استعارة إيكاروس: حاتم الصكَر يقارب الخطاب الميتا شعري في قصيدة النثر
شعر على شعر
صار «الميتا شعر» /méta-poésie meta-poetry أحد وجوه الحداثة الشعرية في بعدها المعرفي، فهو يعكس الانشغال النظري لدى الشاعر الحديث والمعاصر، ومعرفته الشعرية، وعيه النقدي الذاتي بأسئلة الشعر الجديد والمتجدد على الدوام، وأخذ يتجلى بقوة في الاستبطان الشعري والوعي الذاتي اللذين من خلالهما يعبر عن التزامه الفني وانشغاله بموضوع الشعر خلف قناع أو وسيلة شعرية؛ فيكون الشعر – نتيجة ذلك- هو موضوع القصيدة ويتخذ صفة «المنعكس ذاتيّا» self-reflexive كما يقول دوروثي بيكر. يُرجع رينيه ويليك جذور «الميتا شعر» إلى هوراس وبوالو، حيث اضطلع كل منهما بدور الشاعر الناقد الذي يهتمّ بطبيعة الشعر وصنعته في قصيدته المطولة (فن الشعر)، وإلى غيرهما من الشعراء ممن كانوا يتأملون فنّهم الشعري ويدرسونه. مثلما تُرجعها هدى فخر الدين في تاريخ الشعر العربي إلى شعراء العصر العباسي المحدثين، حيث برز عندهم وعي نقدي أثناء صراعهم مع القدماء، وكانوا «يكتبون بوعي إزاء مرجعية شعرية مُحدّدة، فتكون قصائدهم بمثابة تعليقات نقدية على القصائد السابقة، أو تلاعُبٍ بموتيفاتها».
تطور خطاب «الميتا شعر» في الدراسات الحديثة التي تناولته في علاقته بحداثة الشعر في القرن العشرين بوصفه شكلا من أشكال المساءلة الشعرية، وبالحركات الطليعية عموما، بما في ذلك حركة الشعر الحر في الفضاء العربي. وما زال إلى اليوم مثار نقاش ومساءلة بين الدارسين ونقاد الشعر.
إنّ أبرز خاصية يتحدّد بها «الميتا شعر»، هو أنّه يجعل من القصيدة نصّا وميتا نصّ في آن: شعر على شعر، وشعر عن شعر في تأويل آخر. وقد شكل منعطفا حاسما لبروز الوعي الذاتي عند الشعراء ورغبتهم في التجاوز والتحديث الشعري، في ما يسوقونه من تأمُّلات وحدوسات وشذرات داخل قصائدهم، أو من بيانات نظرية بخصوص قضايا شائكة ومعقدة، مثل الكتابة، والتراث، والأسلاف، وثنائية الغرب/ الشرق وغيرها. ومن هنا، كانت كل حركة تجديدية بمثابة «مشروع ميتا شعري» يتدفق بالأسئلة والتأملات إلى وقتنا الحاضر، بل صار أكثر غنى وتعقيدا بعد أن استجدّت الإشكالات المعرفية والفنية التي طرحتها قصيدة النثر، والخيارات الشكلية والجمالية التي انحدرت من رحمها، وأثارها شعراؤها بوعي حينا، ومكر تجريبي حينا آخر.
في هذا السياق، تأتي دراسة الناقد العراقي حاتم الصكَر، المعنونة بـ«إيكاروس محدقا في شمس القصيدة: الميتا شعري في نماذج من قصيدة النثر العراقية» (منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد 2024). وقد برر اختياره هذه القصيدة متنا للدراسة، بما عرفته ضمن تاريخ الشعرية العراقية، من تطور مدهش ومتنوع بعد منجز جيل الرواد المرموقين، سواء من حيث تعدد مناخاتها وأساليب كتابتها، أو من حيث طرائق صوغها وكيفيات بنائها ومرجعياتها المؤثرة، ولم يكن المحتوى فيها غرضا منفصلا، بل هو «جزء من شكلها وأسلوب كتابتها»، الذي انفتح على السرد وجعل اللغة بؤرة اشتغال أساسية، بقدر ما تبنّى الأشكال والتراكيب النوعية (الهايكو، الشذرات..) التي تخفف من ترهل الملفوظ النصي وتكثف دلالاته. بل برزت، ضمن هذا المنحى التجريبي، أنواع كتابية تستغني عن الديوان كمجموعة قصائد، مكتفية بنصٍّ واحد مجزأ أو متصل. وقد صاحب كل ذلك «وعي ميتا شعري» كان يتحاور مع القصيدة بوصفها نصّا ذا ملموسية وتجسدنات بنائية، وهي «في حال تشكُّلها واصطناع الحوار معها، أو وصف تخلُّقها وبسط مفهوم الشاعر لكينونتها».
يتخذ الناقد من دراسته لخطاب «الميتا شعرية» مجالا تأويليّا، ليس لإبراز ما تكشف عنه القصيدة من خصائص فنية وموضوعاتية متنوعة، أو لتحديد طرق المعالجة أو الهيئة التي تبدو فيها هذه القصيدة وحسب، بل كذلك تأكيد حضور أنا الشاعر في القصيدة على نحو يحقق مبدأها الحواري، ووعيها الذاتي بما تكتبه وما تتأمله داخل المكتوب، ويتصل في الصميم ببرنامج كتابته الشعرية وعلاقتها المتغيرة بأفق القراءة والتلقي: «فالقصيدة هنا تفكر بنفسها أو يضعها الشاعر داخل القصيدة، وتتكلم أو تستجيب لحوار الذات الشاعرة، وتلتفت إلى الذات القارئة، وتتساءل».
استعارة إيكاروس
يقترح الناقد معاينة وجود القصيدة موضوعاَ في القصيدة ذاتها، وتكون هذه القصيدة شكلا متعيّنا يجترح نفسه بملموسية وقصدية، ويتنامى داخل شروط تدوينه وآليات تخييله، وهذا جوهر «الميتا» في القصيدة؛ لأنه يسمح للشاعر نفسه أن يكون قريبا من موضوعها ومناخاتها الداخلية، بقدر ما يحفز ذلك على معاينة المشكلات والحوافز التي تعترضه ويعانيها أثناء كتابتها، بل قد يسائلها كأيّ مُتلقِّ لها. من هنا، ينبغي أن نقترب من معنى «إيكاروس» الذي يعتمده الناقد كاستعارة وعتبة نصية في التحليل، فهو ينظر إلى القصيدة بوصفها مقاربة إيكاروسية، تقترب بشدة من القصيدة كوجود منفصل، كما فعل إيكاروس في الأسطورة وهو يحلق بجناحين من شمع وريش، مقتربا من الشمس لمعرفتها، وغير مُبالٍ بوصايا ديدالوس. فالمعنى تمثيل رمزي لعمل الشاعر في طور الحداثة الشعرية، الذي ظلّ يحلق بوعيه ومُخيّلته خارج أبعاد المكان بمفهومه الإقليدي، ويستبدل بذاته المنفعلة والمفكرة ذاتَ القصيدة التي تنوب عنه في تمثيل رؤيته والإفصاح عنها بطريقتها الخاصة. يقول حاتم: «وجدت أن فناء الشاعر في موقف القصيدة الميتا شعرية أو المكتفية بذاتها داخل القصيدة، هو انتصارٌ لذات القصيدة، وإبعاد لذات الشاعر الذي تُمثِّله رؤيته في القصيدة عادة، ولكنه هنا لا يحضر بذاته عبر ثيمة محددة يكون هو فاعل سردها. وكأنه هوى وسقط لشدة اقترابه من القصيدة، من جوهرها وكنهها وكيانها المشع، مفنيا ذاته ليبرز ذات القصيدة وشؤونها». فهو يؤول القصيدة كاستعارة إيكاروسية تعتمد على الميتا شعري لإنجاز النص الذي يعود على نفسه، ويتأمل ما في داخله، ولا يلقي بالا بالرسالة التي تذهب إلى مرسل إليه خارجي، يعنيه فيها ما تحمله من مضمون أو أثر تواصلي وحسب. فالمضمون هنا هو شكل القصيدة وهويتها، أي ـ كما يقول- ما يصنع خطابا موازيا في النص نفسه. ولهذا لم يحصر الناقد عمل الميتا شعرية واللغة الواصفة بنقد الشاعر لقصيدته شعريّا، أو بأنها عملية تنظير ناعمة للشعر، بل ينظر إلى «الميتا قصيدة» كشكل تجريبي يقود القصيدة – وهي تنكتب داخليّا- إلى أن تحاور أو تسائل نفسها عن أطوار تكوّنها وتركيبها، ويمتدّ حوارها التفاعلي ضمنا إلى الشاعر، وإلى قارئها كذلك.
الميتا شعري في قصيدة النثر
يشكل الميتا خطاب méta-discours داخل النصوص ـ أيّا كان تجنيسها- مظهرا من مظاهر التحول الجذري الذي عرفته الأنواع الأدبية في العقود الأخيرة. وقد ابتدع كتّاب السرد ما يعرف بالميتا سرد أو الميتا قص، تأثرا بالميتا لغة أو ما وراء اللغة لدى اللسانيين، وابتدع سواهم الميتا مسرحية والميتا نقد وغير ذلك. وفي الشعر، صارت «الميتا القصيدة» بما هي معالجة نصّية أكثر ملموسية وتعيُّنا ووعيا، تجسد برنامج الحداثة الشعرية. يُؤْثر الناقد مصطلح «الميتا قصيدة» بديلاُ عن استخدام مصطلح الشعر في بسط المقصود بالميتا شعري الذي يرتبط تاريخيا بمفاهيم ومقاربات كلاسيكية واصلت حضورها في رؤية الشعراء العرب الإحيائيين أو المقلدين. مثلما يؤثر استبدال (الشعر عن الشعر) بـ(الشعر على الشعر)؛ وذلك لتكريس الفرق بين الشعر، كونه جنسا أدبيا، وكتلة تدافع عن مزاياها وهويتها النوعية، والقصيدة، كنص لا يتبع بالضرورة اشتراطات الشعر. ومن جهة أخرى، لتمييز الوظيفة الميتاشعرية وتخصيص شعريتها، وإقرارا بوجود قصيدة داخل القصيدة، أو قصيدة نثر عن قصيدة النثر. فما يراه الناقد امتيازا لقصيدة النثر، إنما هو «انتقالها بالكتابة من الشعر بحمولته المكرَّسة في التقاليد أو الأطر الفنية والبنى الجمالية الموروثة والمتكتلة بقوة، إلى القصيدة بما تقترح من مفاجآت إيقاعية وانزياحات وخروج عن الثوابت». فالقصيدة ـ في نظره- ابنة نافرة متمردة تهفو للخروج لفضاء حر، ولا تنصاع لتعاليم الشعر الذي يريد تطويعها وتدجينها وفق نوعين من الذخيرة:
ـ ذخيرة فنية لها قوانينها الصارمة المستقرة، عبر استخدام الشعراء لآلياتها وتقاليدها؛
ـ وذخيرة جمالية تتكون وتتكتل بما يضمنه لها المتلقون من مكانة في تصوراتهم عن الشعر، تُحصّنها ضد (جسم الغريب) عنها، حسب تعبيره.
في مقابل الأنواع الشعرية السابقة، يفترض أن النوع التحديثي الذي تبلور عبر قصيدة النثر، قد مثّل التحديث الجذري الذي لا يكتفي بالشكل أو اللغة، بل يجترح مزاياه عبر القصيدة التي تنتقي ما يلائم عالمها الداخلي، وتتقدم بوصفها مشروعا شخصيّا مفتوحا على مقترحات ثرية تتسع لبرامج إنتاجها وتلقّيها على حد سواء، على نحو يدفع إلى الاقتناع بوجود قصيدة نثر لكل شاعر معاصر، ولكلّ مؤول منتج. وحين يلتفت الشاعر إلى هذا الميتا خطاب داخل مشروعه الشعري فهو ينقل القصيدة من مضمار الجماعة إلى الذات الشاعرة في صوتها الفردي الحميم وشؤونها الخاصة بما تنطوي عليه، أثناء الكتابة، من تأملات وأقنعة ورموز وتمثيلات ومفارقات مدهشة، تبعا لطبيعة هذا النوع أو ذاك من الأنواع الشعرية، وطريقة بنائه ومداه الجنيالوجي.
وفق هذا التصور، يتعقب الناقد حاتم الصكر الذي خبر النقد الشعري ولازمه سنين عددا، نماذج من قصيدة النثر لشعراء عراقيين من مختلف الأجيال والحساسيات الجمالية (صلاح فائق، سركون بولص، فاضل العزاوي، هاشم شفيق، عبد الرحمن طهمازي، عبد القادر الجنابي، عبد الكريم كاصد، عبد العظيم فنجان، عدنان الصائغ، خزعل الماجدي، أديب كمال الدين، علي نوير، أحمد عبدالحسين، جواد الحطاب، شاكر لعيبي، عبود الجابري، سهيل نجم، علي وجيه، طالب عبد العزيز، باسم فرات، عبد الرزاق الربيعي، عادل مردان، دنيا ميخائيل، كريم جخيور، إيهاب شغيدل، عدنان محسن، هادي ياسين، زعيم نصار، حمدان طاهر، علاوي كاظم كشيش، فليحة حسن، علي حبش، وسام هاشم، عباس السلامي، إلخ)، ممن كان لهم وعيٌ بهذا الخطاب، وتجد في نصوصهم الشعرية، حتى داخل ما ينشرونه من شذرات في فيسبوك، نماذجَ حيّة ومتنوّعة تدخل في قصيدة «الميتا»، تتنوع كيفياتها ودلالاتها وتأويلاتها، وهو ما سمح له برصد أنماط هذه القصيدة وتشكلاتها الأسلوبية وما ترخي من دلالات وآثار نفسية وجمالية مخصوصة، وتكشف بالتالي عن رؤية الشاعر للكتابة كوسيلة تفكير وسلسلة من تمظهرات الوعي والشعور والإدراك، ووسيلة تعبير عن جُماع ذلك كلّه، ضمن المحاور التالية: حد القصيدة وماهيتها، وموقف التلقي للقصيدة، ومعيار الكتابة في رؤية شعرية، وتعاليم الكتابة ووصاياها.
لقد شكل الخطاب الميتا شعري علامة فارقة على ازدياد وعي الشعراء، الحدوسي والتنظيري، بما يكتبونه ويقترحونه من صيغ وممكنات جمالية، غير أنّه لا يقدم نفسه بديلا عن نظرية ما، وإنّما يتقدم باعتباره مشروع كتابة يجسد تفكير الشاعر في ما يكتبه من الداخل، ومن ثمّة لا يجوز فصله عن الشاغل الجمالي لهذا الشاعر أو ذاك، بل عن اتجاهه الفني ومشروعه الشعري ككُلّ.
كاتب مغربي