الجبل والموج والعاصفة- دراسةونماذج من الشعر الكردي العراقي


صورة الشاعر والناقد والمترجم عبدالله طاهر برزنجي
حداثة سبعينيات الشعر الكردي – 
 
لغة العرب وأدب الكرد
تتغذى الحداثة الشعرية الكردية في العراق من النسغ الصاعد للحداثة الشعرية العراقية العربية ،وتتبادل معها المؤثرات ،وتشهد لحظات ولادة وتطور تلك الحداثة التي اجترحها جيل الرواد ،وانطلقوا بها عربيا، وكانت إشعاعا قويا لتعديل مسار القصيدة بعد أن وُجّهت لها رضات تجديدية قبلهم ،فقاموا بتجذير التجديد ومسّوا ثوابت الشكل والإيقاع؛ ليقدموا نموذجا لثورة تحديثية سيتسع مداها خلال النصف الثاني من  القرن  العشرين بالإيغال في التحديث، وصولا لتجارب قصيدة النثر وتنويعات القصيدة الوزنية القصيرة .
ولهذا التأثير اسبابه التي تتعدى العيش التاريخي المشترك والمواطَنة إلى المؤثر السياسي خاصة ،كون أغلب المثقفين الكرد كانوا مسيسيين ضمن أحزاب وتجمعات لها امتدادت جغرافية عراقية وتتبادل الهموم ذاتها وتتشارك في مكافحة الظواهر المرفوضة ايضا .بجانب سبب آخر هو إحساس الأدباء الكرد كذلك بضرورة النهوض بقصيدتهم والخروج من معطف التقليد والكلاسيكية التي سادت زمنا في الكتابة الشعرية الكردية.
ولكن عدم دراسة ذلك التثاقف لأسباب سياسية أيضا تتعلق بسياسات الأنظمة الدكتاتورية والشوفينية السابقة قد حجب رؤية المشهد الشعري بجلاء والتعرف على تلك التأثيرات مفصلا.
وكثيرا ما أجدني شخصيا في موضع الحرج حين يواجهني في اللقاءات الصحفية أو الندوات والمؤتمرات ، واجتماعات الكتاب والأدباء وتجمعاتهم  سؤال عن الأدب العراقي المكتوب باللغة الكردية، فلا أكاد أعرف عنه شيئا كثيرا  يجعلني أحيط بأجيال الكتابة وتبدلات الأساليب والرؤى، والانشغالات الأدبية فضلا عن الثقافية العامة ، رغم عملي في الصحافة الثقافية العراقية زمنا، وفي هيئات اتحاد الكتاب والأدباء ، ومتابعتي القريبة للحركة الثقافية والنشر في العراق.
وأعد ذلك قصورا مزدوجا تتحمل وزره المؤسسات الثقافية و مثقفو اللغتين من العراقيين : العرب والكرد، فلا الترجمة من الكردية وإليها تناسب أهمية الموضوع وضرورته ، ولا ما يُرصد من أنشطة للتعريف بالأدب الكردي -والتعرف على نماذجه – كافية لوضعه في جدول اهتمامات قارئ العربية و في برنامجه التثقيفي.
ولقد وجدت الأدباء الكرد – رغم مسؤوليتهم أيضاً في التباعد وعدم التعريف بأدبهم – أكثر حرصا على الإطلاع على أدب العراق العربي والتزود منه والتأثر به ، حتى ليكتب بعضهم بالعربية شعرا وسردا ودراساتٍ ونقدا، وعوامل ذلك وأسبابه معروفة لا تخفى ، يتركز جلها في طبيعة الأنظمة المتوالية ، وموقفها من الأقليات وثقافتها، وإهمال المدارس بشتى مستوياتها لتعلم اللغة الكردية وتعليمها ، والتباعد الجغرافي والحياتي بين أدباء اللغتين من العراقيين والعرب عموما .إضافة لقوة وحيوية المكتوب بالعربية واثره في محيطه الثقافي وكون الرعاق موضع انطلاق عديد من دعوات التجديد والحداثة الادبية.
والمسألة تندرج ضمن فهم المثقف للمركزيات الثقافية التي لا يزال يراها في الغرب ولغاته ، مقصيا ثقافات  شرقية ذات محمول إنساني وإبداعي مهم كالهندية والفارسية والتركية واليابانية والصينية ، وغيرها مما لم يحظ –المعاصر منه في الأقل – بما يستحق من ترجمة إلى العربية أو التعريف بها .ويحضرني هنا ما قاله طه حسين عن كليلة ودمنة ووصفه لها بأنها تحمل حكمة الهند وجهد الفرس ولغة العرب، و أن حكاياتها لا يتأتى تعريبها إلا لمثقف كابن المقفع.
كنا  نتداول في عقود ماضية صورة نمطية عن عزلة الأوربي اللغوية وتجاهله للغات غيره من البشر، وترفعه عن الحديث بسوى لغته، ولكن تبين أن الغربيين يشددون على تعلم لغات غيرهم ،ويفرضون على الطالب الأوربي مثلا أن يدرس صغيرا أكثر من لغة أوربية و قديمة ،حتى صارت اللغات جزءا حيويا من ثقافة الفرد داخلةً في تكوينه العلمي والحضاري ،هو ما نفتقده حقا في برامجنا الدراسية، ونلاحظ بأسف غيابه من برامج تثقيفنا الذاتي أيضا، فكم  كاتب بالعربية أو متعلم ومثقف يجيد لغات أخرى غير المأثورة والشائعة؟
ثمة انتباهة اليوم لأدب الشرق وترجمته عبر لغات وسيطة ،لكننا نحلم بجيل من المتكلمين والقراء العرب  بلغات العالم بدءا بالوطنية منها وصولا إلى لغات عالمية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
المختارات التي صدرت مؤخرا بالعربية من الشعر الكردي العراقي عبر أجيال رواده ومعاصريه وشبابه نبهت لتلك الفجوة التي نتأمل دلالتها كلما تكرر السؤال.
 
أرواح الشعراء في عراء القصيدة
( أرواح في العراء)هو العنوان الذي يقترح المترجم الشاعر الكردي العراقي عبدالله برزنجي لأنطولولجيا الشعر الكردي الحديث ، وعتبة العنوان توجهنا صوب تخيل  منازلة بين الروح الشعرية  الضاجة بالحياة، وحنينها لتكتسب الوجود المادي بالسكن في جسد القصيدة التي تكون عارية ببياضها قبل أن تظهر بالفعل باصطلاح الفلاسفة بعد أن كانت موجودة بالقوة في أَسر الروح .
أهذا إذن تمثيل رمزي للوحة الشعر الكردي الحديث عبر مشاهده الافتراضية الثلاث التي يتقدم بها استهلال المترجم ا:مرحلة الحداثة الأولى الأقرب للمعاصرة والتجديد كما دشنها عبدالله كوران رائد الشعر الكردي  ومجايلوه كنوري صالح وكامران موكري ، ومرحلة التحديث  الفني والأسلوبي بتقنيات الحداثة المعروفة كما تجسدها أشعار الستينيين ولاحقيهم : شيركو بيكس ولطيف هلمت وفرهاد شاكلي وأنور قادر ورفيق صابر وحسين عارف وجلال زنكبادي وصلاح شوان والمترجم نفسه وغيرهم، ومرحلة التسعينيات وتغير الخطاب الشعري بفجائعيته التي رصدها المعد والمترجم ،وبالتمرد الأسلوبي إلى حد كتابة النصوص البصرية والكونكريتية ونصوص البياض وسواها.وهو تجييل منطقي يسهل مهمة القراءة رغم تحفظ المترجم على التجييل كتكتيك او إجراء نقدي .
في شعرالمراحل كلها سيرصد متابع الشعر الكردي المنشور في العقود السابقة  ذلك الاحتفاء بالذات جزءا من تعزيز الهوية والانتماء إلى الارض والتاريخ في رسالة شعرية تتلقفها فضاءات القصيدة لتوقف هيجاناتها العاطفية ، وتحوّلها بتطهير نفسي راق إلى مجازات أخاذة أسهمت الترجمة –و منجزها شاعر من المشهد نفسه- في توصيلها بأبعادها المضمونية الإنسانية وبحداثتها الأسلوبية.
إنسانيا لا تترفع القصيدة الكردية الحديثة عن الموضوع  فتكتب  لأبسط المشاهد البصرية والشعورية ما حدا بالشاعر علي الفواز إلى وصف الشعر الكردي  في الإستهلال بأنه محمول على سلالات طويلة من الميثولوجيا .
تتخيل الشاعرة  كزال أحمد في قصيدة ( سفر) لقاء مع كوران فيهبها بضع وصايا : صدفة في جادة فارغة
مررت بعبدالله كوران
ومن خلف خماري غمزت له
فعرّفني على الشعر
عقدَ قراني عليه
قال لي كوني كما أنتِ ،كما كنتِ
كوني  دوما مشاكسة كطفلة
أشهد أن ذلك يليق بجمالك.
يلخص هذا المقطع قراءة الأجيال التالية لشعر الريادة والبحث عن قصيدة وصفها لطيف هلمت بأنها كالريح لا تصادق أحدا ، تُقبل وتتوارى ..وفي هذا الظهور والاختفاء تتلون القصيدة الكردية بأطياف الروح والطبيعة متخطية أصولها ، وهو ما رمز له صلاح شوان بالصلة بين النهر والجداول :
لا وجود للنهر
مالم تتداخل  أجساد الجداول عارية
في ليل الحب
ويقفر النهر ما لم تبح الجداول بعضها لبعض.
طبيعة تلون كردستان العراق وتطبع بحضورها جلّ نصوصو الحداثيين من الشعراء حد أن  تتماهى بها قصيدة محمد عمر:
أنا جنرال الخريف ،أعتمر قبعة من الغيوم
وأنجم أكتافي بضع أوراق مذهبة ليس إلا
معطفي من الريح
وسيفي غصن شجرة متهرئة.
لقد صنع بورتريتا لشخص تزينه الطبيعة ويغدو أحد شخوصها  راضيا بالقليل الذي تهبه مقايسة لجنرالات يرفض نياشينهم الزائفة المتكونة من دماء ضحاياهم.
وبهذه السخرية الهادئة والدالة يلاقي كثير من شعراء الكرد الحداثيين موضوعاتهم ومضامين نصوصهم مستذكرين العسف الذي حل بمدنهم وبشرهم ومستنجدين بطبيعة تقهر الطعغاة وتهزم مشروعاتهم . وهذا تفسير للإصرار الذي تنطوي عليه النصوص الشعرية  الكردية وما يمكن أن يقرأ بكونه تأثرا حادا بالرومانسية ..
وسنقترب من حداثة الشعر الكردي العراقي عبر ثلاثة أصوات متجايلة عمريا وتنتمي لجيل السبعينيات ،وإن كان  الانتماء فنيا كما أفهمه أي أنه انتماء القصيدة ومناخاتها لفنية القصيدة السبعينية وماطرا عليها من تحديث وتطوير.
 
 لطيف هلمت :
 القصيدة كالريح لا تصادق احدا!
 
مثل ما جرى في تجييل الشعراء العراقيين الذين يكتبون بالعربية ، تواطأ نقاد الشعر الكردي العراقي والباحثون فيه على تقسيم شعرائه ضمن أجيال بحسب انعكاس قضية الحداثة في قصائدهم، واستجابتهم لموجات التحديث التي عرفها الشعرفي تطوره، واحتكاما إلى ذلك يوضع الشاعر لطيف هلمت(كِفْري 1949) مع شعراء الحداثة الثانية بجانب زملائه  شيركو بيكس وعبدالله بشيو وأنور قادر وأنور شاكلي ورفيق صابر  وغيرهم، ممن دشنوا التمرد على تجديد الرواد من الشعراء الكرد  أمثال (عبدالله كوران وكمران ونوري شيخ صالح وابراهيم احمد..) .
شعراء الحداثة الثانية تثاقفوا مع القصيدة العربية وموجات التحديث المدوية ،  فقفزوا بالقصيدة الكردية صوب الحداثة التي لها سمات شبيهة بقصيدة الستينيات العربية، وإن تأخر ظهورها في الشعر الكردي لمرحلة السبعينيات لأسباب يعزوها محرر انطولوجيا الشعر الكردي الحديث الشاعر عبدالله طاهر البرزنجي إلى أسباب سياسية ،حيث كان شعراء التجديد مشغولين بقضايا الكفاح والتحرر ومقاومة الانظمة ، بينما هيمن الإحباط في السبعينيات على المنافحين عن القضية الكردية ، وانفك الشعر عن الغرض السياسي المباشر  والإيديولوجيا ،ما أتاح للحداثة الفنية والرؤية الجديدة أن تاخذ مكانتها في القصيدة ،وأن يستعان بالسرد والنثر  وتقنيات القناع والرمز والأسطورة والمونتاج والاستفادة من الموروث المتنوع  المصادر.
يعرف القراء العرب شعر بيكس خاصة لحضوره وفاعليته وانتشاره ، وكونه في مقدمة حداثيي القصيدة الكردية، لكن لطيف هلمت المجايل له  يكتفي حتى التسعينيات بحضور داخلي ، جعله معروفا لقراء الصحافة الثقافية ببغداد ؛لأنه اشتغل فيها ، وواصل حضوره مترجما من العربية وإليها .وهذا ما ينعكس في شعره متعدد المؤثرات والتأثرات، فهو يعكف  منذ ديوانه الاول مطلع السبعينيات(الله ومدينتنا الصغيرة) على تجسيد طبيعة الأرض والبيئة الشمالية وجغرافيتها  وموجوداتها الخليقية ، متجاوزا الرومانسية المتغنية بها كجوامد توحي للشاعر ولاتحس او تنوب عنه في بوحها وجماليتها وعنائها، معتمدا نوعا من البساطة الجارحة  المكملة لاهتماماته بأدب الأطفال وأناشيدهم خاصة ،لكنها تلك البساطة  المنطوية على مفارقة مفاجِئة ؛ فتنمو القصيدة بهدوء ورتابة مؤسسةً طبقات من المعنى لا غرابة فيها  ولا تعقيد ، ثم تنعطف فجاة ؛ لتفجر شعريتها مرة واحدة في بؤرة دلالية أو بيت قصيد- كما اصطلح النقاد القدامى على لحظة تلخيص القصيدة لحكمتها في بيت أخير- وبذا يقترب من عوالم محمد الماغوط في الصنعة الفنية القائمة على صور متقابلة تتنامى متوالدةً  ؛ لتصطدم أخيرا بما يحوّل وجهتها لتقول حكمتها او خلاصتها.
يتضح في شعر لطيف هلمت أيضا ما يرد في ادبيات التصوف من عناية بالزمن كعامل محفز على تأمل الحياة وصولا للزهد بها، استنادا الى واقعة الموت ، ما يجعله مترفعا على  الغنى والحكم والمظاهر الحياتية الباذخة ، فتتركز في قصائده  قيم  الحرية و العدل والمساواة والانتصار للضعفاء  والفقراء..ويسرد ذلك كله من خلال تمثيل خيالي يسند للاحياء كلها ما يحس به البشر،  كما في قصيدته (الامل) ، حيث تتوسل الشجرة بمن يضربها بالفأس كي لا يصنع من جسدها إلا تابوتا للطغاة والقتلة.
ويستلهم لطيف هلمت موروث الشعب وإنجازاته الروحية في التراث الديني والشعبي وتركيزه على الولادة الجديدة للبشر وقيامتهم من سباتهم الحقيقي والرمزي اي التأخر والتكاسل ، محاولا عبر الغزل بالمراة أن يعيد لها أبرز ما تمثله في حياة البشر من وجود جمالي وشعري وعاطفي ،فكان كثير البوح العاطفي ،ولا نكاد نحس  أنه يتحدث عن حبيبة محددة أو تجربة  عاطفية معينة ..فتكفيه مثلا زرقة عيني فتاة عن زرقة السماء!
على مستوى الأداء الفني والكتابة الشعرية لا يتعمد لطيف هلمت الغموض أو التعقيد رغم عمق –وخطورة – ما يتناول من موضوعات، وهذا ما جعل تلقي شعره المترجم للغات أخرى يحظى باهتمام طيب ، سمح بدراسة شعر جيله ووطنه من خلاله.
سنلاحظ في قصائده  سمات  المباشرة والتدرج الموجي الشبيه بتضاعف الأغلفة  الملتفة حول نواة الفكرة او بؤرة النص ، هاهو في قصيدة بعنوان الشاعر و عبر جزئيات صورية  تلتقطها الحواس المستنفرة دوما في شعره ، يصل إلى فكرة الذوبان والاتحاد الصوفية لدى الشاعر ، وكينونته جزءا من قصيدته متماهيا بها ؛فيقول:
أصغيتُ إلى الماء
كان يغني للضفاف
أصغيت إلى الطائر
كان يغني لشجرة
و أصغيت إلى الشجرة
فكانت تغني للربيع
وأرهفت السمع للربيع
كان يغني للشاعر
وحين أمعنت النظر في الشاعر
رأيته يذزب قطرة قطرة
ويتحول إلى لهيب..!
إننا نحس أحيانا ان تداعياته سوف تستمربلا توقف، فالصور تلد بعضها ، وتتفرع عن سابقاتها.في قصيدة بالعنوان نفسه (الشاعر) يستفيد من فكرة الحلول الصوفية، وعودة القطرة إلى نهرها بعد تبخرها وانضوائها في غيمة .لكنه يتدرج من الهم الذي ينطوي عليه النهر ولا يحسه الناس الذين بلا بصائر ، لكنه مهموم ، بدليل  أنه يسمعه يئن،كما يرى للنهر حبيبة يسوق لها الزهور في موجات مائه، ولأنه يغضب يرتطم بالصخور .أما الشاعر فيحيل دمه قطرات تشربها غيمة وتمطرها عبر القصيدة في نهر كبير.
في قصيدة أخرى من القصائد القصيرة التي يميل لكتابتها  يشبه لطيف هلمت القصيدة بالريح التي لا تصادق أحدا في هبوبها ، رغم أن هذا الوصف لا ينطبق كثيرا على شعره  الذي يوحي بألفة غريبة مع الأشياء ويتحسس ما تكتنزه في صمتها وجمودها.
يترجم الشاعر إحساسه بالزمن وثقله وعبثيته في قصيدة بعنوان الأيام يتحدث فيها عن سلسلة متلازمة من عراك أيام الأسبوع يختمها بالسؤال الوجودي الإشكاليعن مصير اجساد تلك الأيام الميتة:
أبداً السبت يغتال الجمعة
الاحد يقتل السبت
الإثنين يغتال الأحد
والثلاثاء الإثنين..
ترى أين تدفن الايام
كل هذه الأجساد؟.
تلك السمة الغلافية أضحت امتيازا لقصيدة هلمت المتعالية على الرومانسية رغم رقة لغتها وبساطة موضوعها ..ووصولها إلى غرضها بنمو فطري يذكرنا بالحدوتة أو الحكاية الشعبية ، وتكرار العبارات المفتاحية أو الختامية في الليالي العربية والفولكلور الكردي  والحكي الشعبي عامة.ففي قصيدة الملك يتدرج الشاعر في تسلسل الجمل الشعرية من عبارة(أمر الملك باعتقال البحر/ فصار البحر غيما)وحين يأمر الملك باعتقال الغيم يصبح مطرا ،فيأمر الملك باعتقاله ،فيصبح نهرا يتحول بدوره سيلا يفيض بعد ان يأمر الملك باعتقاله، وحين أمر  الملك مر باعتقال الفيضان التهمه السيل بأسنانه الحادة. ثم لنشتق هذه الأمثولة:
من ذا يقول : أن ليس للأنهار هَم
إنها إن لم تكن حزينة , فلماذا تئن إذن ؟!
ومن ذا الذي يقول : أن ليس للنهر حبيبة
إنه إن لم يكن يحب
فلمن يجلب كل هذي الزهور ؟! ..
ومن ذا الذي يقول : إن النهر لا يغضب أبدا
إنه إن لم يكن يغضب ..
فلماذا يهشم رأسه بصخور الضفاف
ومن ذا الذي يقول : إن الشاعر لا يصبح نهرا
أليس هو الذي يجمع دمه
قطرة فقطرة في غيمة القصيدة
كي يجعل منها نهرا كبيرا ؟!
لقد انحاز الشاعر للحرية ؛ فهاجمت قصيدته الطغاة ،ولكن بصنع صورة خرافية لهم .يستعيد صورة نيرون مرمزا في طاغية. حين يطلع من جسد المدينة دخان،  تتساءل عنه القصيدة في حوار مسرحي ذكي لم هذه المدينة لفها الدخان؟  فيجيب صوت آخر بأنه ربما أشعل فيها جنرال سيجارة أو غليونا. كناية عن عذاب الأرض والبشر بوحشية العسكر وقسوتهم.
وفي حديثه عن الأمكنة يلخص هلمت الشعور بتنوع الدروب وتعددها ، لكنه يبحث كأي متأمل واعٍ غير عابرعادي  في ممر  الحياة عن درب يصفه بأنه  أجمل درب: فهو  (لا ينطلق من مكان ولا يبلغ أي مكان). إنه مكان أو طريق يقع في موضع خيالي ،يصنعه الإيهام الذي يعقد عليه الشاعر رهان قصيدته.
كثير من نصوص الشعر الكردي في موجة الحداثة التالية ستنقل القصيدة  إلى موقع حداثي أكثر جرأة وتجاوزا لما اقترحه زملاء بيكس وهلمت ، لكن ما تركه هؤلاء سيظل  له أثره  في التحولات الفنية والرؤى ،وفي مجمل الخطاب الشعري، فنصوص هلمت حملت في ثناياها ظلال الرقابة والقمع للحريات ، بينما يشتغل شعراء التسعينيات في فضاء حر ولا يشوب قصائدهم خوف من تسلط أو تحفظ من تاويل.ولكن ما يجعل القصائد غاضبة كالريح فلا تهادن أو تصادق بتعبير هلمت هو توسيعها للهم السياسي وتماسها مع الإنساني في أكثر صوره بلاغة وتأثيراً ،سواء بالرصد الداخلي للمكنونات البشرية، أو تأمل الكائنات الخليقية واستلال الصور المؤثرة وتسلسلها الدرامي حتى النهاية .وهي مظاهر يحرص لطيف هلمت على تركيزها كعلامة فارقة له ،وميزة تمنحه تلك الخصوصية التي لا تجعل معالجاته ومقارباته الموضوعية والاسلوبية ممتثلة لموضة أو نزعة مهيمنة ،قدر استجابته لحافزواحد هو فضاء القصيدة وهاجس الحرية الذي يلازمه منذ بداياته الشعرية حتى الآن.
 
 
 
 
رفيق صابر : طريق العودة أطول من الحياة
يختار الشاعر الكردي العراقي رفيق صابر(السليمانية 1951) معاناة اوديسيوس في  طريق العودة لإيثاكا بعد ان انتهت حرب طروادة، ليعبّر بها عن عنائه في المنفى والعودة إلى الوطن. وهو من اكثر شعراء جيله اتكاء على الاساطير والرموز التي عززتها إقامته خارج الوطن سنوات طويلة كتب خلالها قصائده المهمة والمستندة لتقنيات السرد- كما ينوه مترجم قصائده الى العربية الناقد عبدالله طاهر برزنجي- وأبرزها مطولته (موسم الجليد) و قصيدة (حسرات أوديس) وعمّقَ تميّزَه معايشتُه للتحديث في الشعر المكتوب بالعربية خلال دراسته ببغداد وعمله في صحافتها اليسارية ، ثم اطلاعه المباشر على الشعر العالمي بسبب هجرته ودراسته في روسيا وبلغاريا وإقامته في السويد قبل عودته الأخيرة  إلى العراق للإقامة في كردستان . الرموز والأساطير والميزة السردية التي تناسب غياب الغنائية عند رفيق صابر عززت اتجاهه النثري المتجسد في  الإفادة من وجود النثر في تعميق شعرية قصيدته. وظهر الفكر الفلسفي بشكل تأملات عميقة في الزمن والمكان والمحاولة الدائبة للانسان للتغلب عليهما لذا كانت الأوديسة مرجعاً مناسباً وذكياً لإنجاز التناص
الذي أضاف للنص دلالة إنسانية ؛فالطريق إلى البيت هاجس المنفيَ حتى وهو يختار بنفسه منفاه ويسعى إليه، لكنه يظل بالحنين ذاته متطلعاً لماضيه الممثَّل بالمكان الذي شهد حياته فيه.طريق يقول عنه الشاعر إنه (أطول من الحياة) مؤمناًبذلك لحد تكرار المقولة ذاتها عنواناً لإحدى قصائده وبيتاً في أوديسته الكردية مخاطباً زوجته التي لا بد أن تكون لها رمزية بنلوب المنتظِرة:
أود أن أصلك قبل أن يحل  الفجر
أنثر أحلامي كباقة زهر مجعدة
على قدميك الناعمتين
ولكن آه يا زوجتي العزيزة
إن طريق العودة أطول من الحياة نفسها.
وفي قصيدته المعنونة بالعبارة نفسها يقول:
درب أطول من الحياة
أسير حاملاً زمني المبعثر كفؤادي
أود أن أقطع مسافتي الأخيرة كخيط من نور مرتبك
وأصاب المترجم حين اختار ( أطول من الحياة) عنواناً للمختارات التي ترجمها من شعره إلى العربية.وهو عنوان احد دواوينه أيضاً.وتأخذ التأملات الشاعر ليغوص في المصائر والنهايات البشرية ويقترب من التأمل الصوفي متاثرا باسلافه من المتصوفة الكرد لا سيما في مطولتيه (موسم الجليد) و(ميديتاسيون) – أي التأملات والاستغراق في الذات -التي تنبئ عن معاناة المنفي والبرد المتسلل للروح كما في شعر نالي الشهرزوري  و مولانا خالد فيقول:
أنت بلا انتهاء ولا خاتمة كالزمان
بلا شكل كالضياء
وما شأني أنا
إن كانت البداية ترابأً أم هواء
ناراً أم ماء
بدايتي كانت قبسا من الجسد
ذاب في تلافيف الروح
قطرة من نور الروح
تشبثت بالجسد
معك تبدأ بدايتي
ووراءك تنفد
ولا يستغرق شعر رفيق صابر في التجريد بسبب التأملات . يلجأ لتقريب فكرته بالصورة التي تميز شعره كونها مستقاة من الطبيعة وهي طبيعة مزدوجة من الوطن والمنفى معا.ولكن استهلالات قصائده تضع القارئ دوما في محيط التأملات وقريبا من الطبيعة ليرينا فكرته عن الزمن والمكان والمصائر وهي ثلاثة أقانيم تشغل الشاعر كثيرا وتمثل هاجسه المميز في ظني وهي تحيل إلى مرجعيات الشاعر والمؤثرات التي وقع شعره تحتها في تكوينه العام وثقافته الشعرية لاسيما التصوف الذي يفصّل في بيانه الناقد عبدالله برزنجي مقارنا ما تلفظ به الشاعر وما ورد في لمدونات الشعرية الصوفية لا سيما لمولانا خالد .
الصورة الشعرية تستقبل القارئ لتضعه في السياق البصري ولكن المحتكم للتأمل:
كان الليل نعشا متمددا بجنبي
والوقت كان ضباباوصراخا
والوطن كان قبضة،غبار تتناهبه الريح
وربما كان استشهاده بعناصر الطبيعة الأربعة وتفرده عنها ما يؤكد احالاته الصوفية التي ترى الكون خلقا خاصا تكتشفه عين العارف وعقله وبصيرته.
أما إفادته من السرد فلا يعكس مجرد الاستضافة النثرية والاسترسال الحكائي  مما يشيع في الشعر الحديث، إنما تظهر فيه براعته سواء في اختيار زاوية النظر أو التبئير ووجهة القص ومساره ثم صوت السارد وتبدل دلالات المخاطب لديه وتسلسل الأحداث والتبدلات لا سيما في مطولاته.
وأحسب أن تجربة رفيق صابر ذات خصوصية تتطلب وقفات اشمل ومن زوايا نقدية متعددة.جديرة باصطياد رؤيته الفكرية والشعرية و لغته وصوره التي يغدو فيها
 
: الوطن كأنه سحابة كليلة معلقة على بوابة الكون ،والروح يظل بابها مشرعا حتى الفجر ، فيما هو يرتدي الفراغ ماشيا كالصدى في طريق أطول من الحياة. .
 
 
طيّب جبار:ظلام لياليه أبيض
يرى الشعراء ما لا يراه الآخرون ويعيشون بعشرات الحواس ؛ فتبدو الأشياء بعين مخيلتهم لا كما هي عليه خارج قصائدهم.
يحكي الشاعر طيّب جبار عن زمن كان فيه الظلام أبيض..لعله الظلام الذي أحبه السياب حين قال(الشمس أجمل في بلادي من سواها /والظلام / حتى الظلام هناك أجمل / فهو يحتضن العراق) وسمع بآذان مرهفة   الحصى يصل في قرار النهر، و وأحس بالعراق يذخر البروق والرعود..وفي ظلمة لونية أخرى يتداعى المتنبي : حين كان هواه موافقا لكافور فوصفه مادحا بأنه(شمسٌ منيرة ٌسوداءُ).
لكن الشاعر طيب جبار( كركوك 1954) له أسبابه ليصف ظلام ذلك الزمان بأنه أبيض ، كما في عنوان إحدى قصائده التي أطلقها مترجمه إلى العربية الشاعر عبدالله البرزنجي عنوانا  على مجموعة مختارة من أشعاره.
إنه يأسى على أزمنة أكثر بساطة يصادق فيها الإنسان الطبيعة ونفسه وأشياءه  ، ويبدو زاده  كما تقترح الوصفات الشعبية :
صباحا كان الفطور
إناء من السقسقة
ظهرا ملعقتان من الضحك
مساء قرصة قمر
يقابل ذلك في ضدية قاسية ما آل إليه الزمن:
الآن
الريح تُضرب عن الهبوب
لا تنزل من الأعالي
النار تلعن الدخان
الصحراء تسرِّح الرمل
الأيدي لا تتعانق
والشفاه لا تتلاصق
وجباتي الثلاث :الطين
حارس الصوت في مدينة خرساء
.ويجدر بنا  أن نلاحظ الصوت الجماعي  حتى بالضمير النحوي العائد للجماعه في المقطع الأول المتعلق بالماضي ، ثم بروز الذات في مقطع الحاضر ، وعائدية الضمير على الشاعر المتكلم نفسه ، ما يؤشر المهمة الذاتية في برنامج القصيدة
الكردية الحديثة ، وكذلك التقابل بين الآن وكان فهما يتقدمان سلسلة تيرات ياسى بها الشاعر على صفو انقضى وسعادة مفقودة ففطور السقسقة والضحك والنور المشع من القمر صارت وجبته الطينالذي يحرس مدينة خاوية بلا أصوات .ويمكن لنا ملاحظة أمرين مهمين في قراءة أشعار طيب جبار هذه،حيث الطبيعة  أولاٌ تتسيد مقياس الاحتكام إلى  حضور السعادة وغيابها ، وثانيا ما تحفل به من هيمنة الذات بشكل واضح ،بمقابل ذوبانها في أشعار جيل الحداثة الثاني في الشعر الكردي المهموم بأولويات جماعية ،يرصدها المترجم البرزنجي، ويضع قصائد طيب جبار في مرحلة الحداثة الثالثة التي دشّنها  مبكرا شعراء مثل شيركو بيكس ولطيف هلمت  وأنور قادر حيث  تتجلى في نصوصهم (الانزياحات والانفتاح على أجناس متباينة)   وطوّرتها أشعار السبعينيات التي عُنيت  كما في قصائد  ديوان (ذات زمان كان الظلام أبيض) بالاحتفاء بالعدم والغياب وتأمل واقعة الموت ، وبرؤية الطبيعة ،
لا كما رآها الرومانسيون مناسَبَة للشكوى والسيولة العاطفية ،إنما لغرض التطابق بين الذات بتجلياتها وإراداتها ورغباتها واختياراتها ، وبين الخارج الموافق  لنزوعها الحر، وتلبيةً لرغبتها في الصفاء والوحدة .فأصبح ظلام تلك الأزمنة أبيض ، وصارت أمنية الشاعر أن يرقص مع خرير جدول ،وأن تتناغم ألحانه مع زمجرة الرياح، وأن ينهي حياته زلزال!.بينما تتشاور عناصر الطبيعة(الماء والتراب ، النار والريح) لتعطيه مراسم دفن لائقة فيكون:
تابوته من خشب القمر
وكفنا من شعر فتاة
وحين يغسلونه ويدفنونه يكون ذلك :
برحيق الكلمات
وأحجار اللحد من قوس قزح.
إن التراجيديا التي تمثلها القصائد تعطي للقصيدة الحديثة أفقا إنسانيا تتآخى فيه أحلام البشر كما تتوحد آلامهم أيضا.
فنيا سنجد أن  للطيب جبار منهجاً أسلوبياً مميزاً نستطيع أن تعرف عليه عبر تشخيص ظاهرة سائدة في الدريوان هي  الاهتمام بالتوزيع الإيقاعي لابيات القصيدة توزيعا محسوبا يحق أثرا موسيقيا يعوض كثيرا عن غياب الموسيقى التقليدية وزنا وتقفية. وبذا يدحض فرضية مجانية قصيدة النثروعبثيتها أو تغريبها العصي على الفهم ،أو فقدانها التصميم والترابط والدلالة
تتلخص تلك الميزة الإيقاعية والتصميم المروس للقصيدة وتسطيرها البيتي وتكتلها الخطي بوضع عبارة مفتاحية تتكرر بعد عدد متناظر من الأبيات.
وهذا ما تفصح عنه نموذجيا قصيدته (ثلاث رباعيات خماسية) فعبر التلاعب  بالمدلول العددي ينجز طيب جبار قصيدة ذات إيقاع خاص تلفت النظر في تناظر أعداد الابيات واستهلالاتها وتقطيعها الخطي على الورق، ويحاول تعويض موسيقى الشعر التقليدية المألوفة.
ففي نصوص القصيدة ذات العناوين الفرعية نجد ثلاث رباعيات تتوزع إيقاعيا بتقنية التكرار بالشكل الآتي:
المقطع الاول  الاستهلال :كن حذرا لاتدع تلك الريح/تنحني/ فتقطع
المقطع الثاني   الاستهلال: كن حذرا لاتدع ذلك الماء/ينام/فيحلم
المقطع الثالث  الاستهلال: كن حذرا لاتدع تلك النار/تشوى/فتتقخم
المقطع الرابع  الاستهلال : كن حذرا لا تدع ذلك التراب/يشم/فيختل
المقطع الخامس  الاستهلال :كن حذرا لا تدع تلك القصيدة/تعطس/فتنتشر
وقد خدم التكرار الفكرة ولفت إلى تناظر دقيق يتلخص لسانيا بتكرار طلب (فعل أمر) في بدء كل مقطع،ثم طلب(نهي) وأخيرا يأتي جواب الطلب بعد الفاء وهو د\وما ثلاث كلمات.هذه السنتمترية الممثلة بالرباعية ومقاطعها الخمسة وكلماتها المتقابلة عدديا ودلالاتها الموحدة فضلا عن كونها تعيد ترتيب عناصر الطبيعة ( يسميها عنوان الرباعية مواد ،وحري بالترجمة ان تكون عناصر)مضافا إليها الرحيح تؤكد توصلنا السابق حول تمجيد الطبيعة لا بحس رومانسي ساذج بل باختيار واع لها كمساحة لحرية الذات وجمالياتها المستعاض بها عن قبح الواقع المرفوض.
في الرباعية الثانية ثمة اشتغال مشابه :
تكرار للعبارة المفتاحية  لو كنت اعرف
والبيت الثاني تزمين للفصل وهو الربيع في الاولى والصيف في الثانية والخريف في الثالثة والشتاء في الرابعة..كما يتكرر جواب أو خبر التمني ب لو في الابيات الثالثة مصدرا بالحرف ل متبوعا بفعل: لأمرت/ لأحلت/لأحلت/لأغلقت/لوزعت..
مع ملاحظة خروج الشاعر على التقسيم الرباعي للابيات حيث جاء بخمسة في المقاطع الاربع الأولى وختم بثمانية..وهو عين ما يتكرر في المقطع الباعية الثالثة التي تبدا بعبارة : انا شاهد والتي تتكرر في مطلع كل مقطع بينما تتغير الحواس  فتكون العين في الاولى ويكون الفم في الثانية والأنف في الثالثة والأذن في الرابعة وتنتهي الرباعية بالنفس التي تكون شاهدا.
ولا تخلو أي من قصائد الديوان من هذا الصنيع: تكرار لكلمة مفتاحية او عبارة ثم تنويعها بتداعيات مشابهة أو قريبة. ففي قصيدته الطويلة التي أخذ الديوان اسمها عنوانا (قصائد تلتفت إلى الأمام) بما فيه من مفارقة لطيفة ودلالة على المستقبل نجد خمسة وعشرين نصا مرقما وبعناوين فرعية هي في الحقيقة الكلمات أو العبارات الأولى من النص وهو عمل مشابه لما دابت عليه الملاحم القديمة التي تعرف بمطالعها او ما فعله محمود درويش في كثير من قصائده التي أخذت عناوينها من ابياتها الأولى أو استهلالاتها.فالنص الأول (إحكِ لي) يبدا بالعبارة ذاتها ، والنص الثاني (تمهل) يبدا بالعنوان ايضا ويكرره في  مقاطع صغيرة يفصل بينها البياض.
وهكذا تتقسم إيقاعات النصوص الأخرى .وفي قصائد لاحقة مثل :يا وردتي لا ترحلي، وإلى حسين مصري، ونامي حبيبتي  ،نجد التقنية نفسها التي توافق مزاج الشاعر وتلبي حاجة النص لتثبيت معانيه ودلالاته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ملحق
قصائد

  • لطيف هلمت

 
أسرار

  • الريح

لا تصادق أحدا

  • والقصيدة كالريح

احيانا تقبل
وتتوارى أحيانا أخرى

  • حين يسترسل الشعر في النوم

تنمو أعشاب الصمت
في بقاع الأرض.
 
الملك
أمر الملك باعتقال البحر
فصار البحر غيما
أمر الملك باعتقال الغيم
فصار الغيم مطرا
أمر الملك باعتقال المطر
فصار المطر فيضانا
الملك أمر باعتقال الفيضان
فالتهمه السيل بأسنانه الحادة
 
(………)

  • هذه المدينة

لم لفها الدخان..؟
+ ربما
جنرال
أشعل بها
سبجارة
أو غليونا.
 
(….)
مائة نجمة
تدخل مرآة صغيرة
أمّا هذه الأرض الكبيرة
فلا تسعني كخرم الإبرة !
مقطعان
1
لكم آلاف الزنزانات
ولي شمس واحدة
وزنزاناتكم كلها لا تقدر أن تحجب
عني شمسي الوحيدة
2
لكم آلاف السيوف
ولي يدان فقط
وليس بمستطاع سيوفكم كلها
أن تنتزع مني هاتين اليدين
 
 
 

  • رفيق صابر

حسرات أوديس
إلى فرانس/بعد18 عاما
على سواحل البحر أترك المساء للطيور امائية
ككتاب اطوي الظلام
اود ان اعو ذات ليلة إليك
كئيبا أعلي آثامي كراية بيضاء
واحلامي أنثرها كحضن من الاوراق المفتتة على قدميك
بينلوبي
بنيلوبي يا زوجتي العزيزة
على انطفاء الحرب زمن مضى ومازال
السلم غائبا
لا أتذكر متى تركتك
فقدت الزمن ودرب الأوبة….
بنلوبي يا زوجتي العززة
إني أرنو إلى الأفق ولاشيء  في بالي
أي شيء ظل بعدك حتى أودعه لدى الغيب؟
أي سر لدي حتى أعلنه للضياء؟
اقتفيت أثر خطى الجمال ..
لابرهة من الزمن أملك بعدك
ولا موضعا من  المكان
والأشياء تتباعد تباعا وتحدث الشرخ في الوجود وااأعماق
لم أعرف  أن الحب هكذا يحوي الحسن والألم
ويشعل نار هذه الحرب التي لا تنفد
لم أعرف أن الفراق يحدث هذا الجرح السرمدي في الروح
لو تعرفين أي مكان مترب جسدي!
وأية صحراء قاحلة روحي!
أود أن أصلك قبل أن يحل الفجر
لأنثر أحلامي كباقة زهر مجعدة
على قدميك الناعمتين
ولكن آه يا زوجتي العزيزة!
خسرت الزمان في سفري الأزلي
في جزيرة مظللة أرنو إلى الفراغ
إني ربحت الحياة..لكنني وا أسفاه
فقدت نفسي
 
 أطول من الحياة
ماشيا كالصدى أرتدي الفراغ، أغور في أحلام الصخور
أود ان أكتسب شكلي مثل قطرة من النور
وجهي شاحبا  يغدو،مرآةً علاها  ضباب البعاد
ودرب الحياة يقيس قلبي يمقياس
اين أنتِ كي تحملي قلبي
ترسمي صورة فضائي
وتمنعي سقوطي بإيقاعك
كالبحر يجري زماني هائما
أمام الفلاة يتلاشى
ويستحيل
لونا وظلا وأحلاما زاهرة
يغدو مفترق القول
والسكوت
إنه ليل الكلام فاستنطق الصمت،لألاة الحقيقة، والقنديل هو.
هو الصمت حقيقة المجاز والمعنى.
أسير..فيجاريني زماني.
في وجه الندى أبصر صورتي
نصفي كجناح الفراشة المتناثر
ونصفي بقي للتوغل في الغياب بحثا عن المعنى والمصير.
 
درب أطول من الحياة
أسير حاملا زمني المبعثر كفؤادي
أود أن اقطع مسافتي الأخيرة
كخيط من النور المرتبك.
 
موسم الجليد
(مقطع)
..مرة ثانية
أعاده الوجد إلى الطقولة
فحمله السر
تسلق قامة الضوء
وغسل في وابل النار
روحه العائرة في الجليد
في المساء يحيط السر روحي المهتاجة
الوابل يمسح ملمحي الكالح
وفي سفح الريبة والقلق
ادس راسي في فرع شجرة اللهب
أدثر نفسي بالبَرَد.
غيمة نزقة تضيع الدرب في الفؤاد
ترطب بقع الدم المتناثرة على الجدار
وضباب المنفى
والمساء
والوطن
هذا الوطن المتقاطر يشبه كوى الجرح
يطل على تراشق الرصاص
كأنه سحابة كليلة
معلقة على بوابة الكون.
 
 
 
 

  • الطيب جبار

حدّق
حدق ،
كيف يركع الجبل،
والقمة كيف تضطجع.
 
حدق،
كيف الثلج يموت  تجمدان
والشجر كيف يحبو.
 
حدق
كيف النهر يلف نفسه،
والسهل كيف يلملم نفسه،
ويجلس.
 
حدق،
عند وصول بريد المساء،
كيف تصبح،
الأبنية والمساكن رماديتين.
 
حدق،
عند ميلان المقعد الثلاثي،
كيف يرتبك الوضع الأمني.
باستثارة الندى،
كيف تزهو النباتات.
 
 الرباعية الاولى: المواد الأربع
كن حذرا!
لا تدع تلك الريح…
تنحني،
فتقطع عنا الدرب.
 
كن حذرا!
لا تدع ذلك الماء…
ينام،
فيحلم أحلاما عفنة.
 
كن حذراً!
لا تدع تلك النار…
تشوى أكثر،
فتتفحم ويتعذر تناولها.
 
كن حذرا!
لا تدع ذلك التراب…
يشم الرائحة
فيختل توازن الأرض.
 
كن حذرا!
لا تدع تلك القصيدة…
تعطس،
فتنتشرأوبئة لغوية.
 
 
 
 
قل لي
قل لي،
متى يرجع…
الثلج المذاب إلى الجبل؟
متى يهوي…
شلال النار إلى الأسفل؟
 
قل لي،
هل تبحث…
آثار الأقدام عن صاحبها؟
هل يرسو الغبار في الحفر والقفار؟
 
قل لي،
كيف تنفتح
العقد المستعصية للرغبة؟
كيف يتعلم
الرجل الملدوغ؟
 
قل لي،
لماذا لا يمسح أحد
دموع القمر؟
لماذا لا يسيطر
على وباء الموت؟
 
قل لي،
من يستحب وعود الخوف؟
من برغبته،
يطرق أبواب الجحيم؟
 
المصادر
. أرواح في العراء-أنطولوجيا الشعرالكردي المعاصر- تأليف وترجمة عبدالله طاهر برزنجي- ديوان المسار للترجمة-بغداد-2007
. الريح لا تصادق أحداً- لطيف هلمت-ترجمة عبدالله طاهر برزنجي- دار الغاوون  للنشر- بيروت-2011
. أطول من الحياة- رفيق صابر-ترجمة عبدالله طاهر برزنجي-الملتقى الثاني للثقافة العربية الكردية – البصرة-2012
.  قصائد تلتفت إلى الأمام-طيب جبار-ترجمة عبدالله طاهر برزنجي- دار الغاوون للنشر-2012
 
 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*