رواية ستيمر بوينت لأحمد زين" كم طريقٍ تؤدي إلى عدن..

 
 
 
(ستيمر بوينت) : كم طريقٍ تؤدي إلى عدن؟
 
 
الطبعة الجديدة لرواية  (ستيمر بوينت)للكاتب اليمني أحمد زين الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب 2017،والتي صدرت طبعتها الأولى عن دار التنوير في بيروت عام 2015 تسمح بقراءة إضافية ومقاربات نقدية تضفي عليها اللحظة اليمنية الراهنة ظلالاً لاتنجو من التأويل والفهم المتأثر بما تؤول إليه الأمكنة التي عُنيت  الرواية بتصويرها ، والفضاء الذي تدور فيه، بالتزامن مع لحظة استقلال الجنوب العربي ومدينة عدن بشكل أدق من الإستعمار البريطاني.
لحظات دقيقة تعكس القلق من واقعة ما بعد التحرير والإستقلال.فالتواهي(أو ستيمر بوينت كما أسماها البريطانيون) هي ميناء عدن الرئيس الذي سيشهد جلاء البريطانيين بعساكرهم والأسر والمدنيين والأجانب الذين جاءوا معهم من الميناء نفسه عبر سنوات الإحتلال التي امتدت من التاسع عشرمن فبراير1839  حتى الثلاثين من نوفمبر 1967
تبدو المهمة السردية صعبة في حال أراد الكاتب أن يرصد مفارقات لحظة الإستقلال وذهاب الجريان السردي في اتجاهين: استيعاب اللحظة  وصداها على المحتل والمواطنين، والعودة لتاريخ المدينة وغزاتها وسكانها وشواهدها المكانية.ويتهيأ لي أن مثلثاً سردياً تحكم في وقائع الرواية وهي: ماضي المدينة، وحاضرها ،ومستقبلها. وهو ما يعني بالضرورة فترة الإحتلال، فالتحرر، ثم التنبؤ بما ستكون عليه المدينة – والجنوب كله بالضرورة- بعد الإستقلال إحتكاماً إلى تحارب الإخوة الأعداء من الثوار، وانقسام المجتمع تبعاً لذلك.
لكن المهمة الأصعب في اعتقادي والتي تفوّق فيها أحمد زين بموازنة دقيقة وصبر،هي تناول التاريخي والموثَّق في العمل عبر شخصيات روائية لها مواقفها ووعيها وأبعادها الثقافية والإجتماعية.ويزيد تلك المهمة عسراً العودة لطبوغرافيا المدينة وتوزيعها الطبقي، وانتماءات أهلها ومواقفهم من الإستعمار ومع هؤلاء تأتي حمولة تقاليد وثقافة خاصة وطقوس واختلاط مصادر العيش وتنوعها إثنياً وطبقياً . وهو ما كان يمثله صفوة أو نخبة اختارها الكاتب بعناية.فضمت سمير الشاب المتأفف من الشعارات والقلق على مصير المدينة ، وهو الذي يخدم في قصر  التاجر الفرنسي العجوز الذي ارتبط وجوده بالمدينة من صلة تجارية .ونجيب المتحمس كأي ثوري يحلم ولا يوقف حلمه واقع مهدد بالتشظي.وسعاد الفتاة التي أحبها سمير دون أن تأخذ علاقته بها مداها الكامل بسبب انشغالها بالنخبة التي تحيط بها ،وبحثها عن تأكيد ذاتها كفتاة متحررة . وبين هؤلاء تمر شخصيات ثانوية لا تسهم في تعميق وجهة نظر السارد المتنوع الموقع، بل تضيف تفصيلات حرص أحمد زين على إثباتها لتغدو الرواية ذات طابع توثيقي زمنياً ومكانياً . ومن هذه الشخصيات مثلاً شخصية قاسم الذي يبدأ حياته بأعمال مريبة لدى العسكريين الأجانب حيث يجلب لهم النساء، ثم يقع في كمين محبة إحداهن التي تختفي فجأة، فيبحث عنها دون جدوى، فيما ينصرف لإدارة مقهاه أو اللوكندة التي تقدم المنام أيضاً لزبائنها المشردين.
تطالعنا في الوهلة الأولى شخصية سمير كعنصر التبئير الممكن لجريان الاحداث وبثّ وجهات نظر الكاتب المنحاز للتغيير بوصفه الشاب مقابل العجوز الفرنسي الذي يرى في لحظة الإستقلال وقرب مغادرة عدن ضرباً من هزائم وخيبات يتبادلها كنظرات عبر مرآة يرصده من الشاب من خلالها. ويغدو تقابلهما العدواني المضمر أقرب للصراحة في لحظة الإستقلال، وخوف الفرنسي العجوز من هجوم الثوار على بيته قبل مغادرته عدن بالطريق التي جاء منها: سفينة متعجلة تنقل الأجانب والأُسر من ستيمر بوينت التي كأنها شاهد مكاني على عنف الأحداث وتقلباتها.
وباستخدام المرآة وسيلة عاكسة لمشاعر الشخصيتين يكسب السرد فرصة رصد ما يخفي الرجلان في أعماقهما.الفرنسي المتعالي بتقاليد بورجوازية درج عليها وجعلته يرتاب بالعدنيين أو سكان عدن حتى من المهاجرين إليها مثل الشاب الذي يواجهه عبر  المرآة وتتقابل نظراتهما وتداعياتهما.
عدن كمدينة بحرية تتأرجح بين جبال بركانية جافة وصلدة تخيلها الشاعر رامبو وكأنها الجحيم الموعود ، وباستلقائها عند ذراع خليجها المتلاطم الموج والممتد بلا ساحل، ومنظر السفن ذاهبة وآيبة بالحمولات التجارية والبشر،  تمنح الكاتب إضافة إلى جوها شديد الحرارة والرطوبة والروائح المختلطة المنبعثة من السمك والعطور الشعبية ونباتات الفل والكاذي والفوفل فسحة كافية للوصف الذي تقاسم مع الأحداث والوقائع مساحة السرد. بل كان الوصف أشد حضوراً في كثير من الفصول.
تقسمت الرواية على اثنين و عشرين فصلاً قصيراً مرقماً.فيما كان ثمة فصل إفتتاحي غير مرقم، وآخر ختامي بلا رقم أيضاً، فكـأنهما قوسان ينفتح أحدهما وينغلق الآخر، يحيطان بالحكاية التي لا تنتهي ،كما أنها لا تبدأ بشكل تقليدي.
اللحظة الزمنية  في السرد متوقفة لاتنمو  خطيّأً ،فكل شيء واضح: المحتل وأتباعه بانتظار الرحيل ،والفدائيون في طرقات المدينة بانتظار الإنقضاض على أسلاب المحتل الذي طردوه من عدن، والمستقبل مشوش وغير مرئي  ينتظر أيضاً ولكن بعد قوس الرواية الأخير، وعبر هواجس سمير ومخاوفه. تتراجع  الأحداث ولا تحضر إلا عبر التداعيات والإسترجاع الذي ينقله السارد الخارجي في فترات الصمت أو التوقف عن الجريان الحدثي.هنا تكون فرصة القارئ أيضاً ليلتقط مرائي المدينة وتفاصيل ثقافتها في الملبس والطعام واليوميات العابرة، وعادات أهلها وطرق عيشهم. ولكن الأجزاء الأهم هي تلك المتصلة بتاريخ المدينة، وما مر بها من أحداث ليس الإحتلال الذي دشنه الضابط البريطاني  هيس إلا واحداً منها ،سيكتب لعدن هوية ميلاد أخرى غير ما عرفته من بساطة أيام حكم السلاطين.
سيكون سمير هو الشاهد على تحول المدينة وبداية حكم الثوريين الذين ستعصف بهم الخلافات.واختيار سمير كنقطة تبئير للرواية وتعميق وجهة النظر تحمل أكثر من دلالة تلخصها تساؤلاته في سطور الرواية الأخيرة(كم طريق تؤدي إلى عدن؟تساءل في نفسه، طريق قوافل البخورفي الأزمنة السحيقة، أم مسالك الغزاة منذ الرومان إلى الكابتن هينس إلى…؟) وبهذا ينقل الكاتب مركزية ما جرى في الرواية إلى حاضر المدينة وما عصف بها من حروب لاحقة وتحولات وإخفاقات.
تلعب المرآة في الرواية دوراً رمزياً يتقابل عبرها التاجر الفرنسي والشاب، لكنها إذ تنتهي الرواية تتحطم، ويرى سمير كِسَراً من وجهه على شظاياها.كأنه بذلك يفتقد ضده الذي رأى من خلاله لحظة التحرير،وسجَّل ضراوة الإحتلال وإذلاله .
كثير من الشخصيات ستمر دون أن تأخذ حقها من التتابع السردي.ومثالها السيدة الإنجليزية(آيريس) التي تظل علاقتها بسمير متوقفة عند الإشتهاء المنفرد والتوجس وهي التي مر على جسدها حكام وعشاق وعسكريون وقتلة ، منذ غادر زوجها الضابط إلى الهند وانقطع عن التواصل معها.
وللقاءات الصفوة العدنية المثقفة حضور في الرواية، لكنه حضور ناقص لا يسهم في صنع نهايات السرد ،لأنه أصلاً لم يسهم في صنع أحداث الثورة التي تخلى عنها الثوار، وانصرفوا لهمومهم الحزبية والوظيفية. كما لو أن جلسات سمير ونجيب وسعاد تصغير دلالي بليغ لما سيحدث ، فقد تقاطعت آراؤهم ،وتباينت بحدة لاتدع شكاً بأن ما سيلي التحرير شيء مشوش ومجهول النتائج.
لكن ما يسجل لأحمد زين في (  ستيمر بوينت ) أنه صنع مدونة فريدة لعدن ترميزاً لليمن من خلالها، وقدم نموذجاً للرواية التي تعتمد التاريخ لكن دون تجاوز البشر الذين يصنعون أحداثه. كما أنه يدهش القارئ بهذه الإحاطة المذهلة بالمكان ومفرداته  ولعله درس المدينة وتمثَّل مرائيها ودقائق حياة سكانها ؛فلم يغفل عن اسم أو رسم أو مَعْلم أو تقليد: ثمة التمبل الممضوغ بلونه الدموي والأطعمة والحلوى والقات ، وهناك حانات ستيمر بوينت وفنادقها.كما ان هناك القادة والسياسيين ممن مر بعدن أو عاش فيها: رامبو وسعد زغلول وغاندي كمثال على استدعاء التاريخ لغرض سردي.
وأحسب أن عملاً كهذا  سيكون علامة على تاريخ المدينة وجغرافيتها وتقاليدها وكأنه معجم أو أطلس سردي، تكتنفه المتعة كما تسمه الوثيقة ،والشهادة على أدق مراحل حياة تلك المدينة العجيبة.