ذاكرة الناقد و ذاكرة القارئ و ذاكرة القصيدة- د.علي الصكر

 
 

طباعة أرسل إلى صديق
الكاتب: د. علي الصكر
السبت, 08 تشرين1/أكتوير 2011 09:36
 

المشروع النقدي الذي يعمل عليه بدأب شديد د.حاتم الصكر منذ سنوات بات الآن واضح المعالم محدد الوجهة والهدف . يقرأ د.حاتم الإبداع العربي قراءة حداثية تستند إلى المناهج النقدية الجديدة التي تتخطى حدود النوع أو الجنس الأدبي لتستقرا حضور الذات المبدعة في نص وليد لا يدين إلا لجماليته في كيانه المستقل . د.حاتم الصكر ينأى بنقده عن المدارس التقليدية مثلما يرفض أدلجة المنهج النقدي و تصديره لأغراض لا تمت للنص بصلة و قد أبدى منذ وقت مبكر – بالتحديد منذ كتابه الشعر والتوصيل بغداد 1988 – اهتماما ملحوظا بمشاكل توصيل الشعر وتلقيه وفقا لما تثيره نظريات القراءة الحديثة ليؤسس فيما بعد منجزا نقديا متميزا يتبوأ بموجبه مكانا لافتا على خارطة النقد الأدبي الحديث اليوم .في كتابه الجديد قصائد في الذاكرة ( كتاب دبي الثقافية أغسطس 2011) يستعيد الناقد الصكر قراءة نصوص قديمه – نسبيا – لكنها لا تزال طرية في الذاكرة الجمعية للقارئ العربي . نصوص لها في الذاكرة الشعرية ( مكانا لا يقدم أو يهرم ) يسميها سيف المري في تقديمه للكتاب ( قصائد الزمن الجميل ) بينما يسميها الناقد ممازحا ( المدويات تناصا على مسمياتها كالمعلقات والمذهبات ) . إنها نصوص انبثقت ضمن سياق حدثي زماني ومكاني محدد ثم غادرت أسوار سياقاتها لتستحضر في السياق العربي الراهن فتحفظ عن ظهر قلب ويستشهد بها اليوم فهي : ( إذا الشعب يوما أراد الحياة … ) و ( لا تصالح ولو توجوك الذهب ) و ( مطر مطر مطر ) و غيرها مما يمكن تسميته – الآن – مجازا كلاسيكيات الحداثة الشعرية العربية .
يقر الناقد الصكر منذ البداية أن هذه القصائد ليست أفضل ما كتب في حينها بل أنها ليست أفضل ما كتب أصحابها أنفسهم لكن الفعل ( المدوي ) – لبعضها – يعود لأسباب سياسية تحريضية ومع ذلك فان قراءته الاستعادية لتلك النصوص لا تحفل كثيرا بالفعل – السياسي أو الاجتماعي – المدوي للنصوص قدر رصد الانعكاسات الفنية لمظاهر الحداثة الناشئة فيها . وتأسيسا على ذلك فان قصيدة نزار قباني ( خبز وحشيش و قمر ) التي نشرت عام 1954 هي قصيدة ( مدوية ) نظرا لما جلبته من ردود أفعال ( رسمية ) ساخطة على الشاعر الذي قال عنها فيما بعد أنها ( أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة والعمائم والذقون المحشوة بغبار التاريخ ) لكن الناقد الصكر لا ينشغل كثيرا ب ( المواجهة ) بل يتحرى البناء الفني الجديد ( القائم على تعدد التفعيلات والقوافي وهدم بنية الشطرين ) .وبذلك فأن ( دوي ) القصيدة يتحقق عند الناقد بقدر ما تهدمه من البني الشعرية التقليدية وليس البنى الفكرية السائدة وقتها . وقصيدة بدر شاكر السياب الأكثر شهرة ( أنشودة المطر 1954 ) هي ذروة التجديد الشعري الذي ( ينهل من الأسطورة والرمز ويبقي على جماليات الغنائية الموسيقية ) . تبدأ أنشودة المطر – مثل المعلقات – بمطلع غزلي لا يزال يحتل مكانا مبرزا في ذاكرة القاريء العربي : عيناك غابتا نخيل ساعة السحر / أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر . لكن الغرض السياسي فيها سيطغى على الغزلي فيعتبرها د . حاتم ( قصيدة سياسية في المقام الأول ) تستفيد من رمزية المطر وتكراره الإيقاعي المرح المداعب للأذن والذاكرة معا : مطر .. مطر … مطر لتصل إلى ( الهجاء السياسي ) وملامسة معاناة الجياع بجملة شعرية لا تقل بوقعها المؤثر عن المطلع الغزلي الشهير : وكل عام حين يعشب الثرى نجوع / ما مر عام والعراق ليس فيه جوع . لتنتهي بوعد ( أو نبوءة الثورة التي ستتحقق بعد أربع سنوات : أكاد أسمع العراق يذخر الرعود ) الذي يجسده المطر أيضا حين يهطل في نهاية القصيدة مسبوقا بالبرق والرعود .
من الشابي يستعيد الصكر – لا شك – قراءة ( إرادة الحياة ) التي تخرج هي أيضا عن سياقها وظرفها ( التراب التونسي ) لتصبح ترنيمة للشباب العربي من المحيط إلى الخليج . يرى الناقد في جملة الشرط الافتتاحية ( إذا الشعب يوما أراد الحياة ) عقدا بين القارئ والشاعر فإذا حصلت الإرادة و طمحت النفوس للحياة الحرة سيتحقق جواب الشرط : استجابة القدر. يتجسد في القصيدة ( زواج شعري ) بين عذوبة الرومانسية التي عرف بها الشابي والقوة السوبرمانية وهما ( أهم مؤثرين في تجربة الشابي ) . عذوبة الرومانسية نفسها وموضوعة الحنين هي السبب – أيضا – في استعادة قراءة قصيدة محمود درويش ( إلى أمي )التي تستمد شهرتها من ( تلك البساطة التي كتبت بها والموتيفات الأسرية ذات التأثير العاطفي الحاد ) المستمدة من حضور الأم المقترن بالطفولة . لا يستخدم درويش مفردة الأم كرمز – بسيط متكرر للأرض والوطن استهلكه شعراء المقاومة قبل درويش وبعده فحسب بل ( هو استخدام عاطفي يمجد وجودها في حياته الخاصة ) وينبعث من ألم فراقها الذي يستدعي الحنين الذي يشغل القصيدة منذ بدايتها ويفرض عليها ( الهدوء والتسلسل النغمي الخافت ) : أحن إلى خبز أمي / قهوة أمي / لمسة أمي . فتبدو القصيدة شديدة الهدوء ( هامسة ) بالقياس إلى مثيلاتها من أعمال درويش الأولى المميزة ( بالهيجان اللغوي والعاطفي والصوري والمباشرة وارتفاع الصوت ) .
لكن الهيجان وارتفاع الصوت والمباشرة التي كان من المفترض أن يفرضها الاحتلال كسياق مكاني وزماني على نص درويش سنجدها جميعا محتشدة بصخب عند أمل دنقل في قصيدته ( لا تصالح ) التي ظهرت عام 1976مع بدايات ظهور مشاريع تسوية القضية الفلسطينية مطالبة برفض الصلح وإنهاء مأساة الشعب الفلسطيني بالمقاومة ( لا على الطاولات ) .يريد دنقل عبر قصيدته أن يقدم حرب البسوس التي دامت أربعين عاما (برؤية معاصرة ) فيستدعي صورة البطل كليب من الحكاية الشهيرة ويستعير الهتاف الذي كتبه كليب بدمه ( لا تصالح ) ليلقيه بوجه الواقع المتردي و الوهن العربي تجاه العدوان و الوحشية : كيف تنظر في يد من صافحوك / فلا تبصر الدم في كل كف ؟ ) .
هكذا يمضي د.حاتم الصكر في نقده الممتع المتوازن ( كما يصفه ناصر عراق في تقديمه لكتاب سابق للصكر : في غيبوبة الذكرى 2009) فيستعيد قراءة ( الكوليرا ) من نازك و ( سوق القرية ) من البياتي و( الظل والهجير ) من الماغوط و( حارس الفنار ) من البريكان و( في حضرة العيد ) من البردوني و ( لا بد من صنعا ) من المقالح وقصائد أخرى لها ذات الأثر ( المدوي )متنقلا بسلاسة ويسر دون عسر ما بين ذاكرة القارئ و ذاكرة القصيدة حيث أن الأولى تحتكم إلى الثانية و تستعيدها وتستمع إليها ( لا داخل أسوارها النصية وحدودها البنائية بل بعلاقتها بالتداول والقراءة و التذوق العام للمتلقين ) .
ali_segar@yahoo.com

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*