الآخر الذي داخلنا

 

 

الآخر الذي داخلنا

 

يتعرف الإنسان على ( آخَرِه) عادةً في مرحلة مبكرة يصطلح علماء النفس على تسميتها مرحلة المرآة،  فيرى آخرا لم يعتد مشاركته هيئته وسمته وإن كان يتحسس وجود آخرين من حوله ( الأم والأسرة ) كوجود يلبي حاجاته لكنه سيجسد في المرآة ذاتاً أخرى يبدأ التعامل معها على أنها نقيض وشبيه معا: شبيه يتحرك بحركته ونقيض يبتعد مختفيا  في عمق المرآة غير متعين أو ملموس .

ويمكن تقريب ذلك التعرف على الذات عبر آخر في الظل بما يجري للمجتمعات أيضا حين تبحث عن نفسها في صورة الآخر، وتقايس وجودها بوجوده، وتتعامل معه بكونه ضروريا لتحقيق ذواتها ، ولكن سرعان ما تتبين صورته البعيدة وغير المتعينة ، فتسند له صفات ومزايا وتشكل عناصر وأجزاء صورته على وفق ما يتراءى لها ..لتبرز ما تعرف بالصورة النمطية التي يصنعها الفرد للآخر كي يبرر رفضه له وكراهيته أحيانا.

تتكفل الأعمال الأدبية كالروايات والسير والحكايات والمشاهدات بتجسيد تلك النظرة للآخر كضرورة مبتعدة ومنتبذة أحياناً لأنها ليست على شاكلتنا،   وبحسب تجربة  معاصرة عاشها  تودوروف  في فرنسا كمفكر بلغاري أولا   فإن الآخرين هم (أولئك الذين لا ينتمون إلى جماعتي) أما نحن فهم ( مجموعتي الثقافية والاجتماعية) .لقد كانت تلك أولى لحظات الصدام بالآخر قبل الاندماج في أفقه وثقافته .

الآخر الذي بداخلنا سيخرج  من المرآة هذه المرة ليقاسمنا العالم وتفكيرنا بمصائرنا ووجودنا ، ولن نلقي أنفسنا لنغرق في عمق الماء الذي يعكس صورته حنينا للالتقاء به ، كما حصل لنرسيس أو النرجس في الأسطورة .

لقد كان ذلك تعرفا كلّفه حياته لكنه  سيكافأ على فقدها بانبعاثه عبر زهرة  النرجس التي  تقاوم الفناء بعطرها الذي سينتشر أفقيا لا في الأعماق التي ابتلعت جسد نرسيس وجماله وأوهامه أيضا.

مفكر عربي  يعاني التشظي وسؤال الهوية وسط مكان الآخر هو أدوارد سعيد

   سيقارب الآخر من تحقيقه للصور النمطية عن الذات  في الأعمال الروائية الغربية  ، وفضحه للخطاب الكامن وراءها حيث كان تمثيل الشرق على انه مجرد انتماء ديني وقومي مغاير  (عربي-مسلم).

يتحدث سعيد عن علاقات ثقافية وسياسية, يريد الاستشراق، بكونه (خطاباً) حسب المفهوم الفوكوي الذي تبنّاه سعيد, أن يلخّصه في(صورة نمطية) تشيع و تترسخ ليسهل من بعد رفضها, وتبرير كراهيتها.. فاضحا عمل السلطة في المعرفة، وكاشفا  إجراءات معرفة الغرب بالشرق  التي(كانت سبيلاً لمدّ السلطة عليه).. وهكذا أصبح(الشرق) نصاً, و(الغرب) سلطة،  والاستشراق (معرفة) ووسيلة للهيمنة

وفي عمل بول توردي ( صيد السلمون في اليمن ) –ترجمة الدكتور عبدالوهاب المقالح- ستعاد الحكاية التي لم يتمها الرسامون والروائيون والرحالة عن الشرق: لقد كانت فكرة استقدام سمك السلمون وتربيته في اليمن عبر نهر اصطناعي فكرة واهية لذا  سيجرف  الإعصار وهم بالعيش في الشرق،  كما يجرف مخططيه عربا وأجانب  ، ويعود السلمون والعالِم السمكي الذي اقترح الفكرة إلى بلادهم حيث موطن السلمون الذي لا حياة له خارجه ، ترميزا لاستحالة تبادل الأمكنة ونزع تسلط الآخر عليها .

 رثاء لأدوارد سعيد سيكتب محمود درويش قصيدته ( طباق) ملمحا للقراءة الطباقية  التي يقترحها سعيد لكي يضيء الأعمال الروائية الغربية ، ويكشف بواسطتها القارئ المستعمَر (بفتح الميم) ما يسميه سعيد ” الحضور المحتجب والحاسم للنزعة الامبراطوريّة ” في النصوص المنتجة غربياً ، كتعبير ثقافي عن نزعة قهر الآخر وتبرير استعباده، وسيتكلم سعيد في القصيدة مبينا الانقسام الذي يحسه في حاضنة الآخر :

 

أنا من هناك

أنا من هنا

ولستُ هناك ولست هنا

لي اسمان يلتقيان ويفترقان

ولي لغتان

نسيتُ بأيهما كنتُ أحلم

                                                   

 

الآخر القادم إلنا من خارجنا سيتخذ مصنفات عدة،  فهو الغازي والمتسلط ( في أشكال الاحتلال المعاصرة – وجود  الأمريكان في العراق و حلم الصهاينة في فلسطين –) وهو المسيّر لقوة الآلة والصناعة أيضا ، والمتحكم في المال والاقتصاد والتجارة ، وهو مدبّر الكثير من مآسي العالم وكوارثه ، ولكن لا يجب النظر إليه ككتلة واحدة نرفضها ونلغي الصلة بالثقافي منها،  فذلك ما يريده تماما غزاة العالم الجدد: أن نظل بعيدين معرفيا ،  آخرنا داخلنا وخارجنا واحد كما ترسمه التصورات التي تشكلها  -في أعنف لحظات اللقاء بالآخر والصدام معه – ذواتنا المحمية بآليات  الدفاع الغريزي عن النفس ، والاحتماء وراء الهوية واللغة والخصوصية الثقافية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*