ذاكرة خضراء ..وأمطار بعيدة-عن ديوان علي جعفر العلاق حتى يفيض الحصى بالكلام

 
قراءة في ديوان (حتى يفيض الحصى بالكلام) لعلي  جعفرالعلاق
د.حاتم الصكَر
لا أغني جزافاً
ولا أتحرج من وحشتي
بهذين البيتين من قصيدة (بداية) يستهل الشاعر علي جعفر العلاق ديوانه( حتى يفيض الحصى بالكلام) وكأنه يوجه القارئ لمشاركته استذكاراته ومراجعاته الوجدانية في هذا العمل الذي يضم ستا وعشرين قصيدة ،تؤطرها كقوسين قصيدتان : الأولى(بداية) والأخيرة (لك أن تهدأ الآن) وبينهما تتمدد في حاضنة الذكرى والتذكرات تلك النصوص التي يريد الشاعر أن نقرأها كما وصف صوته في البيتين اللذين استشهدنا بهما في مطلع القراءة: إنه لا يغني جزافا.وذاك اعتراف بأن ما يقدمه في الديوان كما في شعره المنشور ضرب من الغناء.إنه يُنشد للطبيعة والكون والذات والمرأة والوطن.وهنا للأشياء التي استحالت ذكرى.فلا بأس أن يستدعيها غناء وهو القادم من مؤثرات رومانسية رقّقها وعدّلها ؛لتوائم حداثة خطابه الشعري. ولا ضير أن نذكر هنا أن من دواوينه المبكرة ديوانه الثاني الذي يحمل عنوان( وطن لطيور الماء )  الصادر عام 1972الدال  على صلته بالطبيعة كمرجع شعري وذخيرة تمده بالموضوعات والصور والأخيلة ، كما يستمر ذلك في واحد من دواينه الأخيرة (حارس الغيم)2015وبينهما شواهد عنوانية أخرى مثل (عشبة الوهم) و(هكذا قلت للريح )و(فاكهة الماضي) فضلا عن عناوين قصائده في أعماله كلها والتي تشي بتلك الآصرة مع الطبيعة التي يتحدث عنها في شهادة شعرية له بعنوان( تأملات في كتابة القصيدة) فيقول إن القرية (..هي التي شكلت علاقتي بالشعر) الذي يرى (انه مرتبط بالطبيعة ارتباطا قديما، وأن رحلة الكائن من الطبيعة إلى الثقافة لم تعنِ استبعاد الطبيعة وأشياءها ورموزها من عالم الشعر.)
تلك الإشارات بالغة الاهمية في الاحتكاك النقدي بنصوص العلاق.فالمكان الذي شكَّل نسغه الشعري هو القرية في واسط ذات الموقع الجغرافي المميز بالماء والشجر والخضرة.ولكننا نراه متحذرا من السيولة العاطفية والغنائية العائمة في التناول الرومانسي التقليدي للطبيعة  فيستدرك بالقول (ثمة فرق بين أن تكون الطبيعة في الشعرمشهدا جذابا ولحظة نائية عابرة ،وبين أن تعمل كعنصر داخلي يتمدد في نسيج القصيدة ودلالتها الكلية).العلاق الذي يعدّ نفسه (إبناً لبيئةٍ مائية بامتياز)يغرد إذن خارج سرب جيله الستيني المهموم بقضايا ميتافيزيقية وسرياليةوالمنشغل بالتجارب الجديدة في الأسلوب الشكلي، بينما ظل العلاق محافظا على النظام السطري الحر مع تقفية شفيفة لا تثقل القصيدة أو توقِعها في غنائية فجة.لم يكتب قصيدة النثر .لكنه أطلق قصيدته من أغلال التناظر البيتي واللوازم التقليدية والصخب الأيقاعي المتحصل من حضور القافية المتواتر والأوزان العالية النبرة.لقد  جعل البنية الشعرية مسرحا لخيالات ورؤى وصور حرة لا تحددها إيقاعات صاخبة أو قواف زاعقة..
وفي ديوانه الماثل للقراءة(حتى يفيض الحصى بالكلام) يعيدنا العلاق إلى عالمه الأثير : حيث الطبيعة التي لا تتراكم موجوداتها كفرجة بصرية عابرة ،بل  تغدو كما اقترح في شهادته الآنفة:عنصرا بنائيا داخليا يتمدد في نسيج القصيدة ويفيض ليصنع دلالاتها الكلية التي يخرج بها القارئ.
وفي عودة لمفتتح الديوان الذي ذكرنا بيتين منه يؤكد العلاق تمسكه بالمخيلة ،واعداً قارئه بأنه سيطلق العنان لحلمه:
..سأرخي العنان لحلمي
وأذهب أبعد مما يتيح لي النوم
أعمق مما يتيح لي الماء،
أجمل مما تتيح لي اليقَظَة
تتشكل المخيلة إذن من وعد يتجاوز المتاح. ويراجع الشاعر مسلماته في قصيدة (حنين إلى الآتي)ذات البناء اللافت.فهي مكونة من مقطعين  غير مرقمن  في كل منهما ستة أبيات ، ولكن تفصل بينهما لازمة السؤال ،حيث يبدأ كل منهما بسؤال: أحقاً؟ فيتركز الأول على الأشجار، والثاني على الأحلام.ويهمني هنا مساءلة الشاعر لنفسه عن هذا الإيهام الثري بالطبيعة:
أحقا  هي الأشجار
تسحب خلفها ربيعا
كمهر لا يشيخ ، أم أنني
إذا سقطتْ في السقف ريشة طائر
تخيلتها غيما
وقلت ستمطرُ؟
هذا التخيل أو التوهم هو الذي سيجعله في قصيدة أخرى يتماهى في الطبيعة مختارا ً الندى رمز ولادة الصباح وتباشيره ،ويقترب بألفة لينادي صلال الفلاة: ياغصون. الطبيعة مرة اخرى  تهبه سلاما مع نفسه والآخرين فقد منحته الطبيعة ما هو أبعد من مشهد جمالي بصري، بل تعدت ذلك لتكون سلوكا يترجمه صوراً دالة : الأولى فرحه بالصباح واستقبال الحياة، فهو يكاد أن يفرك الندى ليشع .وفي محاولة تأكيدية ثانية بتكرار (كاد) الدالة على المقاربة وعدم التحقق نراه يأنس حتى تلك الصلال المخيفة التي كثيرا ما داهمت القروي ولدغته؛ لكنه  يروضها مناديا إياها : ياغصون. لما تحمله من رمزية سلمية تتنزل من غصن حمامة نوح التي عادت به بعد الطوفان حتى استقرارها في الوعي الإنساني كإشارة أو إيقونة للسلام .
كاد يفرك حتى الندى ليشع
وكاد ينادي صلال الفلا:
ياغصون
الذاكرة أيضا توصف بالخضرة : ذاكرة خضراء هو عنوان نص ذي دلالات متعددة في التلقي: فهو يشير أولا إلى البنية المحكمة للنصوص والنمو العضوي للتراكيب والجمل الشعرية .القصيدة تبدأ بمقطع من ثلاثة أبيات، يليه آخربثلاثة يفصله عنه بياض بدل الترقيم ،ويليه مقطع بأربعة أبيات، يتبعه رابع بخمسة أبيات.لكن مقطع الخاتمة الخامس يأتي بسبعة أبيات لأنه يمثل مقطع الدلالة التي تريد القصيدة توصيلها.
وفي التقفية نجد الشاعر يترك المقطع الأول حراً بلا قوافٍ .لكنه يقفي المقطعين الثاني والثالث بقافية واحدة.وكذلك يفعل في المقطعين الرابع والخامس حيث يجمعهما بالقافية الواحدة في البيت الأخير.
وعلى مستوى المعاني والدلالات بمهد الشاعر بمشهد الطبيعة في المقطعين الأول والثاني:سقوط المطر وما يتركه في الذاكرة ولقالق مثل أباريق وريح تسقط عارية في الماء.   ثمة شخص بضمير الغائب في المقطعين الثالث والرابع: مزارع يعشق الأرض فإذ يناله التعب يتصبب غيما وتشرق شفتاه، يتماهى ومحراثه كشظية برق. في المقطع  الختامي يضع الشاعر حكمة القصيدة أو ذروتها ؛ فنكتشف أن الشخص الذي تجسده القصيدة هو الأب الذي يبرز صوت الشاعر هنا ليسرد عنه ما يكشف شخصه المرمَّز بالغياب في السابق.إنه يصور موته بطريقة عذبة لا يجرؤ من رهافة وأسى أن يسمي الموت ولا يسرد الواقعة.يهب أباه ميتة رمزية تتأرجح بين الظن واليقين وتستعير من مرجعه الدائم : الطبيعة عُدَّتها التعبيرية ومفرداتها الصورية، فيكون غيابه زلزالاً ترتجُّ له الأأرض. إنه كما تعرف عليه بين غيم عرقه وإشراق غضبه يرى غيابه الآن وسط مشهد مروع تشاركه الطبيعة في غيابه:
ترجف الأرض
تختض
تفتح وردتها..
يتعالى أبي غائما ووديعا
هكذا اختزل واقعة الموت القاسية بأقل الألفاظ والصور رقةً: يتعالى الأب كغبم وديع.ثم يترك النهاية للأسئلة المترددة بين الوهم واليقين:
ترى كان من حلم
أم ترى كان من سكرة
لا يفيق..؟
تستحق قصيدة العلاق(ذاكرة خضراء) دراسة تحليلية مطولة لما تشير إليه من سمات خطابه الشعري، بدءا بعنوانها الذي يسند الخضرة للذاكرة تأكيداً لمفهومه عن الطبيعة كرؤية وبنية شعرية.وصولا إلى تقسيمها المقطعي وتقفيتها وتزايد عدد أبياتها تدريجيا حتى النهاية.
وهذا المزج بين الواقعة والطبيعة نراه في تعامله مع موضوع المرأة التي لا تبدو متعينة في شعر العلاق على الدوام ، بل هي كائن تمتلك صفات متعالية أقرب للوجود الرمزي ، ممتزجة بالطبيعة أيضا ، ينآى بها الشاعر عن الغزليات المستهلكة؛ فهي ذات وجود مستقل لها حلمها وذكرياتها:
فتيات يمسدن بالضوء أجسادهن /ويمنحن هذا النهار بداياته
هل يلوّحن للحلم / أم يتشممن ذكرى المطر؟
       
 
 
 
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*