صياغة مغربية لقصة الخلق الرافدينية

 
صياغة مغربية لقصة الخلق الرافدينية
1-
يصلح الأسطوري مثالاً على إمكان  وجود النص العابر للحدود.تسافر ملحمة كلكامش قديماً من أور السومرية جنوبا  إلى بابل وسط العراق، ثم إلى مكتبة نبوخذ نصر الآشوري شمالا. رحلة يستحقها هذا النص المذهل ، وهو يجوب الأرض والأزمنة.لكن ألواح النص المتكسرة بفعل التنقل والطبيعة سوف  تعود ثانية إلى بابل ليتعرف عليها القراء ثم المنقبون الآثاريون.
كذلك يسافر النص سفرا آخر مخترقاً الزمن  واللغات هذه المرة ،فالملحمة عابرة للعصور والأزمان تحضر في الذاكرة الثقافية كل حين .
نص لا يناله البلى ولا القدم.حاضر بموضوعه الإستباقي أيضاً : الخلود بوجه الفناء، والبحث عما يقهر الموت. السؤال الأزلي سيقوله الإنسان بما لايحصى من اللغات والصيغ .حملته الملحمة في مضمون درامي عبر شخصيات لا تنسى.وإذا كان الحل سيأتي تصالحياً، أي العجز عن إيجاد ما يوقف وحش الموت عن نهش أرواحنا، واقتراح بناء ما يخلد الإنسان رمزا بديلاً بعد فنائه.فإن معناه عميق ودلالته كذلك.
ولا تقتصر مرجعية أساطير الخلق عند ملحمة كلكامش، فثمة مدونات  أخرى من أساطير مابين النهرين تحكي قصة الخلق والمعتقدات القديمة بأسلوب أدبي وشعري غالباً.وهذا ييفسر انجذاب الشعراء لأجوائها ودخولهم معها في عمليات تناص، تُغني النص الحديث ،وتهبه عمقاً حضارياً واسطورياً يقوي بنيته ودلالته.
2-
هكذا يجدد الشاعر المغربي والناقد صلاح بو سريف قراءته للملحمة في عمله الشعري الأخير(رفات كلكامش-كش -بل-كا- مش- الرجل الذي سيُنبت شجرة جديدة) ذلك  عنوان مطول لعمل حديث دون شك! لكنه في قصد المؤلف المسكوت عنه  يريد أن يضع القارئ في جو أسطوري يناظر الفضاء الذي تحضر فيه أساطير الخلق الرافدينية،لتكون القراءة موجهة بهذه العتبة العنوانية المطولة ذات الرنين الأسطوري كما يلفتنا تغيير الشاعر لإسم كلكامش فيضعه بصيغة (جلجامش) داخل العمل.وربما كان ذلك بسبب تعدد مصادر عمل الشاعر؛ فالنصوص المترجمة للأساطير التي اعتمدها تورد الأسماء بصيغ مختلفة ،لاسيما إسم كلكامش. لكن الشاعرمنشغل عن ذلك بقصد آخر:أن  ينتج نصاً موازياً للملحمة في عملية تناص ملفتة.
والواقع الذي يسبق القراءة يفيدنا بأن أي تناص لن يكون لصالح العمل الجديد .تماماً كمحاولة مباراة صورة فوتغرافية مؤثرة لحدث ما بنص لفظي شعرا أو نثرا.فالمرجع البصري سيظل أكثرتأثيراً وأشد وقعاً.وهذا في ظني حال المقارنة بين نصوص قديمة كملاحم الخلق الأسطورية وقصصها،و نصوص تعيد إنتاجها أو تضعها في سياق صياغة جديدة.
سيظهر بعد القراءة أن صلاح بو سريف اعتمد لحظتين دراميتين في الأساطير الرافدينية :
– وهما قصة الخلق وتكوين العالم كما فسره العقل المحكوم بالأسطورة في زمن هيمنتها على التفكير الإنساني قبل مجيء الأديان بقراءتها للخلق والتكوين ونشأة البشرية وعالمها.
– وقصة الطوفان الأعظم الذي بدأت بعده حياة بشرية جديدة.وهي رواية يرتبها الفكر الأسطوري عبر تخيل نزاع الآلهة ومعجزاتهم، ولكن بالإحتكام إلى ما يثير العقل البشري من أسئلة حول التكوين والبدء، وكما تتخيله المخيلة البشرية.
لقد كُتبت تلك الأساطير بعد زمن من تداولها شفهياً ،وجرى لها ما يمكن أن يجري للنصوص الشفاهية من تعديلات وتحويرات، وكذلك الثغرات والإنهيارات النصية بعد التدوين وقبله.فكما هو معروف لم تكن الألواح التي كتبت عليها المدونات مكتملة أو صحيحة أو سليمة.وكان على الآثاريين الأجانب الأوائل ثم تلاميذهم ومترجميهم أن يرمموا تلك الكِسَر وينشئوا نصاً منسجما ً ومقبولاً.
اعتمد صلاح بو سريف على نوعين من المتون: يمكن وصف الأول منهما بأنه متن أساس أو رئيس .وهو المدونة القديمة بما فيها من ثغرات.ووجدته يعتمد على ملحمة أترا حسيس، وهي أترخاسيس كما ترد في ترجمة ستيفان دالي (ترجمت د.نجوى نصر كتابها : أساطير من بلاد ما بين النهرين).وكان لها حضور مركزي في جزء العمل الأول: أبجدية الوجود1- حيث يتبين غضب إليل على البشر وضجيجهم فيأمر أتباعه بأن يصيبوا الناس بالمرض ،والحقول بالجدب، وتميت المجاعة بشرا كثيرين.ويتضح مابين أليل وأتو نبشتم من تطابق في الملاحم الأخرى.
أما المتن الثاني الأشد حضوراً في العمل، فهو نص ملحمة كلكامش كما رويت مكتوبة بعد تحقيق الألواح التي عُثر عليها في فترات متباعدة.وهنا يتجه العمل إلى إعادة صياغة الملحمة بشعر يستفيد من حرية الإسترسال والسرد في قصيدة النثر؛ ليبني نصاً موازياً ،لايذهب بعيداً عن النص المجلوب من زمنه القديم .
 في كثير من المواضع نكاد نعثر على خطوات نمو الملحمة ذاتها في عمل بو سريف، حتى لنتساءل عن جدوى إعادتها.
ولكن مناطق الشعر تتوهج بعيداً عن عملية التناص التطابقيةتلك.فيشع النص الجديد بإسقاطات الهواجس والأسئلة التي يريد الشاعر أن يورط القارئ في شراكها وكمائنها.
والملاحظ على العمل إغراقه أوغرقه في المصادر الأسطورية .والمراجع المعضدة لها.فثمة الملاحم ذاتها، ورواية الكتب السماوية للخلق والطوفان وبشكل خاص العهد القديم الذي يتفق الآثاريون وعلماء الأساطير أنه نقل قصة الخلق والطوفان الكبيرمن الأدبيات الرافدينية.
هنا تشتبك المصادر وتكتظ بها صفحات العمل، حتى لا نكاد نتبين حدود النص القديم والنص الجديد.وتلك إحدى مشكلات التناص، وحياة المتون القديمة في مدونات حديثة تنبهر بها وتنصاع لوجهتها  ،وتعيد صياغة أسئلتها وقناعاتها وهواجسها.
ثمة مراجع أخرى للعمل هي اقتباسات شعرية من فرناندو بيسوا ونيرودا وتيد هيوز، ونصوص بأكملها من القصص الأسطورية التي تروي الخلق والطوفان.لكن أكثر المصادر انكشافاً هو نص ملحمة كلكامش التي اعتمدها بو سريف.
3-
ينقسم نص بو سريف إلى أقسام  رقمية ثلاثة رئيسة ، وتتخللها ترقيمات بالحروف داخل تلك الأقسام.فيكون ثمةاشتباك آخر مصدره هذه المرة الهيئة الخطّية للعمل.وقد اخترت وصف العمل لأن استراتيجيته واحدة ،ولا يمكن تجزئة أقسامه رغم أن الوصف الذي اكتفى به الشاعر في عتبة الغلاف هو (شعر). وفي ظني أن ذلك لا يفي العمل حقه.فهو إعادة صياغة جريئة لمتون قديمة شغلت القراءات طويلاً وتناولتها التأويلات والتفسيرات؛ لترمم انكساراتها وأصولها الخفية ؛فيدلي الشعر بدلوه ليقدم كينونة أخرى .
 فالقادم من رماد الخليقة وبيده فراشات – رمزها الجنسي الواضح يرتبط بالولادة والنسل-هو كلكامش.يأتي بعد الطوفان:
خرجت من يده فراشات
رحيقها كان رماداً
..هي الأرض ما تزال غارقة في طيش الآلهة
..هل الأرض ستخرج من رفيف هذا الفراش المسجى في رماده، أم الشجر سيكون الوتر الذي أضفى الروح  على الريح
أسئلة تضج بها صفحات العمل كما هي النصوص القديمة التي زادها النقص اكتمالاً، بمعنى أنها تركت للقراءة حرية ترميم ذلك النص، وملء فراغاته الموجودة أصلاً حتى في حال اكتماله.
في الصفحات الأولى من العمل تتضح الرتابة.فالشاعر منشغل بضبط إيقاع النص الشعري مع السرد الأسطوري.مخيلتان تتصارعان أجاد الشاعر في قيادتهما داخل مصهر العمل.فتم الخلق بحسب رواية اترخاسيس (الرجل المفكر).وفي أبجدية الخلق 2- فالسارد المتعدد المواقع سيقف ليعرِّف بهذا المخاطَب بالقول:
أنت نبض ما بعد الطوفان
لأنت مرمم طيش أنليل
هذا الإله الغاضب
ولكن كلكامش يوصف في العمل بما حفظت له الملحمة من أبعاد:
 
نزق
        جسور
                          وحشي
                                      جارف
                                                      عاتٍ
يمضي بو سريف مع أحداث الملحمة: صعود كلكامش- تعرُّفه على انكيدو بعد صراع- انتصراهما على وحش غابة الأرز- ترويض كلكامش بشرياً- – موته- حزن كلكامش وقلقه من مصيره- إبحاره لأوتونبشتم لسؤاله عن الخلود-عودته خائبا).
لكنه يتوقف عند لحظة الموت بإيجاز مؤثر يُشركنا في حزن المصائر المحتومة بالموت.ليكوِّن نصاً مؤثراً رغم قصره.وهو كولاج حزين حول  حقيقة الموت كواقعة مصيرية فادحة..
لقد أسعدنا  العمل من عدة جهات .فهو يمثل  تجاوزاً لآنعزالية المثقف العربي وانصرافه لنصوصه مشرقاً أو مغرباً فحسب.فقد تجاوز بوسريف بقراءته التطبيقية تلك المعضلة.كما اأعاد للأسطوري حضوره في الحداثي المتجاوز لثنائية القديم والجديد. وقبل ذلك كله أنجز بامتياز استثمار سردية قصيدة النثر؛ ليؤثث بالقص عملاً ذا معمار غريب يدعو للقراءة المتأملة، ويشرك القارئ عملياً في تتبع حياة نص العراق القديم  في صياغة مغربية حديثة.
 
                         
 
 
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*