: الرؤى والأساليب- مجلة مثاقفات – العدد الخامس

 

العدد الجديد من مثاقفات هو العدد الخامس.خريف 2021 صدر في لندن.وأعتز بمساهمتي فيه بدراستي عن المثاقفة البصرية-الرؤى والأساليب.
وفي مايلي نصها المطول للمهتمين من الأصدقاء والصديقات .شكراً للصديق الأستاذ أزراج عمر

في المثاقفة البصرية – الرؤى والأساليب

حاتم الصكَر
1- تمثل المثاقفة البصرية نموذجاً للتواصل واستيعاب المؤثر بصورة أسرع وأكثر جذرية وملموسية مما يحصل في المثاقفة الأدبية ، كون المثاقفة البصرية ممكنة بطواعية ،نظراً لاستغنائها عن العامل اللغوي وعنصر الترجمة اللذين يحدان من حيويتها وتأثيرها. وهو ما عمل على تأخير المثاقفة الأدبية ،فيما تأتي التفاعلات البصرية بلا واسطة سوى التواصل البصري. وهذا منح البصريات بُعدها الإنساني أيضاً. ولكن بشرط وجود الوعي بالمبصَر وتلقّيه بذخيرة جمالية، نفتقدها في حياتنا الأسرية والتربوية . كما يخذل التثاقف أفق تلقي المشاهد غير المؤهّل لأنه ينتظر علاقة أيقونية تعبر عن فحوى المبصَر الذي لايزال يقاس عنده بالتصوير الفوتغرافي ،والبحث عن معنى جزئي للعناصر المكونة للمرئي..
إن التلقي البصري للجمهور لم يكن بموازاة التطور الفائق في التشكيل وسواه من الفاعليات البصرية؛ كالعمارة مثلاً. فالجمهور كما يلخص الفنان جواد سليم المؤسس للحداثة الفنية في العراق ، (إن الزمرة التي تتذوق الفن والتصوير من جمهورنا تفرض إرادتها بصورة عجيبة … هؤلاء يريدوننا أن نرسم تفاحة ونكتب تحتها ( تفاحة ) .. ومنظر الغروب على دجلة وتحتها (الغروب) )(1 )
كما أن الفقر النظري للجمهور وضعف ذائقته جعلته يجافي الأنشطة التشكيلية ،ويعرض عن دراسة الفن .ما أحال الفن ذاته إلى نخبوية وطبقية واضحتين.فالمثقفون والأسر الميسورة كانوا رواد المتاحف والمعارض، ودارسي الفن ومتعلميه ومعلّميه.وتذكر لورنا سليم زوجة جواد أن العاملين (في السفارات والمراكز الأجنبية في طليعة مقتني اللوحات والأعمال الفنية؛ لذلك كان الفنانون يحافظون على علاقات طيبة معهم.) (2)
يضاف إلى ذلك خلو الفضاء البصري في بلداننا من الأعمال الفنية في الميادين والمدارس والتجمعات البشرية . فلم يكن في مدينة بغداد مطلع الخمسينيات من القرن الماضي إلا ثلاثة تماثيل برونزية صنعها فنانون غربيون بتكليف حكومي هي: تمثال الجنرال مود، والملك فيصل الأول، وعبدالمحسن السعدون .
ولم يكن ثمة مجال لنقد فني مصاحب للأعمال،.وهكذا بدت حداثة الفنانين العرب غريبةً عن محيطها ومتلقيها.لكن المشجع في الأمر هو استمرار التجديد والتحديث واتساع رقعة الفن في المدرسة والمتحف، بشكل سيؤدي إلى دمج جمهور أوسع ،حيث نشأت أكاديميات ومعاهد الفنون ،واهتمت الصحافة بالوعي البصري وتربيته والإهتمام بمنجزه. واتجهت المؤسسات الثقافية لوضع تاريخ للفن في بلدانها والتعريف بالجماعات القليلة التي التأمت نجاةً العزلة، ومنها جماعات فنية في دمشق مرسم “فيرونيز” عام 1941 وأتت تسميته نسبة للّون الأخضر وهو أيضاً اسم فنان إيطالي معروف (باولو فيرونيزي)، ويذكر أنهم تأثروا بمعرض أقامه الرسامون البولونيون.وأسهم في نشاط الجمعيات دارسون عادوا من الغرب كطارق توفيق العائد من باريس ومحمود جلال ونصير شويري ومن أرسلتهم وزارة المعارف السورية إلى روما، وغيرها من العواصم.(3). كما قامت في مصر جمعيات مماثلة أهمها في بحثنا هذا جماعة (الفن والحرية) التي سنفرد لها فقرات لاحقة..
2-
وسط تلك الأمية البصرية والفقر النظري وانعدام الوعي المطلوب بالفن وحداثة أساليبه ، ونزوع الكثيرين دينياً لتحريم التصوير ، واجتماعياً للحطِّ من شأنه ، وضعف الفنون المجاورة كالمسرح والسينما، لم يكن بد من تعايش الفنانين مع عزلتهم، مطورين عملهم من التشكيلي بفنيته وجمالياته التقنية المحدودة، إلى البصري الذي يتسع ليشمل المحيط والبيئة من حول الفنانين .
وهذا سيكون مدعاة لإنجاز أعمال كبيرة في المدن بفعل التغيرات الثورية، كما في مصر والعراق بعد قيام الجمهورية. وكان هذا الإنتقال من التشكيلي إلى البصري يواكب أيضاً ما في العالم من تيارات في فن العمارة والتصميم الحديثين، وما تزينت به بعض العواصم بأعمال بصرية لافتة ،فرضت وجودها جزءاً من جمالبات الفضاء المديني، إسوة بما كان يشاهده الطلاب المبتعثون أو السياح من أمثال تلك الأعمال في فضاءات المدن الغربية.
كما أن الحكومات بدأت تهتم أكثر من السابق بهذه الأعمال كزينة بصرية، وإن اعترضت على بعض الأعمال الموغلة بالحداثة والتأثر بالأساليب الغربية ، كما حصل للمعمارية العراقية زها حديد التي رُفض الكثير من أعمالها في العراق وخارجه، كونها متأثرة بالمدارس المعمارية الحديثة والنظرية التفكيكية .(4)
3-
شهدت المثاقفة أولى روافدها المهمة في البعثات الدراسية لفنانين شبان درسوا في الغرب.وهنا سأشير لتجربتي العراق ومصر، من خلا ل فنانين عراقيين يمثلان أسلوبياً مدرستين مختلفتين: فائق حسن الإنطباعي الذي رأى أن الحس هو أساس الفن.وجواد سليم الرسام والنحات المتحرر من الهيمنة الأسلوبية .
كان عدد من ضباط الجيش الذين أتيحت لهم فرص السفر إلى تركيا- خاصة – أو التجوال في أنحاء العراق قد لجأوا إلى الرسم بطريقة مباشرة، تنحصر في رسم الشخصيات ( البورتريهات) أو المناظر الطبيعية ومأثورات الواقع وموضوعاته وانضم إليهم فريق من الهواة ،منهم والد جواد سليم نفسه (الحاج محمد سليم) الذي مع كان مع عبد القادر الرسام (1882-1952) وسواهما أعضاء في (جمعية أصدقاء الفن) التي تأسست عام 1941م ببغداد ، وأنضم إليها جواد وأخوه الأكبر سعاد ، كما درس أكرم شكري(1910) ،عطا صبري(1913) في روما ولندن ، وفرج عبو (1921) في القاهرة وروما ، وحافظ الدروبي (1914) في لندن. وكان ببغداد البولونيون خاصة ، وهم لاجئون هربوا من بلادهم بسبب الحرب والاحتلال النازي، قد تعلموا على يد أستاذ ( تتلمذ بدوره على الرسام الفرنسي بونار) لذا كان تأكيدهم على الألوان واضحاً ومؤثراً . وحين التقى جواد هؤلاء الفنانين في شتاء 1942 في أحد المعارض البغدادية كان معه فائق حسن ، وتبادل معهم رؤية الأعمال.
رأى الفنانون الأجانب في جواد وفائق نموذجين (أوروبيين) يذكرناهم بالفن الأوروبي ، لكون جواد وفائق درسا في باريس ، و حصل التعاطف مع هؤلاء المنفيين .وهو أمر أوضحه جواد في إحدى يومياته المؤرخة في أواخر عام 1944م،
ولم يكن التأثير مجرد تبادل خبرات فنية جديدة ، فارتبط هؤلاء مع بعضهم بميل إنساني محض : (حب الحياة والأشياء البسيطة التي تنسينا الموت . لقد كانوا رجالاً اكثر مما كانوا فنانين ..).( 5)
وكمثال نعاين عمل جواد التجريدي (الإنسان الخالق) 1945 الذي يذكّر المشاهد بأجساد نجدها لدى الرسامين العالميين وماتيس خاصة ، وتشدنا كذلك الحركة المتسمة بالعنف والتعبير الجسدي الصارخ في تخطيطاته المتسمة بالتكثيف والرهافة، ويجلب الانتباه إلى الحرية في تشكيل الشخوص .
يلتقط جواد بذكاء ودراية بعض المؤثرات الأسلوبية الأكثر تقدماً.ورغم أنه يبدي إعجابه بفن ما بعد الإنطباعية ، نجده يتأثر في شخوصه النسوية بهنري ماتيس وعارياته.فالجسد الأنثوي يحمل الإغراء والفتنة لا بفعل حكايات ألف ليلة وليلة، كما يتصور البعض، بل بهذه( الحرية) التي منحتها المثاقفة في التعامل مع الجسد البشري. وأدخل جواد ذلك لللمناهج الدراسية في معهد الفنون الجميلة الذي أسهم في تأسيسه.وظل الموديل العاري قائماً طوال الخمسينيات والستينيات ، فيما صار محرماً في العقود التالية!
4-
ولكن ما هي تجليات التثاقف البصري لدى جواد؟إنه يتمتع بقدرة عالية على صهر المؤثر والإكتفاء بالرؤية، بما يلائم نزعته لتأصيل الفن المحلي باستلهام الحضارة الرافدينية القديمة، لاسيما النحت الآشوري. ولعل بعض هذا يعود لمشاهداته في روما لآثار الرومان الحضارية القديمة وفنونهم. ولكن الرسم يؤكد التأثر المدرسي ، فجواد يدين لما بعد الإنطباعية بتهذيب اللون ودوره على السطح التصويري ..وإن كان يميل لعدم الإستقرارعلى مؤثر واحد.ما يعكس الضغط الفكري على الرواد في اختيار الأسلوب.وقوة الضخ الأسلوبي والرؤيوي عليهم. لكن التجريد هو أقوى المؤثرات حتماً ، لأنه ينقذ اللوحة من النزعة التصويرية المباشرة. ونستثني من ذلك أجيالا تثاقفية لاحقة درست في الإتحاد السوفياتي السابق والدول(الإشتراكية) ، فقد اتسمت أعمالهم بالمباشرة والنزعة المضمونية، مع طغيان الموضوعات الإجتماعية.
وفي دراسته للنحت يكتسب جواد فرصة أخرى للتزود برؤيةجديدة، كان يمثل قمتها هنري مور الذي يقوم بالتدريس في مدرسة سليد التي انتظم فيها جواد.. والذي كان يرى قيام طقوس النحت المباشرفي حضن الطبيعة والهواء الطلق حيث الصخر والجبل والتراب والهواء والماء والهواء والنار والريح..
ويمكن ملاحظة المؤثر الأسلوبي في الحصان الذي تبدأ به جملة النصب النحتية في عمله الأبرز( نصب الحرية) وسط العاصمة ، ففيه بعض من حصان بيكاسوالنافر برأسه للأعلى محتجا صارخا في (جورنيكا)، وكذلك الثور، والمرأة التي تحمل ولدها الميت..
كما أن المرأة التي تحمل الشعلة في النصب تحيل إلى (الحرية تقود الشعوب) لديلاكروا، وإلى تمثال الحرية في أمريكا.والتي صهرها جواد ضمن سردية عمله الخالد.
5-.
وإذا كان جواد يميل إلى التأمل والتحليل ولا يركن للحس،سنجد بالمقابل نظرة زميله فائق حسن الذي انصاع للمقدرة االحِرَفية في تنفيذ رسومه وتقنياتها وموادها ، تعويضاً عن غياب المولّد الفكري أو الثقافي، وإهمال التراث الرافديني . فكثيراً ما كان – وظل – فائق يردد على أسماع طلابه ( إن الفن حسٌّ وحسب) وتحمس للرسم في الهواء الطلق وخارج الأستديو( 6) واجتهد في رسم الخيول والمناظر ذات الجمالية العالية، كما غاب عنصر الرؤية الثقافية والمعرفية عن أعماله لصالح إتقان عناصر اللوحة، لا سيما اللون والخط ،وعوامل الضوء والظل ،وإتقان الخلفيات والتفاصيل .وهي مؤثرات واضحة المصدر في الأدبيات والأعمال الفنية للإنطباعيين الفرنسيين .
لم تتوفر لفائق الإحاطة بمؤثر البيئة والمحيط بالعمق الذي تنبه له جواد، من خلال مدرسة الواسطي وعلامات المكان البغدادي ،إضافة إلى انشغال فائق باللون ومهارات اليد المباشرة ، عن تأمل أساليب الرسامين في الفترة التي عاشها بباريس ، وكانت السوريالية فيها ذات مؤثر قوي رغم إنحسارها التاريخي،ورسوخ التجريد كأسلوب فني حديث ،ونشاط الانطباعية الجديدة ،وفاعليتها المؤثرة.
تمثل جماعة الرواد عام (1950) بزعامة فائق حسن نموذجاً للتأثر غير الجذري بالأساليب الغربية.لقد كانت فكرة الجماعات الفنية غربية في الأصل، يلتم فيها فنانون من مشارب متشابهة ،كالتجمعات الدادائية والسوريالية وسواهما .وقد تأثر الفنانون العراقيون بذلك. نعتت جماعة الرواد نفسها أولاً بالجماعة البدائية وبتسمية primitive Society أو (P.S.) إختصاراً ، وكان أتباعها انطباعيين أو واقعيين بأساليب متباينة ، يظهر نشاطهم برسم المناظر الطبيعية ،وموتيفات البيئة التي ينقلونها عبر رحلات ميدانية ،ينظمها الرسامون في الهواء الطلق أو مجالي الطبيعة الحية ،هروباً من أجواء الأستديو. ولم يستطع ( البدائيون ) أن يجيبوا على سؤال الفن في لحظتهم الراهنة ، ولم يوازنوا بين الضغوط المعرفية والأسلوبية والمحيطية التي تحاصرهم ، لأنهم لم يوغلوا في الحداثة، بل ظلوا على مسافة قريبة من الذوق العام ،والإحتفاء بالموضوع ،وعناصر الإبهار البنائية التي يحتفي بها الإنطباعيون عادة .
لكنه حين أراد أن يضع نصباً للثورة بعد عام 1958 اختيار جدارية السيراميك الملونة وشخوصها المتعددين والحمامات التي ترمز للحرية. ويلاحظ تأثره في التفاصيل ببعض اللمسات من الفن الأوربي، كالأيدي المرفوعة للأعلى والملمح التكعيبي والتي تذكّر بأيدي آنسات أفينيون لبيكاسو. واختلطت مؤثرات التكعيبية والرمزية التعبيرية مع نزوعه ومدرسته إلى تكرار الموضوعات المقبولة والمفهومة جماهيرياً وبأداء عال جعل له مكانته غفي الرسم العربي.
ولا تزال جداريته التي يعرفها العراقيون باسمه فقط دون عنوانها- ربما لافتقادهم للسلام الذي وضعه الفنان عنواناً لها- أيقونة في فضاء المدينة .
6-
يبدو أن تأثر الفنانين المصريين نخبوياً بالسوريالية كان من أبرزملامح المثاقفة. واللافت هنا أن الجهاز النظري دعم الأعمال التجريدية والسريالية على وجه التحديد .
يعد كتاب سمير غريب( السريالية في مصر) مرجعاً شائعاً فائق الأهمية للتأريخ لهذه الحركة التي عرفت ب( الفن والحرية) ،ويعود الفضل في سندها النظري للسريالي المصري الأشهر الشاعر والكاتب جورج حنين.
يذكر الكاتب دور الأجانب و الإرستقراطية المصرية (7) التي تحضر المعارض وتقتني الأعمال.وهي ملاحظة جديرة بالإنتباه ؛ لأنها تحصل في أكثر من بلد عربي.فالتنثاقف كما هو واضح مرتبط بالحس والوعي المتوفرين في أفراد تلك الطبقة، لما يتاح لهم من تعليم راقٍ وفرصٍ لا تتاح لسواهم؛ بناء على برامج الحكومات و تلك الأعوام.
كان التجمع السوريالي يمثل صراعاً بين التقدمية والرجعية.ما دعا العقاد مثلاً إلى وصف السوريالية بأنها ( تشويه للذوق السليم في الأدب والفن، وتجعل الذوق المريض هو القاعدة، والهذيان هو المنطق..) (8)
ساهم جورج حنين في تلك الحركة، كامتداد لنشاطه المبكر في الحركة السوريالية الفرنسية ومؤسسها أندريه بريتون الذي كان يراسله وهو في مصر. ورغم انسحابه لسبب سياسي من الحركة ، ظل محافظاً على نزعته في الشعر والكتابة والفن ،داعياً إلى الحرية في الأسلوب والحياة معاً.وكان مؤثراً في كثير من الفنانين الذي رعاهم نقدياً ،و أصدر بيانات واضحة التأثربالسوريالية وبيانها الشهير، ومضمونها الذي ينشد حرية المخيلة .ومن أهمها بيانه المعنون( من اللا واقعية) عام 1935، وعزَّزه بدعوات ونصوص للكتابة الآلية المعتمدة على اللاوعي.وحين بدأ بتنظيم الجماعة السوريالية في مصر انضم إليه رسامون من أبرزهم كامل التلمساني وفؤاد كامل ورمسيس يونان.وتبلورت في جماعة الفن والحرية عام 1938 ، ومن أعلامها سيبرز رمسيس يونان الذي هاجر إلى فرنسا، وعاد لمصر لينشط ثانية، ويقيم مع زملائه المعارض السوريالية، مدعومين من تنظيرات جورج حنين وصلاته الشخصية بالسورياليين الفرنسيين شعراء ورسامين. ورغم عيشه في فرنسا فإنه تأثر بهنري مور في النحت، وتركيزه على التصميم وامتزاجه مع العناصر النفسية والإنسانية.وفي لوحاته ملامح من نساء هنري مور في التشريح خاصة، وبذلك يمثل رمسيس يونان التكييف المطلوب للمؤثر التثاقفي ،ويشحن أعماله بتلك القوة التي ميزته بين زملائه.ثم ينتقل في معرضه الباريسي عام 1948 من السوريالية إلى التجريد.(9) وفي أعمال الرسم يظهر أثر سلفادور دالي بلوحتيه عن نذر الحرب الأهلية ،وإصرار الذاكرة .
وكان كامل التلمساني مهتماً بالسينما بعد سنوات من نتاجه التشكيلي، لتعميق رؤاه البصرية، وفي رسمه شواهد لتأثره بنساء السورياليين ووجوههن .ويعمل فؤاد كامل على رسم سوريالي وتجريدي تظهر فيه مؤثرات التكعيبية، بجانب رفض المنظور التقليدي. وتبدو نساؤه بالأزرق شبيهات بنساء بيكاسو لحد ما ،حيث لا تكون الوجوه في وضع اعتيادي، بل تتحرك الأعضاء محققة ما يدعو له بيكاسو بكون الوجه ليس مايُرى، بل ما يتهيأ للفنان.
6-
من الجانب الآخر يبدو أن التثاقف الغربي مع الشرق والمغرب العربي بدا مهماً ، رغم اندراجه خطأ في دراسات الإستشراق.فالفنانون الذين تمثلوا الحياة العربية وأعادوا تمثيلها فنياً، كانوا ينتجون رؤى ذاتية، وانطباعات عن المثير والغريب بالنسبة لثقافتهم. قد تلتقي بالإستشراق في فحواه البعيد ومراميه غير المعلنة كاختصار الشرق أو تكراره وإنتاج صور نمطية عنه ، لكنهم في الواقع قدموا أعمالاً تسجل غالباً مشاهد الحياة اليومية ،والطبيعة بدرجة أقل.
ومعاينة نماذج مما قدموه يؤكد تلك الرغبة بنقل العجائبي والمثير .فلوحة ديلاكروا (نساء الجزائر في شقتهن) يعدّها رينوار أعظم لوحة شاهدها ، ويشيد بها بيكاسو ويحاول استنساخ عوالمها في عمله بالإسم نفسه ، ويظهر فيها الطابع الإسلامي والمغاربي في الثياب والديكور المحيط بالعمل.وهو مايبدو لدى ديلاكروا في ما يسمى بالموتيف الشرقي لديه (10)لأن الشرق يقدم أجوبة على أسئلة كثيرة في مخيلته وزملائه كفنانين ،بل كان تحول بعضهم أسلوبياً بفعل زياراته العربية. فحملت أعمالهم في طيّاتها ومضمونها( هوية فنية معاصرة مسـتمدة من الفن الإسلامي بأسلوب خصب معاصر للحداثة).(11) ويقدم الطبائع وتفاصيل المشهد في رغبة لاحتوائه ،والتعريف به وتوثيقه. ومن أشهر ما استهواهم حفلات جماعية، كالأعراس والمجالس والأسواق والشخوص العاديين، أو المحاربين بهيئاتهم وسحناتهم وثيابهم وخيولهم. ومشاهد مدينية وريفية .وإن بدا أن المرأة عالم غامض بالنسبة لهم، فكان الأكثر جاذبية.
إن المثاقفة الغربية للرؤى والأساليب والحياة في عالمنا ، تستوجب وقفة أخرى نعد بمعاودة دراستها لاحقاً.
هوامش وإحالات
(1) جبرا إبراهيم جبرا:( جواد سليم ونصب الحرية) وزارة الإعلام ، بغداد 1974، ص73 .وتذكر زوجة الفنان لورنا أن جواد شعر بالإحباط لرفض بعض اعماله لعدم تفهم الجمهور لأسلوبه ، كالحصان الحديدي، ومنحوتة المصرف الزراعي التي تمثل فلاحاً وزوجته وطفلة يتوسطهم جذع نخلة.كان المشرفون يريدون عملاً مباشراً: فلاحاً بيده رزمة أموال، واقفاً أمام محاسب المصرف!!.
يُراجَع ،إنعام كجه جي: لورنا- سنواتها مع جواد سليم، دارالجديد، بيروت 1998، ص65 .
(2) إنعام كجه جي، سابق، ص52
(3) لبنى حمّاد:تاريخ تأسيس الجمعيات الفنية بدمشق في القرن العشرين
Atassi Foundation For art & culture موقع
(4) ناصر الرباط :ساحرة الإبهار زها حديد ، ثقافة-صحيفة العربي الجديد، لندن –4-2016
(5) مختارات من يوميات جواد سليم ، جبرا إبراهيم جبرا: الرحلة الثامنة، المؤسسة العربية للدراسات، ط2، بيروت 1979، ص 146
وتؤكد ذلك زوجة الفنان لورنا سليم في حديثها لإنعام كجه جي، سابق، ص50
(6)هناء مال الله: جدل جماليات الحرفة والمعرفة،نشرة الواسطي،العدد الثاني،بغداد 1995 ،ص9 هامش 8
(7) سمير غريب: السريالية في مصر،طبعة جديدة ، مكتبة الفنون التشكيلية ،مركز الشارقة للإبداع الفكري، الشارقة 1998،ص 21
(8) نفسه ، ص23
(9) نفسه، ص162.ويورد الكتاب رأي بدر الدين أبو غازي الذي ذكرناه حول أثر هنري مور في نحت رمسيس يونان.
(10) د.زينات بيطار:الإستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي ،عالم المعرفة 157، الكويت1992 .ص5 وص7
(11) د. نجلاء علي الصادق المقطوف: التوظيف الجمالي للفن الإسلامي في لوحات المستشرقين المعاصرين، مجلة كلية الفنون والإعلام،جامعة مصراته، العدد الثامن،ديسمبر 2019،ص132
Saddam Alzaidi، هشام آل مصطفى و١١٩ شخصًا آخر
٣٥ تعليقًا
٥ مشاركات
أعجبني
 

تعليق
مشاركة