البوح والترميز القهري -بقلم الشاعرة والكاتبة منيرة مصباح

ديوان الآن -مجلة الأدب الحديث -25 يونيو 2020

 قراءات ومقاربات
ـــــــــــــــــــــــــــ
“البوح والترميز القهري” للدكتور حاتم الصكر
دراسة السير الذاتية في الرواية العربية

منيرة مصباح (فلسطين)

عادة ما تعتمد الدراسات النقدية على نظريات قائمة في تحليل العمل الإبداعي الأدبي، من شعر وقصة ورواية، وفي هذا العصر أصبح النقد يتناول النظريات الحديثة لتحليل النص المتضمن كافة الأنواع الفنية والمتداخلة، لكن الدكتور حاتم الصكر، خصص أحد كتبه النقدية والذي يحمل عنوان “البوح والترميز القهري” إلى دراسة السير الذاتية ضمن الروايات لعدد من الكاتبات والكتاب في عدة دول عربية، وتداخل هذه السير مع السرد الروائي الخيالي، إلى جانب اكتشافه لسير النساء اللواتي لا يكتبن سيرتهن بوضوح وأمانة، لأسباب عديدة ترجع إلى المجتمعات التي يعشن فيها وإلى رقابة داخلية قد نشأن وتربّين عليها، تجعل كتاباتهم أقرب إلى الرواية منها إلى السيرة. دكتور حاتم الصكر في تحليله النصي استشهد بنظريات عديدة في هذا الشأن وهذا مجاله التخصصي بصفته أستاذًا جامعيًّا له العديد من الكتب والدراسات سنأتي على ذكرها لاحقًا. لم يستثنِ الصكر بعض الكتاب أيضًا من الترميز في أعمالهم الروائية السيريّة لأسباب تدخل في سلطة المجتمع على الكاتب وعلى أعماله.
بعد العنوان الذي يحمل الكثير من الدلالات، نأتي إلى الإهداء الذي يوجهه للنفس في مجاهلها الحياتية ومتاهاتها الكتابية حيث يقول: “إلى كل ذات تبحث عن ذاتها في مجاهل الحياة ومتاهة سردها الغامض”، ثم يتبع ذلك بكلمة لكاتب السيرة الذاتية “جورج ماي” يقول فيها: “إننا حين ننحني على كتف نرسيس، فإنما لنرى وجهنا، لا وجهه منعكسًا على صفحة ماء النبع”.
ينقسم البحث إلى عدة أقسام ثم نماذج تطبيقية في أنواع مختلفة من الكتابة ولعدد من الكاتبات والكتاب.
في الفصل الأول وهو مقاربة نظرية لمفهوم السيرة الذاتية، حيث إن السير- ذاتية، كما يقول فيليب لوغون، ممارسة فردية واجتماعية لا تقتصر على الكتّاب وحدهم.
وهو أكاديمي وناقد استشهد في بحثه هذا بنظريات خاصة بالسير الذاتية الغربية، ليقول لنا إن الصدق فيها كحد أخلاقي، مجرد محاولة، يحبطها أو يحد منها زمن الكتابة، أيضًا فعل الاسترجاع بوساطة الذاكرة، يحصلان في الحاضر، ويذهب الكاتب للسيرة إلى الماضي بطريقة انتقائية، أو كما تسميها يمنى العيد “الاستنساب”، حيث تعجز الكتابة عن استعادة كل أبعاد الحكي، وحتى تقديم أو تأخير الوقائع حسب ما يقتضيه السياق. تنفصل السيرة إلى عدة عناوين، فهناك رواية السيرة الذاتية- المذكرات-اليوميات- الرسائل- الشهادات- المحاورات- قصيدة السيرة الذاتية.
ويذهب دكتور الصكر إلى أفق السيرة الذاتية النسائية، ليقول إن المرأة لها حضور خاص داخل الجنس السيري المستعاد من الهامش، في خصوصية تجربتها ذاتها، المتشكلة تحت وطأة ظروف، لا تماثل ظروف تجارب الرجل الذي يكتب السيرة، فهو يكتب في مجتمع ساهم في اعتباره رجلًا في صياغة لغته وخطابه وأعرافه. بينما تكتب المرأة في المجتمع الذكوري ذاته، كصوت هامش مضغوط أو مقموع، ما يلون سيرتها الذاتية بالكثير من المحظورات، حيث يأتي عامل آخر للسيرة النسوية، وهو القهر الاجتماعي المصادر لاختيارات المرأة منذ الطفولة.
يستشهد الدكتور حاتم الصكر بسيرة فدوى طوقان المسجلة وبسيرة نازك الملائكة من خلال اللمحات المهربة من سيرة غير مدونة إنما كتبت لمحات استجابة لطلبات بعض الباحثين وكتبة الدراسات العليا، وهي بذلك تعطي ملمحًا تريده وليس سيرة ذاتية كاملة بكل ما فيها. أما في سيرة غادة السمان ونوال السعداوي فهناك تشابه من حيث الانحصار في شرنقة الكتابة، حيث تكون الأنوثة ضد نفسها على ما يقول حاتم الصكر، فهي ثقافة تمرد على النفس الأنثوية. ويستمر الباحث في تناول السير النسائية ومقاربتها لأخرى حيث يقوم بالبحث في “صفحات من الذكريات” للكاتبة المصرية فاطمة موسى، وللجزائرية المقيمة في فرنسا ليلى صبّار، هنا يشبه أزمة ليلى صبار العربية بأزمة كاتبة كندية تعيش في المنفى الفرنسي هي نانسي هيوستن، حيث تصبح الأزمة هنا مشتركة بين كاتبتين.
■ عالية ممدوح وبثينة الناصري
يتابع الدكتور حاتم الصكر بحثه في السير الذاتية، ليستشهد بكاتبتين عراقيتين مهمتين في الرواية العراقية هما عالية ممدوح وبثينة الناصري، كشهادة على الزمان والمكان، لذلك يقول إن الشهادات المكتوبة هي أفضل مناسبة لبروز الأنا. ففي شهادة عالية ممدوح (أنا: شذرات من سيرة الشغف) هذا العنوان يبرز الأنا بوضوح، حيث يرى الصكر (الأنا) إعلان مباشر عن الذات في مركزيتها اللافتة. وهذه الأنا هي نوع من مقاومة ضدية للسائد، حيث تقول عالية ممدوح في شذراتها، إن ضمير المتكلم في المدارس الثانوية كان أمام الأُسر والأحزاب لا طائل منه، حيث كان مطلوبًا من الجميع إقصاء الأنا، حتى لو كانت الأنا فكرة. وبذلك يصبح الضمير (أنا) عنوان الشهادة، ثأرًا من ذلك الفقدان. لكن خاتمة الشهادة يراها الباحث في شغف الكاتبة ببغداد التي هي المحبوب، حيث كان الانفصال عنه هو الاتحاد النهائي به.
أما بثينة الناصري التي وضعت لشهادتها عنوانًا موجزًا “حياتي.. الكتابة”، فقد اختصرت شهادتها ليصبح العنوان هو المُعرِّف بحياة الكاتبة، فالكتابة هي سيرتها ولا شيء غيرها، وقد أعادته الكاتبة مرة أخرى في نهاية الشهادة حين قالت: “ولكن تظل الكتابة ملاذا أخيرًا”.
■ سبع أديبات يمنيات
في هذا الفصل نرى شهادات أكثر كثافة، كأنها صيحات في برية الرجال، لسبع أديبات يمنيات، حيث يتضاعف بنى الحجب والعزل الجنسي في المجتمع اليمني، كما يقول الباحث لهيمنة الذكور لا في صنع الخطاب فحسب بل في تصميم وتنفيذ وإدارة حياة المجتمع منفردين.
فمن الكاتبات ما تعنون شهادتها تحت عنوان “قصتي مع الشعر” وهي فاطمة العشبي، التي انتهت بدايتها في الشعر مع والدها الذي هددها بقطع يدها، لأن الشعر مقصور على الرجال في ظنه. ويضيف الدكتور الصكر إن عذاب هذه الشاعرة جاء بعد تزويجها وهي في الثالثة عشر من رجل يكبرها بثلاثة أضعاف عمرها، حيث خيّرها والدها بين الزواج أو الدفن حية. ولم تنته مأساة هذه الشاعرة هنا، إذ بعد الانفصال عن الزوج عانت الكثير بسبب النشر، حيث شُنّت عليها الكثير من حملات التشويه والتلويث المخيفة.
الدكتور حاتم الصكر في هذا الكتاب القيم جال في سير العديد من الكاتبات العربيات على مساحة معظم الدول العربية في البحث عن “الترميز القهري” في حياة المبدعات ليبرز مدى معانات الأنثى في هذا العالم في مجال الكتابة وغيرها مع فوارق مختلفة من بلد عربي لأخر. لذلك فإن الباحث يقول: إن العكوف على كتابة السير الذاتية النسائية، هو جزء من هذا الكفاح المستمر على مستوى الإبداع، لإظهار تميز المرأة، وتأكيد هويتها النوعية، بمقابل عسف وعنف ذكوري تفصح عنه الملفوظات السير ذاتية بمختلف تشكلاتها.
أما القسم الثاني من البحث فقد خصصه الباحث للكتاب من الذكور، تحت عدة عناوين منها السيرة والرواية، السيرة الروائية ورواية السيرة، كما ضمن بحثه تطبيقات للعديد من كتاب السيرة منها “غربة الراعي” للدكتور إحسان عباس، إلى جانب نماذج من السير الثقافية، والسير الشعرية، وسير الرحلات، والرسائل الحميمة.