لماذا أصبحت  الرواية ديوان العرب المعاصر؟

 

 لماذا أصبحت  الرواية ديوان العرب المعاصر؟

 

لم تكد زوبعة زمن الرواية تهدأ ويخفت ما حولها من جدل وحِجاج، حتى تعالت فرقعة نقدية أخرى لافتتها المستفزة هي: الرواية  ديوان العرب المعاصر ، و ليدور حولها جدل  مؤداه هل أزاحت الروايةُ الشعر وأخذت منه هذا المجد  القديم والمقام الرفيع حين كان ديوان العرب المسجل لأيامهم ووقائعهم ،والمدوِّن لمآثرهم وأخبارهم، حتى قيل إنه كان علمَ قومٍ لا علم لهم أصح منه.

 ولكن لماذا يراد اليوم أن تكون الرواية ديوان العرب؟وهل ثمة حاجة لحصر أو قصر حياة العرب بديوان تكون مركزيته ورئاسته للشعر أو الرواية؟

وإذا كان لابد من ديوان للعرب يحفظ تبدلات حياتهم الإجتماعية أو الثقافية، فلماذا يكون ذلك بإزاحة الشعر،وهو النتاج الوجداني والعاطفي والشعوري، وإحلال الرواية  محله ، رغم أن فاعلية الشعر لم تنفد أو تتوقف شأن بعض الفنون الكلامية التي حفظ لنا التاريخ الأدبي أمثلة منها؟

 تساؤلات يحق لنا ان نضعها في مدخل جدلنا حول تلك المقولة التي نشط دعاتها هذه الفترة، وأعادوا صياغة العبارة بأشكال متعددة ؛لتؤكد سيادة الرواية على الأنواع الأدبية الأخرى .

تعود عبارة (الرواية ديوان العرب) في أصلها إلى عدة دارسين متفرقي الأمكنة والأزمنة.لكن الدليل الذي استخدمه الدكتور جابر عصفور في كتابه( زمن االرواية)  على أحقية الرواية بالتسيد ووصف الزمن بأنه زمن الرواية، جعله يستذكر جدالاً قديماً  دار منتصف الأربعينيات على صفحات مجلة ( الرسالة ) بين  نجيب محفوظ و العقاد الذي كان قد  قلل من أهمية القصة، وتحدث عن سمو الشعر وتقدمه عليها ، بألفاظ تشي باحتقاره لفن القصة وربطه بجمهورها  الذي رأى أنه  من الدهماء.  لذا كان رد نجيب محفوظ الشاب آنذاك بمستوى انفعال العقاد، فحاول أن يكون هادئ النبرة في نقاشه مساوياً بين الفنون الإبداعية في التعبير والمكانة، لكنه سرعان ما استسلم لغضب تولَّد في نفسه من جحود العقاد لموضوعات  القصة ومزاياها الفنية و التعالي على قرائها، بمقابل إعلاء شأن الشعر وقرائه من  النخبة أو الخاصة.وجاء في محصلة دفاع محفوظ قوله (لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر ؛ عصر العلم والصناعة والحقائق فيحتاج حتما لفن جديد…وقد وجد العصر بغيته في القصة) ويختم بالقول(فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة.)   وكلام محفوظ لا ينقص من شأن الشعر بدليل اعتباره القصة شعر الدنيا الحديثة .أي أنها تأخذ مكانه بمشغلاته وإجراءاته. بدليل أنه عدَّ القصة  الفن الذي( يوفق بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم للخيال )وبها يتضح عدم التطرف والإلغاء في دعوة محفوظ وإن كانت مهاداً للتطرف اللاحق بشأن إقصاء الشعر وإحلال الرواية محله.وذلك ما أنجزه جابر عصفور في كتابه زمن الرواية الصادر عام 1999..وفي ثناياه جاء الإدعاء  صراحة بأن الرواية العربية أصبحت( ديوان العرب المحدثين

الذي يُنطق المسكوت عنه من هواجسهم، ويحررالمقموع من رغباتهم ، ويفتح أمامهم أبواب المستقبل التي يغلقها تقليد الماضي الذي يأخذ بخناق الحاضر..) وقد جاء ذلك في فصل من الكتاب يتحدث عن مؤتمر للرواية العربية عقد في المغرب ،بمبادرة من اتحاد كتاب المغرب الذي كان يرأسه محمد برادة ،الذي كان قد سبق جابر عصفور في مقولة زمن الرواية  في  دراسة له  في مجلة( فصول) كما ينوه جابر عصفور نفسه. ويذكر الدارسون ما يصفونه بصيحة حنا مينه(الرواية ديوان العرب) رداً على الجدل بشأن الزمن وهيمنة الرواية عليه.

يتضح لنا إذن أن المقولة تطورت من:

 – كون الرواية شعر الدنيا الحديثة = نجيب محفوظ

–  وأن  الزمن هو زمن الرواية = محمد برادة وجابر عصفور

 – إلى اعتبارها ديوان العرب المحدثين = جابر عصفور

– ثم إحياء المقولة بنصها من بعد = روائيون مثل حنا مينه

بعد فترة من ذلك التاريخ سيقوم  دارسون ونقاد عرب بإحياء تلك المقولة بمستندات لا تبعد كثيرا عما ساقه الدكتور جابر عصفور، وما استشهد به من كلام لجبرا إبراهيم جبرا حول كون الرواية فنا أوجدته القرون الثلاثة الأخيرة؛ لبحث حقائق الإنسان والتجربة الإنسانية، وتجسيد ذلك عبر الفن القصصي.

يبدو أن جذر المشكلة يكمن في إغفال المزايا الفنية وخصائص الشعرية الخاصة بكل فن:شعراً أو سرداً.وقيام كل منهما على عناصر تتيح استيعاب موضوعه بطرائق خاصة، ليس الخيال في الشعر والحقائق في السرد إلا عوارض لا جواهر فيها.فثمة ارتباط لكل منهما بالطريقة التي يؤدى بها أولا ، وطرق تلقيه أيضاً.

بذا نفهم سبب تسيد الشعر في الثقافة العربية التي حفظها لنا التراث .ولا تعوزنا الدلائل على ذلك ، ليس بالإحتكام للكم الشعري ونسبة الموروث السردي كما يجري في الدراسات التقليدية والأكاديمية غالباً، ولكن بالبحث في الجوهر المتكون بحكم طبيعة الثقافة العربية وقيامها على الأساس الشفاهي وانبنائها على ذلك ، ما فرض عليها أعرافاً تحكمت  من قبل في الثقافات الشفاهية في العالم ،وبموروث الشعوب الحضاري في جانبه الأدبي خاصة.وأعني بذلك ما عرفه اليونان والرومان والفرس مثلا من موروث شعري حتى في سرد الملاحم والقصص.فالشفاهية كما يقرر دارسوها تناسب العقل الجمعي وطرق تواصل الأفراد مع النصوص ،حيث تغيب الكتابة، ويتم التفكير والتعبير والتلقي بواسطة المشافهة . 

الروائيون أيضاً سبقوا النقاد للقول بأن الرواية هي ديوان العرب، فمثل جبرا وحنا مينه نقرأ كلاما قريبا من ذلك لجمال الغيطاني وكثيرين من جيله ممن يرون إعلاء الرواية لا يتم إلا بإقصاء الشعر، ونسبة المزايا الشاملة كلها للرواية.

إن ما يقلق حقاً هو تسرب تقاليد وآليات الجدال العربي في السياسة والمجتمع ، والخطاب القائم على الإلغاء والإقصاء والإستبدال قد انتقل لنقاش قضية تخص نظرية الأدب، وتبدل التراتب الإجناسي بين الفنون الأدبية.فطغت النبرة الإقصائية وصار الحديث عن زمن الرواية وأنها ديوان العرب المعاصر من المسلمات  التي يرددها الصحافيون والنقاد على السواء.

وفي اكثر المواجهات حدة نجد من يعود إلى الماضي ليقرر حقيقة سيادة الشعر مثلا،فيما يعود آخر إلى الحط من شأن الشعر لغةً وموضوعاتٍ ودوافع.

 في نبرة أكاديمية يقول الدكتور عبدالله إبراهيم وهو من أكثر مجددي المقولة ومحييها  حماسة:(أؤيد القول بأنها ديوان العرب، أي السجل المعبّر عن أحوالهم، ولكن لكلّ ديوان عثراته) والسؤال  الذي يوجهه القارئ ببساطةهو: أتكمن وظيفة النص الأدبي في تسجيل الأحوال والتعبير عنها؟

(السرد ديوان العرب في العصور الحديثة بعد أن كان الشعر ديوانهم في الماضي. فقد قام الخطاب السردي، ممثلا بالرواية، بتمثيل معمّق لأحوال المجتمعات العربية) يضيف الدكتور عبدالله إبراهيم .لكننا نتساءل ماذا نقول عن قصائد نزار قباني مثلا عن النكسة؟ وقصائد محمود درويش عن المقاومة الفلسطينية للإحتلال الصهيوني؟وقصائد الجواهري في أحوال العراق المختلفة؟ ومطولات السياب التي لم تترك كِسرة أو مفردة من أحوال العراق في العهد الملكي الذي عارضه إلا وذكرها، حتى مسألة النفط ونهبه ،وحرمان الفرد العراقي منه في( المومس العمياء) ؟

يمكننا أن نتبين الحقيقة بالنظر لمعكوسها أو ما تنفيه وتبعده.وفي هذه الحالة لا أظن أن الرواية ستحتل مركزاً بؤرياً في الثقافة العربية على حساب الشعر ، فلكلٍّ دواعيه وإجراءاته وشعريته.ويؤيد ذلك حداثة الشعر وتطوره وتجدده الدائم. 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*