الرؤية والتحولات في الكتابة الشعرية

من صفحة الصديق صلاح بوسريف

الناقد العراقي د. حاتم الصكر، يكتب عن كتاب “السهم والوتر – بيانات في حداثة الكتاب” في العدد الأخير من

مجلة الشارقة الثقافية العدد 93 يوليوز. 2024:

الرؤية و التحولات في الكتابة الشعرية

حاتم الصكَر

توسلت حركات التجديد والتحديث العربية في الشعر خاصة بالبيانات والمقدمات والإعلانات الفكرية لتوصيل أطروحاتها وأفكارها والتقاطع مع ما هو ساد في ظرف صعود تلك الحركات ..وهو أمر تشترك فيه الثقافة الشعرية العربية مع سواها من حركات التجديد العالمية التي لجأ بعض روادها إلى اتخاذ البيانات سبيلاً (ثورياً) لتقديم رؤيتها للتغير الذي تتوخاه في أساليب الكتابة ونظرياتها وأنماط صياغتها.
إن المقصدية الحاصلة في تجنيسها وكشف هويتها كبيانات،تتجلى في عنوان بثها ونشرها.حيث تهدف إلى توجيه القارئ صوب ما تتميز به من دعوة للتحول الأسلوبي والرؤيوي. وهو ما تمنحنا فرصة التعرف عليه مراجعة البيانات الشعرية الصادرة في القرن الماضي وما دعت إليه من تجديد وتغير حاد لاقى قبولاً ومعارضة، تعكس ما يهيمن على الخطاب الشعري ويحرك أفق كتابة النصوص
لكن معاينة نسخ من البيانات الشعرية المعاصرة، والتالية للبيانات المبكرة ترينا ما يمكن أن نعدّه عدوى البيانات الأولى..تلك الحاملة لواء الرفض والهدم والمغايرة في الكتابة الشعرية.وكان لها عبر( بيان الحداثة) و(بيان الكتابة) أثر واضح في خطاب البيانات . سواء في اللغة التي تزخر بالتمثيل الصوري والبلاغة المفرطة، وانتقاء أكثر المفردات تعبيراً عن الرفض والتجاوز ،أو في ربط الحالة الإبداعية بما يحايثها في الواقع كالمؤثرات السياسية والاجتماعية، والأحداث والوقائع الكبرى، والوضع العربي من خلال الأنظمة والحريات ، وصراع الأجيال والأفكار بصدد التراث والفنون أيضاً، وإدانة الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي تجسيداً لروح الثورة والانقلاب في النيات البيانية، أو في استحضار الوصفات الحداثية التي ترسّخ المغايرة والاختلاف؛ كالرؤية والحلم والرؤيا والتجريب.
وقد اخترت كتاب (السهم والوتر- بيانات في حداثة الكتابة) الصادر عام 2021عن دار خطوط وظلال للشاعر والكاتب صلاح بو سريف نموذجاً، نتوخى من خلال قراءته التعرف على الهاجس المشغّل لفكرة اليانات ومتونها، ولأنه نموذج دال تتوفرفيه المقصدية المطلوبة في موضوعنا لنعاينه بكونه بياناً ،لا تقديماً أو حديثاً أو إعلاناًعن فكرة وحسب.ويُحسب له كونه كرّس كتاباً خاصاً للبيانات التي ترابطَت ببعضها كخطاب،عبر الهدف ، وخضعت لأسلوبية موحدة ،تكتمل بها كلها تلك الرؤية التي أراد الكاتب أن يوصلها لقرائه.
بهذا وجدتني أعدّ الكتاب مثالاً جيداً لتلك الروح البيانية التي تتحكم في ما يصدر عن الشعراء من بيانات مجنّسة بهذا الاسم، ومقدَّمة للقارئ بكونها ( تغييراً) للواقع الشعري ومفاهيم قراءة الشعر وما يتصل بكتابته من تنظير ومصلحات أحياناً.وليست ( تغيراً) فحسب في الرؤية الذاتية للشاعر وتجاوزه لموقع كتابي وأسلوبي ، وانتقاله بقناعة خاصة لرؤية جديدة تنعكس على نتاجه الشعري أولاً.لكنه في تلك البيانات الطامحة يريد تعميم ما يراه على نصوص سواه ، ويجعل رؤيته قانوناً أو سمة أسلوبية وفكرية يحاكم حداثة كتّابها من خلالها.
وفي وقفة عند عنوان كتاب بوسريف توصلت عبر التأويل بأن السهم هو البيان.والطريدة هو الشعر ،واليد التي تطلق السهم هي الرؤية. أما الوتر الذي يتمدد ويخرج عن حيزه متيحاً إطلاق السهم لصيد الطريدة فهو الشاعر.وقد أعلن بو سريف عبر اثني عشر بياناً عن رؤية حداثية متحمسة تتسم بالتقاطع مع ما يسود الكتابة الشعرية من مفاهيم وقناعات ورؤى، والبحث عن بدائل تؤطر دعوته إلى (حداثة الكتابة) التي كانت عنواناً جانبياً يوضح محتوى الكتاب ،بعد أن كان العنوان الأول جمالياً مسبوكاً بالرغبة البلاغية في الاستعارة ،وجعْلها وصفاً لفعل الكتابة في حالَي البث و التقبل.
وقد مهَّد بوسريف لبياناته بمقدمة تتحدث عن الاستعارة الكونية الكبرى المتمثلة في أمثولة الصياد ووتره وسهمه وطريدته.فالشاعر- يقول بوسريف(مثل صياد يدرك أن أصابعه باتت هي ما يسدد به السهم ، وهي مايقوده إلى هاوية البياض الذي لا يفتأ يزداد تلبداً وغموضاً، كلما ظن أن ضوءاً ما ، بدا في الأفق).
يعني الشاعر بحداثةالكتابة هنا الشعرَ حصراً.ومستنده في هذه الاستعارة الكونية الكبرى هي الأسطورة. كما جاء في ملحمة كلكامش، وعناؤه في عبور المخاطر المتمثلة بغابة الأرز، (وكان الشعر هو الضوء المعين في البحث عن شقوق لتضيء عتمات الوجود الذي ليست الغابة السوداء سوى أحد استعاراته الكبرى).
وتتميز مقدمة البيانات بالخلط بين الشعري في العبارة والنظري في التأسيس النقدي ،ومفهوم الشعر والقصيدة ، والتأمل في موقع الشعر في العالم وشروط الكتابة الشعرية كما يراها ، متفحصاً تجارب الشعرية العربية المتعاقبة تراثاً وانبعاثاً ونهضة وتجديداً وتحديثاً.فتترصع لغته المتماهية بموضوعها والمتوسلة بالتشبيهات وسَوق الأمثولات والنزعة البلاغية بكثير من المواقف والمراجعات للتجارب الشعرية العربية وملاحظاته عليها، بجانب الهم التنظيري وسط الزخم اللغوي واحتشاد العالم الاستعاري والتمثيلات الوصفية لتقريب المفاهيم.
وفي البيانات إثارة لجوانب كثيرة من الأمور الفاعلة في تكوين الرؤية الشعرية ذاتها.كالنظر إلى اللغة والموضوع ،وقضية الغامض والواضح في شعر الحداثة وقراءته، ومهمة الرائي أي الشاعر، وسط عالم الغابة التي يصطاد فيها طرائده(أي قصائده).
يضع بوسريف في البيان الحادي عشر قاعدة تتصل بالرؤيا.وتأخرها هذا لا يعني ثانويتها.فهي ،أي القاعدة مصوغة بشكل نصيحة 🙁 لا معنى لأن تكتب دون موقف ودون رؤيا.كل كتابة تجري خارج هذين الزوجين، هي كتابة فارغة المعنى..لا تساعد على القراءة، ولا على الفهم والتأويل).
كان حق هذه القاعدة رغم صرامة الصياغة اللائقة ببيان ثوري ،أن تتقدم لواجهة الكتاب؛ لتوجِّه القارئ صوب ارتباط الكتابة بالموقف والرؤيا.وهنا تبرز ثنائيةالسياسة( الموقف) بالكتابة( الرؤيا).وذلك يؤكد ما شخصناه من المسحة السياسية في البيانات عموماً.وإحالتها إلى ما يجري محايثاً لها زمن صدورها.وقاموس البيانات يشي بذلك.فالموقف مفردة تم ترحيلها من الخطاب السياسي إلى الاصطفاف الفني، كالموقف من الحداثة أو قصيدة النثر، والموقف من التراث، …..
في الفقرة الثانية من البيان نفسه يشرح بوسريف ما يعنيه بالموقف.فتبرز المرجعية السياسية والإيديولوجية.فالموقف- يقول البيان-هو تعبير عن رؤيتنا للعالم، وطبيعة الفكر الذي تصدر عنه.ويؤكد أن الموقف(يحكم رؤيتنا .وهو (مذهب) في الكتابة). ونلاحظ هنا التأكيد على تحكم الموقف في الرؤية، وليس العكس ما هو مفترض إذ تلي المواقفُ في العادة رؤى الشعراء وما تمليه عليهم من بعد.
إن الحمولة العقائدية واضحة في استخدام رؤية العالم التي جاءت بها البنيوية التكوينية، كتعديل للواقعية التي رثَّت وقدُمت ، و تأطير للماركسية في جماليات الأدب ،كما برزت عند لوسيان غولدمان وأستاذه جورج لوكاتش.فكما ضمت البنيوية تيارات نفسية وأنثروبولوجية وسيميائية وأسلوبية، كان للفكر الاشتراكي عبر الفلسفة الماركسية تيار واضح فيها. وقد اقترض بوسريف عبارة غولدمان كما وردت في (المادية الجدلية وتاريخ الأدب) من أن الأدب تعبير عن (رؤية الكاتب للعالم) وأن (هذه الرؤية لاتقدم وقائع شخصية بل وقائع اجتماعية).
ينتصر بوسريف للشعر على القصيدة.مخالفاً ما تذهب إليه الحداثة ذاتها في التفريق بين الشعر والقصيدة: (الشعر) كتراكم تاريخي لنصوص القصائد، والدفاع عن المزايا النوعية المستقرة في نظمه ، ورفض ما يخالفها أو يخرج عنها، و بين (القصيدة) التي تأتي لتعدّل المنظور الشعري، وتضيف ما يقودها إليه سياق عصرها ورؤية كاتبها، خارجة عن أبوة الشعر مخلخلة ثوابته الجمالية ومقترحة مسارات جديدة للشعرية.وهذا ما تؤكده الطفرات التجديدية والتحديثية من خلال أفراد النصوص التي سنّت سنناً جديدة ومقترحات غيرت شكل الكتابة ومحتواها بالضرورة.ولا تعز الأمثلة في الشعر العالمي والعربي لتأكيد ذلك والتفكير بمدلولاته.
لقد وضع بوسريف في موضع آخرالقصيدة قسيما للكتابة وندّاً مناوئا لها.بل تحملت القصيدة كل ما يلصق بإنشاد الشعر في التراث الكلاسيكي أو الاتباعي المعاصر والقائم على الإيقاع المرتفع، والتعويل على التأثير في المتلقي المستمع.
ولقد كانت البيانات فرصة لتوضيح أجزاء من سيرة صلاح بوسريف الكتابية، وتطور جهازه المفاهيمي للكتابة.وكذلك لعرض رأيه في الموازنة بين التراث والغرب كمؤثرين، أو مرجعين للوعي الشعري، ووضع النقد المعاصر ،وما يهيمن على خطابه ودراساته ..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*