أجيال الشعر بين التوصيف والإنجاز

مقالتي  عن أجيال الشعر وتغييرات الأسلوب ، مجلة الشارقة الثقافية،العدد  الرابع والستون ، شباط فبراير2022
 

أجيال الشعر بين التوصيف والإنجاز

لم تلقَ التصنيفات الجيلية في الشعر خاصة قبولاً مناسباً من الشعراء وقرائهم، ولم تشهد الفنون الأدبية  الأخرى تصنيفاً مشابهاً باستثناء السرد في الستينيات وحقبة الرواد قبل ذلك.وربما سدَّ التصنيف الفني للقص: واقعياً وتجريبياً ، ثم مسرودات الحرب الطويلة ، مكانَ التراتب الجيلي الذي عرفه النقد الشعري .
لقد ظهرت في النقد السردي تصنيفات أخرى ؛ مثل كتابة المرأة وسيرتها،  وسرد الهوامش والمغتربين،لكن الجيل بالمعنى العمري والفني لم يعد مهيمناً في الخطاب النقدي السردي
إن التصنيفات لا تخلو  من استرايتجيات مفاهيمية في العادة. بذا أعلل  حماستي المبكرة في تبنّي وصف(الشعراء الشباب) ومصطلح (أدب الشباب). فقد كنت أرى أن الأجيال لاتحيل إلى  الشعراء بالإحتكام إلى أعمارهم، بل تعني ( أجيال الشعر) ذاته ونصوصه، لا أعمار الشعراء أو انتماءاتهم العمرية  ووجودهم في العقد المقصود تصنيفهم داخله.ولي مقالة بهذا العنوان ( أجيال الشعر لا الشعراء)، تلخص ما أراه. فالقول بأجيال الشعر يسمح باختراق الإنتماءات الزمنية،فيكون شاعر من جيل عمريٍّ أو عقد، منتمياً بشعره إلى جيل آخر.تصح هذه في حالة الشاعر محمود البريكان بوجه خاص كمثال.وتنطبق على شعراء آخرين كان شعرهم يضعهم في أجيال شعرية ، لما تتميز به قصائدهم. ويمكن القول إن ذلك تبلور حين تنوعت الكتابة الشعرية ، فجرى تصنيف الشعراء بحسب الأساليب أو الأشكال التي يكتبون بها نصوصهم. لاسيما حين ظهرت بعض التجمعات مثل جماعة كركوك ،والموقعين على البيان الشعري وغيرهما..
وهذا لا ينفي كوني مؤمناً بالجيل كتكتيك يُيسر الدراسة والتصنيف، والقراءة أيضاً.ولكن بتوسيع المصطلح ، وانفتاح  المفهوم بالضرورة ؛ ليأخذا  أبعاداً فنية.
ونشير لتعضيد قناعتنا إلى الإصطفافات في ثقافات العالم  وفق الأجيال ،ولسنا استثناء في ذلك،فثمة جيل47 ي ألمانيا و27 في أسبانيا وهكذا..لكن الأقرب للتصنيف الجيلي الفني لا الزمني هو الجيل الضائع في الرواية الأمريكية، فهو يضم كتاباً ليسوا من فترة عمرية واحدة . لكنهم خضعوا لمؤثر مشترك.وبذا يمكن التوافق على أن جيل الرواد هم المجددون في القصيدة العربية، وجيل الخمسينيات هم من واصلوا ذلك بدرجة أقل  من المتوقع ، وبوتائر متباعدة ومتقطعة. ولعل هذا – إن صحَّ- يفسر ضياعهم بين جيلين نقدياً. .بينما يكون جيل الستينيات بداية المراجعة للتجديد والمضي به صوب التحديث.ويكون لجيل السبعينيات دور المضي بشوط أبعد وانفتاح أكثر، لنصل إلى الثمانيين وما سرقت الحرب وتداعياتها من أعمارهم .ويندرج في هذا شعراء من خارج الجيل الزمني، كانت نصوصهم في سياقات الظرف المحيط بتلك السنوات..
كان كتابي مواجهات الصوت القادم(1986) من أوائل الكتابات النقدية حول تجربة شعراء السبعينيات العراقيين  الذين عرفوا أيضاً حينها بالشعراء الشباب. وهو مختارات ودراسات في شعرهم.وقد وجدت أن  الإصطفاف الجيلي في حالتهم  أكثر وضوحاً .  كان شعر السعينيات وليس شعراءه هو  المتن  في الدراسات،فتجاوزت الوجود الجيلي-العمري- ، إلى القصيدة- النص،  فوضعت ضمن الكتاب،  شعراءمن أعمار مختلفة قليلاً عن السبعينيين. لكنني وجدت في نصوصهم مشترَكات فنية وموضوعية (نسبة إلى الموضوع الشعري) مع القصيدة السبعينية، في اللغة والتقنيات الداخلية والجرأة الموضوعية . وهو ما ميّز القصيدة  السبعينية والأسماء التي كانت على لائحتها.فقد برز الإهتمام بالنصوص الطويلة والإستمداد من الموروث الرمزي والمعتقدات والملاحم والطقوس القديمة ، فضلاً عن مجاراة الحداثة الشعرية العربية  التي تهب رياحها ،لتوقف المد الإيقاعي الصاخب، وتجعل الخطاب الشعري أكثر هدوءاً وعمقاً.مع ما لاحظتُه من حضور الأنا الشعرية بتمركز ونرجسية أوضحَتها متونهم الشعرية، وتصريحاتهم وتفوهاتهم خارج تلك المتون.
وحين تلت ذلك قصيدةُ الشعراء الثمانينين ،تنبهنا إلى نشأتها في الظل كما وصفتُ كتّابها.فهم بدوا أكثر رسوخاً في التناول، لاستقرار قصيدة النثر ،وقبولها تلقياً . فلم تعنهم كثيراً التلفظات وادعاء التغيير الجذري في القصيدة ،وتجنبوا المعارك والمنازلات التي شغلت الجيل السابق، لكنهم مضمونياً كانوا يتسمون بحزن طاغٍ هو ترميز للحالة العراقية التي سادتها ما جرته الدكتاتورية من ويلات؛ تمثلت بالحروب المتوالية وعسكرة المجتمع، وطغيان أدب الحرب والتعبئة التي تتعارض مع أهداف الجيل الشعرية ،ومهمة التحديث التي يرونها من أهم محاورتجربتهم ومكوّنات خطابهم.
لقد  كانوا ضحايا محرقة الحرب الكارثية التي التهمت أعمارهم في التجنيد الإجباري الطويل.حتى سادت  في فضاء قصيدة الثمانينيات روائح احتراق اللحم العراقي ومسيل دمه.وفيها بكائيات مرمزة  للخسائر والسنين الضائعة من زاوية نظر ذاتية غالباً. وفنياً نجد – بجانب  هيمنة أجواء الحرب وتداعياتها – استخداماً لقصيدة النثر بمرجعيات جديدة ومؤثرات متغيرة عن سابقيهم.
وقد  استنسخت التسعينيات تجربة الثمانيينيات بدراماتيكية أشد، بمعنى إضافة عناصر مثيرة ترتبط بالحصار الذي عرفه العراق وتداعياته وتفاعلاته الثقافية والنفسية،. وهذا سينعكس في نصوص التسعينيات المنشورة التي تعد شاهداً على تفاعل الحالة العرااقية من عسف  الدكتاتورية وخنقها للحريات، و مغامراتها المجّانية المؤسية ، والتي تسببت بتداعيات ليس أقلها الموت اليومي ،والضائقة الإقتصادية، وشحة مفردات الحياة بسبب الحصار ، والعدوان الخارجي المخترق للسيادة .
يتبين لنا  أن التوصيف  لايخلو من مناكدة جيلية.فهو في الأساس اشتقاق ظرفي ؛أي أن مبتدعيه يقارنون بين جيلين أو أكثر.وهذا هو سر تموضع الشبابية في الوصف.وهي صفة ظرفية ؛لأن هؤلاء سيصبحون كباراً ينظرون للجيل اللاحق بكونهم شباباً.
هنا  يأخذ الوصف  هيمنة  أبوية في مستوى من الخطاب النقدي .حين تمتزج أحكام القيمة بالتحليل والوصف.. وفي بعض مستويات التلقي تحفُّ بالمصطلح ظلال أبوية  شعرية .هذا يتم استنتاجه من مستخدمي الخطاب حين يضعون أنفسهم في مقارنة أو معادلة قيمية.والطريف أنه يأتي بلسان الشباب أنفسهم إعلاناً عن تميزهم وحيوية قصيدتهم ، وافتراقها عن قصائد الآباء!، رغم أن الوصف يستفزهم  أحياناً ،حين يأتي من جيل شعري آخر.ويؤكدون رسوخ تجاربهم إبعاداً لأي التباسٍ في فنيتها أو نضجها.
لكن القارئ لا يتخلص من الموجهات  الزمنية لقراءته ، فالنصوص  قد ارتبطت في ذاكرته بسياقات تلك الفترة. ولا تهمه هنا شبابية الأعمار الشعرية  ،قدر منجزها وما ظل منه.ودوماً ترد في هذا الصدد أمثولة رامبو والسياب.رامبو  الذي عاش زمنياً بعد توقفه  المبكرعن الكتابة، أو ذهاب قصيدته شابَّة إلى الصمت .والسيّاب الذي  مات في الثامنة والثلاثين، وتوقفت قصيدته.لكن الشاعرين  ظلا في الذاكرة الشعرية والقراءة حيويين و(شابَّين) بمعنى التجديد الذي اتسمت به قصائدهما. وقُرئت- واقترنت- به. وبمقياس التأثير كان لهما  حضور واضح في ما تلاهم من نصوص، وما استجد من خطوات تحديثية في الكتابة الشعرية.
وهنا أيضاً تم اختراق مفهوم التراتب الجيلي ، فظلت لكل منهما أفياء وارفة  وظلال  في المشهد الشعري ، واستمداد فني وجمالي في إطار التجديد وسياقاته، وضعهم خارج التصنيف الزمني.
لم يعد اليوم من يعبأ بالتصنيف الجيلي إلا فئة الدارسين لتاريخ الشعرية أو المهتمين بمزايا أسلوبية متحورة أو متغيرة عبر الكتابة.وصار المقياس الأكثر شيوعاً هو تشخيص عينة أو صنف النص ذاته وما ينعكس فيه من سمات، ربما يكون لها استمداد من مهيمنات جيلية أو زمانية.