اختارني المنفى لاجئاً..حوار أجراه الشاعر محمد حربي-بوابة الأهرام

 

الناقد العراقي حاتم الصكر لـ”بوابة الأهرام”: اختارني المنفي الذي جئت إليه لاجئًا والوطن أحرق سفينة عودتي

30-4-2018 | 13:39

الناقد العراقي حاتم الصكر‎

“>

حوار – محمد حربي

– بسبب سؤال المغزى هجرت الشعر وصرت ناقدًا.

– على شعراء النثر ابتكار إيقاع جديد لها والتوقف عن الإقصائية تجاه الأنماط الشعرية الأخرى أكبر عيوب قصدية النثر استنساخ التجارب الرخوه وضعف الخيال في كثير من حالاتها.
– البياض هو علاقتي بجمهورية الخيال في الولايات المتحدة.
– لا أنكر معقولية مقولة جابر عصفور عن “زمن الرواية” لكنني أعترض على هيمنتها على المشهد الإبداعي.

يولد الإنسان شاعرًا لكن الواقع يجعله ناقدًا بالضرورة، فما الذي أغرى الناقد العراقي المعروف حاتم الصكر بمغادرة جنة الشعر إلى جحيم الأسئلة، بعد إصدار ثلاثة دواوين تفرغ الباحث المرموق للنقد الأدبي والدراسات النقدية في الفن التشكيلي، لتخسره القصيدة ويربح بانتقاله الشعراء، لاسيما من يكتبون ما اصطلح على تسميته ” قصيدة النثر “.
الدكتور الصكر صاحب كتب؛ “حلم الفراشة: الإيقاع الداخلي والخصائص النصية في قصيدةالنثر”، و”نقد الحداثة بواكير الخطاب النقدي العربي غيبوبة الذاكرة – دراسات في قصيدة الحداثة”، و”أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها”، وله ثلاثة تجارب شعرية منها بريد بغداد، والهبوط إلى برج القوي.
والدكتور الصكر واحد من النقاد الداعمين بشدة ل قصيدة النثر وله إسهام نقدي متميز في هذا المجال في الوقت الذي لا تزال هذه القصيدة في قفص الاتهام الشعري والموسيقى والإيقاعي من قبل شعراء ونقاد كبار في عالمنا العربي مع أن المشهد الشعري لدى الأجيال الجديدة ينحاز بشكل كاسح لهذا النمط من القصائد التي تخلت عن الإيقاع الموسيقي واكتفت بالشعرية الخالصة بعيدا عن قيود الإيقاع.
الانتقال أو التغريبة الأولى التي قام بها الشاعر حاتم الصكر بعد دواوينه الثلاثة؛ لم تكن تغريبته الوحيدة فالعراقيون غالبًا هم أبناء التغريبة العصرية.. بعد حروب مستمرة وعدوان مستمر هاجر الملايين من النخبة العراقية إلى المنافي التي اختاروها أحيانًا واختارتهم حينًا، فسافر الدكتور الصكر إلى اليمن حيث درس بالجامعات وكتب بالصحف. وهناك أصدر كتابًا مهمًا عن النسوية في الأدب ثم واصل تغريبته وسافر إلى الولايات المتحدة في العام الذي كانت أمريكا تعلن فيه العداء للعرب بعد أحداث سبتمبر، وكأنه هاجر من الطوفان إلى البركان.
الصكر زار القاهرة مؤخرًا وقدم محاضرة في منتدى عفيفي مطر حول مسيرته الشعرية والنقدية، وفي هذه المحاضرة طالب شعراء قصيدة النثر بأمرين؛ الأول؛ المرونة الجمالية في قبول الآخر أو قبول القصيدة الأخرى، والتنويع في استخدام كل الموروث الشعري. أما الأمر الثاني؛ فكان البحث عن إيقاع خاص بهذه القصيدة، وذلك بالانفتاح على كل التجارب العالمية.
حول مسيرة الصكر شعريا ونقديا كان هذا الحوار..
عن الشاعر إذ يغريه المنطق بالابتعاد
*قلت في حوار قديم إنك بعد إصدار ثلاثة دواوين أغراك المغزى بالابتعاد عن الشعر، فقد صار سؤال المنطق مسيطرا عليك. دعني أسألك: هل تقصد أن القصيدة ضد المغزى، وأليس للشعر مغزى، وهل مات المعنى مع موت الأغراض الشعرية القديمة، أم أنك تقصد العقلانية في الطرح الذي يستقيم مع النقد؟
أسئلة الشعر تتشكل بالضد من أسئلة قراءته أو الكتابة عنه. هما خطان لا يلتقيان في ظني. التنظي روالثقل المفاهيمي يفسدان لعبة الكتابة الشعرية. لا أقصد هنا التفكير. الفكر في الشعر يتشكل فنياً ويتخذ هيئة ثقافية ضرورية، يسبب فقدانها وغيابها شحوب كثير من نصوص اليوم، وفقر دمها الشعري.
لكن ثمة ما يحدّ من عفوية الكتابة اللازمة لانطلاق شرارة القصيدة ووهجها الأول. تردد بين القبول والرفض. لا يعني ذلك أية رومانسية فجة أو ميوعة عاطفية، ولا المراهنة على الموهبة الشعرية فحسب. ولكن تدفق الشعر كالنهر لا يجب أن تحده موانع.
في لحظة ما أسلمت نفسي لسؤال الكتابة (عن) الشعر، فصرت كمن يكتب ميتا -نصاً متعالياً فوق اشتراطات القصيدة في حينها- السبعينيات تحديداً، كوني أجيّل نفسي ستينياً احتكاماً للمناخ الشعري والثقافة والنشأة والتكوين. هذا الإنقطاع حسبته تكتيكياً، أو فترة استراحة، أو سياحة خارج النصوص الشعرية. لكن ذلك أخذني تماماً في سلسلة قراءات نظرية وتأملات في قضايا الشعر المحاذية للكتابة. بالمناسبة لم أشعر أني ابتعدت كثيراً عن ذلك العالم الذي تهبه القصيدة. لم أبحربعيداً. في ظني أني عشت على ضفافه. كان ما أكتبه (شعراً) بمعنى تلبيته لاشتراطات النوع ومهيمناته الجمالية. فيما كنت أبحث في ( القصيدة) ومتطلباتها وهي تحاول الانفلات لتكريس ذاتها بعيدا عن تراكمات الشعر وأنواعه الممكنة.
استفدت كثيراً من تفريق أكتافيو باث لاحقاً بين القصيدة والشعر لتبرير مطلبي هذا. شغلتني المقارنة بين كمية الشعر في القصيدة والانحراف الذي تقدمه القصيدة لتعديل منظور الشعر المتكون من تراكمات النوع نفسه. الشعر يؤكد تقاليده عبر التجارب، والقصيدة تنحو للتغيير. هكذا أفهم أثر قصائد معينة في ظهور مناخات شعرية جديدة: أنشودة المطر بالعربية مثلاً ، والأرض الخراب والرجال الجوف في الشعر الغربي.
فقط بودّي إزالة التباس أو فرضية قراءة جاء بها السؤال. لم أتحدث عن مغزى بل عن رؤية . المغزى نسقي، يمر في لحظة قراءة، والرؤية سياقية تؤطر الخطاب الشعري .
يمكن أن أعد ملاحقتي للرؤى لا المغزى هو الذي نقلني، كما تحمل الموجة مخلوقاً لترميه على الشطآن .
*ألا يعاودك الحنين لهجر ذلك المغزى العقلاني ولو مرة لاحتساء خمر القصيدة أم تخشى على قصيدتك القديمة من أدوات الناقد الذي يعمل ببرود ومنطق؟ وماذا تفعل في هذا الحنين الذي لا يمكن لشاعر قدم ٣ دواوين أن يترك جذوة تحت الرماد إلى مالا نهايه؟
كثيراً ما تتخفى القصيدة وراء الخطاب النقدي. تظهر في نقطة اختيار المقاربة أو الممارسة النقدية في تلقي النصوص، والاحتكاك بها. ثم يشتد حضورها في لغة النقد عندي وملمحها الأدبي. كما تبرز في الإجراءات بدءاً من اختياري لعناوين دراساتي وكتبي. الأصدقاء والزملاء يعدونني من المهتمين بابتكار عناوين شاعرية ، أو ذات دلالة تحف بالشعر. ترويض النص، مرايا نرسيس، انفجار الصمت، حلم الفراشة، البئر والعسل ، في غيبوبة الذكرى.. بل لقد نوقشت رسالة ماجستير في جامعة الموصل عن عناويني واستراتيجة العنونة لديَّ كجزء من اهتمامي بالعتبات النصية المهمة قدمتها الباحثة زهراء خالد الحديدي عام 2011.
ألجأ للقصيدة غالباً لما يشبه تسريب نصوص الأحلام بالاستعانة بخزين اللاشعور وفي مفاجآت تعدل وتغير وتجري نشاطاً سرديا، بعد نشر دواويني الأربعة – إذا أضفنا ديواني المنشور إلكترونيا: الهبوط إلى برج القوس- صارت صلتي بالقصيدة موسمية وبعبارة عاطفية أصبحتْ عِشْقية لا تقوم على مراسم تقليدية وعلاقات مقننة. علاقة فيها نزق ونشوة وندم ونكوص لماض، واسترجاعات لكِسَرٍ منه لا تنطفئ في موقد الذاكرة. هكذا يجرفني الشعر كما ترى وأستعير استعاراته ومجازاته!

**عن الشاعر إذ يختار منفاه
*يفر العراقيون غالبا إلى استراليا أو دول أوروبا، ولا أدري السبب، ولكنك اخترت منفى بعيدا هو الولايات المتحدة التي احتلت العراق، هل هو التماهي مع القاتل لفهم وحشيته أم أنها الظروف الخاصة فقط؟ لماذا سافرت إلى أمريكا والربيع العربي يشتعل؟
لم أختر منفاي أو مهجري أو (منتبذي) كما أحب تسميته هو الذي اختارني في الحق. جئته لاجئا، لاخيار لي في توطيني. فوقع سهمي في هذا المرمى دون اختيار. أتذكر أوديسيوس – عوليس كما يترجمه اللسان العربي- مخاطباً المدن والجزر في رحلته الطويلة لإيثاكا: لقد ألقت بنا السفن مُجبرين على شواطئك! لم يتبق من المنافي المهيأة للجوء عام 2011 إلا هذا المنتبذ. لقد أُتخمت الأماكن الأخرى بالبشر الفارّين- كما يصفهم السؤال بدقة.
الوطن أحرق سفن عودتنا إليه. شظاياه مازالت في القلب والضمير. سلب مني أوسط أولادي حيث خُطف على الهوية من جند الإسلام (المجاهدين) لإخوانهم لا للمحتل، وغيبوه منذ خريف 2006 حتى اللحظة. حملتُ صغاره وخالفت قناعتي لأول مرة، فغادرت بهم إلى البعيد بمنأى عن جراحهم وذاكرتهم المنهكة كونهم شهدوا صغاراً فعل تغييبه. لذلك لم تكن حياتي هنا في المركز. اخترت الهامش، وانزويت أمارس ما كنت عليه وأنا في الوطن، ثم في اليمن حيث عملت ستة عشر عاماً. في ذلك المطْهر اليماني قبل الجحيم عشتُ بما لايقل شرطاً إنسانياً وحفاوة عن الوطن في إلفة وحيوية. ثم جاءت الواقعة التي قذفتني إلى أقاصي الأرض.
*كيف تعيش هذا المنفى، وبأي طريقة يعيش هو فيك ومعك؟
في إحدى تأملات رولان بارت أو كتاباته العشقية يتحدث عن برج إيفل وضوئه الذي تراه حيثما كنت في باريس. تكرار مزعج لمن يعتاده يوميا. ولتفادي ذلك يقترح بارت أن تكون داخل برج إيفل لتتخلص من رؤيته المتعبة. وهذا ماحصل.
توقفت أمريكا الفكرة والرواية والفيلم والمدنية من الذاكرة وأنا داخلها، وصار البياض هو العلاقة.. تسمي الإيرانية المهاجرة (آذر نفيسي) ذلك بالدخول في (جمهورية الخيال) تلك التي تقابل جمهورية افتراضية أو يوتوبيا تعيشها قبل أن تصلها.
يومياتي بسيطة تتمثل المكان الذي هو بالمناسبة جنوبي كي لا تتعمق الصدمة! صلتي بمراكز الفنون والثقافات البصرية جيدة حيث الصورة هي اللغة. والمطبوعات التشكيلية الغزيرة والمعارض.
الشعر ليس في أحسن حالاته. قدمت أمريكا بوب ديلان عام 2016 كشاعر عبر نوبل مع أنه في سيرته المدوَّنة (مغنٍ ومؤلف أغنيات). هذا يعطي فكرة وصورة مصغرة عن الشعر اليوم في هذه البلاد. مابعد الحداثة جعلته متاحاً. أطلع من حين لآخر على أعداد من مجلة (poetry) الشهيرة والعريقة – الذاكرة ترشحها أيضاً فلا أعثر على الكثير. والصحافة تنسى ماهو شعري بل تتحول إلى ثقافة أزياء وطعام وسينما فقط. لذا ظلت ظلت بصرية كما قلت: المعارض والسينما، وتأمل ما حولي مشاركاً المغتربين من شتى الأجيال رأيهم في ثقافة الأميركي المعاصر، ومحدوية أفقه، وانعزال الثقافة الأدبية في محاجر أو معتزلات لا تقربها المدرسة ولا الصحافة ولا الجمهور.
**عن الناقد إذ يستسلم للقصيدة الجديدة
*بدأت تفعيليا، ثم صرت الآن من أهم النقاد العرب الذين يعلنون انحيازهم الواضح بشكل صريح وقوي ل قصيدة النثر ، دعني أتساءل لماذا لا تزال قصيدة النثر رغم كل هذه السنوات من الطرح الإبداعي عربيا قصيدة متهمة في نسبها .. في أبوتها؟
يمثل البحث عن نسب ل قصيدة النثر وصلة (دم) بالشعرية العربية الموروثة انعكاساً لثقافة قبَلية تضع للأفراد شجرة حياة تعيدهم لكي يطمئنوا على نسبهم إلى عراقة يفخرون بها. وقد وقع أدونيس في وهم النسب أيضاً، رغم أنه من أكثر مشايعي قصيدة النثر وعرّابيها منذ الولادة العربية الأولى. وقد راح يبحث ل قصيدة النثر عن جذور عربية وجدها في شطحات الصوفيين، وفي المواقف والمخاطبات للنفّري، ونصوص إشراقية للمتصوفة الإسلاميين.
لم يكن أحد يريد الإعتراف بأصل هذا الشكل الهجين والمختلط ؛ لأن ذلك يتعارض وثقافة النسب البدوية ومفهوم الأصالة.
الهجين أو الخنثى أو الصماء أوصاف ألصقها خصوم قصيدة النثر بها .لكن مناصريها شغلتهم ثنائية :قصيدة/نثر. وأزمة المصطلح ،وهو ما تبرأ منه مستخدموه الأوائل، وأشارت له الدراسات اللاحقة .
استمرار التهمة بنسب قصيدة النثر يأتي من كثافة الجسم الشعري العربي أولاً، ومن غرابة المزج الإصطلاحي بين: قصيدة و/نثر.فانخلق بسبب ذلك ما أسميته جدار التلقي او الحجاب الكثيف بينها ومتلقيها.
الشعرية العربية تفرز كماً هائلاً بالغ التنوع للقصيدة التقليدية المكرسة لمفهوم الإيقاع واقتصاره على الوزن والقافية .تصبح ذخيرة القارئ باصطلاح نقاد جماليات التلقي ذخيرة قوية مستحكمة خلف هذا الميراث.ما يسبب تعطيل مشروع التحديث في حلقته الأخيرة.ولا ننسى هنا الفهم السيء للنثر في القصيدة وهو أحد جنايات أو أوهام كتابها عليها.
*هل المصطلح دقيق أم أنه من أخطاء الماضي القريب، كما قلت في محاضرتك الأخيرة بالقاهرة، أن القصيدة الحالية هي قصيدة حرة؟
لا أجد مع سواي أن المصطلح دقيق. حاول أدونيس أن يصحح ذلك مقترحا : كتابة الشعر نثراً كأحد المقترحات التي لم تلق نجاحاً.سوزان برنار وكل من كتب بعدها أشاروا إلى مفارقة التسمية وتناقضها.ولكن ذلك شاع واستقر حتى صار وفق علم المصطلح يفي بالغرص المفاهيمي.
اما وصفها بالقصيدة الحرة فهو لا يستدعي ذاكرة المصطلح الإنجلو سكسوني حول القصيدة الحرة – والت ويتمان مثلا، وعربيا جبرا إبراهيم جبرا والماغوط مثلا-.إنه يعني حريتها في الصلة بالأنواع الأخرى: صوراً وإيقاعاً ولغة،وانفتاحها على الأشكال النوغية المجاورة كالسرد والمسرح.

*ماذا تعني بقصيدة الشعر الحر، وهل هي ترجمة دقيقة لما تقوله القصيدة علي الأرض أم أننا نعود إلى مصطلح غربي ونقيس عليه؟
اعترض كثيرون على مصطلح نازك الملائكة في تعيين قصيدة الرواد الأولى (الشعر الحر) لكون ذلك يعني استعارة مصطلح يدل في الغرب على نوع آخر متحررمن التفعيلة والقوافي .وقد أحياه عربياً أمين الريحاني وتابعه مقلدون كثر.لذا فأنا أستخدمه للوصف حين أتحدث عن تجارب السياب والبياتي ونازك ومن تلاهم وكذلك صلاح عبدالصبور وحجازي وعفيفي ومن تلاهم ،وسواهم من كتاب قصيدة الوزن الحر في البلاد العربية..مع قناعتي بصواب تشخيص جبرا لشعره وتوفيق صايغ والماغوط بكونه يقابل الشعر الحر بالمصطلح والمفهوم الغربيين.
في اللحظة الشعرية الراهنة لا أرى للشعر الحر بالمعنى الغربي ضرورة ،فقد التهمته الإنطباعات الإنشائية والإسترسال النثري تقليداً لجبران خاصة ،وهو ما لم يعد له مكان في الشعرية المعاصرة.
*لماذا انتشرت قصيدة النثر أو القصيدة الجديدة بهذا الشكل الواسع في السنوات العشر الاخيرة؟ هل لعبت التكنولوجيا وخاصة الفيس بوك دورا كبيرا في هذا الذيوع ل قصيدة النثر ؟
لن أكون منحازاً بروح نقابية للنقد حين أقرر هنا أن دور الكتابات النقدية المتصلة ب قصيدة النثر أو الحداثة عموماً ، هي من بين أهم ما عمل على ترسيخ حضور قصيدة النثر ، ودخولها السلس في المدرسة العربية والصحافة والثقافة ..وهو ما يجحده بعض الشعراء للأسف.فيهينون النقد كممارسة حضارية وتربوية وجمالية، والنقاد كقراء خاصّين للنص.ويجترون للهجاء ما قاله بانفعال شاعر متمرد كمايكوفيسكي عن النقاد!!
تراكم التجارب وتسريع تيار التحديث بفعل الترجمة والوسائط الإتصالية مؤخراً جعلت قصيدة الثر منتشرة بهذا الشكل الواسع كما يقول السؤال.كذلك لابد لنا من الإشارة إلى السياق الثقافي المتكون من ردات الفعل على التقليد والهفو للتحديث في الحياة العربية، والجرأة على المسلمات والتابوات.
*يقول الكثيرون إن قصيدة النثر صارت شغلة من لا موهبة له، كيف ترد وأنت تعمل محاميا مدافعا عن حق هذه القصيدة في الذيوع؟
تاريخ الشعرية العربية الحديثة يرينا نماذج لاستسهال الكتابة حتى بالطريقة التقليدية. وكل جديد يأتي عادة كالموجة بالثمين والغث.أضف لهذا أن انفتاح قصيدة النثر على الكتابة غير الملتزمة بالبحور الشعرية ومعرفتها ونظامها، كانت سبباً في الفهم السيء للنثر في قصيدة النثر .إنه في الحقيقة كما يلاحظ جاكوبسون جلب للنثر إلى المركز الشعري.فيما يقوم البعض بجلب الشعر إلى المركز النثري، فتظل الهوية النثرية غالبة إيقاعا ً ولغة .في البدايات شاع تصور سهولة قصيدة النثر ونماذجها الرديئة.لكن الكتابة المعاصرة أعطتنا نماذج صار من الصعب النسج على منوالها وادعاء الإنتماء لها.
*وكيف ترى مثالب تلك القصيدة فيما تتابعه عربيا؟
إذا تجاوزنا تهم خصومها ، سنجد أن دعاتها لهم مآخذ عليها.هي أوهام تأتي بسبب سوء قراءتها أولاً، فتنتقل تلك التصورات إلى كتابتها. تداولياً نجد أن قصيدة النثر تعاني من تشابهات بل تماثلات تطابقية أحياناً في الكتابة.تشيع كالموضة وتستنسخها المحاولات الرخوة أو الكسولة محدودة الخيال، هذا من أكثر (مثالبها) ضرراً لأنه يقترح تقليدية جديدة
في اعتقادي، ورتابة شكونا منها في قراءتنا لنصوص الأشكال الشعرية السابقة عليها.
وثمة خطر أو ضرر آخر يتمثل في عدم فهم السرد في قصيدة النثر بشكل إيقاعي ولغوي سليمين.ما أدى إلى تراكم مظاهر السرد فيها، وتحولها إلى نصوص قصصية مكثفة.
*يمارس شعراء النثر إقصاء جماليا ضد التفعيلة والعمود، هل انتهت كل إمكانات التفعيلة جماليا في الشعر؟
.من اشتراطات قصيدة النثر الجمالية والفنية التي صارت جزءا من شعريتها، وتلقيها
استبعاد آليات الموسيقى الشعرية القديمة، بدعاوى كثيرة يطول شرحها، تتلخص في تبدل الحساسية الشعرية ،والعثور على بدائل إيقاعية ،مهدت لها ترجمة الشعر مثلا ،ووصوله بلا وزن أو قافية..فلماذا تستضيف قصائد النثر ما يلزم قصيدة الوزن ولا يلزمها؟
أما الإمكانات الجمالية للتفعيلة فهي توافق إيقاع شعرائها الذين بالمناسبة يخففون إيقاعاتها لتذيب التناظر الموسيقي في البيت الشعري، وتمحو شخصية البحور لصالح مناخ القصيدة .هذا ما فعله درويش كثيرا في قصائده الأخيرة قبل رحيله.ويفعله سعدي يوسف وقلة من كتاب قصيدة الوزن.
*تدعو إلى مرونة تكتيكية لشعراء النثر بقبول التفعيلة في قصائدهم، هل هي دعوة لردة جمالية إيقاعية أم توسيع المجال لكتابة القصيدة النهائية التي تتسع لكل الفنون؟
يبدو أن ثمة خلطاً ما في تلك المرونة.ماقصدته هو إمكان كتابة شعراء النثر لقصائد التفعيلة تجسيداً لحرية الإختيار ومناسبة الشكل للتجربة. كما يفعل شعراء الوزن الحر حين يكتبون العمودأحياناً.ولكن ليس في قصيدة النثر ذاتها.الوزن في قصيدة النثر والتقفية كذلك يخرجانها عن طبيعتها الإيقاعية، ويخلقان تعارضاً في هويتها يعيق تلقيها.
المشترك بين مطر وانسي الحاج.

* في محاضرتك الأخيره بالقاهره تحدثت عن المشترك الشعري والجمالي بين شاعر تفعيلي سلفي الصور والرؤي هو محمد عفيفي مطر وشاعر حداثي الصور نثري الطريقه هو أنسي الحاج ولم استطع فهم تلك المشاركة جماليا كيف يمكن لقصيدة الامه والموسيقي ان تآتلف مع قصيدة الفردانيه والسردية الصغري ؟
ما عنيته هو احتفاؤهما معاً بالمهيمنة اللغوية في القصيدة.اللغة مفتاح قراءة الشاعرين. بل إن قصيدتهما تتمحور في لغتها ،وتتخذ مفرداتها مركزاً بؤرياً ينتشر على أطراف النص وجهاته.هذا ما أعتقده بالرجوع لشعرهما.، مع الخصوصية القاموسية لكل منهما بالطبع. وبتحفظي على وصف عفيفي بأنه سلفي الرؤى والصور، ربما كان سبب ذلك استدعاءه لذاكرة المفردة ،والرحيل بها إلى سياقات إنتاجها القديمة أحياناً ،لخلق مفارقة ما..إذ طالما قرأته بمقياس التحديث اللغوي في القصيدة، حد الخروج باللغة عن وظيفتها التواصلية ،والإشتغال على وظيفتها اللسانية الخاصة.
*أشرت إلى كتاب أنماط قصيدة النثر وقلت إن هناك قصيدة لكل شاعر. ماذا تقصد بهذا القول في الوقت الذي تدعو فيه القصيدة إلى ابتكار إيقاع خاص بها؟ وما هو هذا الإيقاع وكيف ل قصيدة النثر ابتكاره؟
كان ذلك لمناسبة ترجمة قدمها صديقي الشاعر محمد عيد إبراهيم لكتاب( مقدمة ل قصيدة النثر – أنماط ونماذج) .ومن حصيلة دراساته التي اختارها المحررون نكتشف أنها قصيدة واحدية .أي ذات مؤلف واحد يجد إيقاعاته ولغته وصوره.وليس بالإمكان تقنينها في قواعد عامة وقارّة ومطّردة.وهذا أحد أسرار صعوبتها.
كما دعوت ضمنياَ عبر هذه العتبة العنوانية( قصدة نثر لكل شاعر!) إلى الكف عن تقليد البعض والكتابة على منوالهم. قصيدة النثر كدٌّ جمالي وفني شخصي .وهذا سر عذوبتها وتنوع مناخاتها.
الإيقاع مسألة شائكة وهو يعز على الوصف والحد والتعريف، بحثتها مفصلاً في كتاب مبكر لي هو (ما لاتؤديه الصفة).
مستعيرا إجابة إسحاق الموصلي حين سُئل عن النغم فقال( إنَّ من الأشياءِ أشياءَ تحيط بها المعرفة ولا تؤديها الصفة).والإيقاع يُحَس ولا يُلمس.كالموسيقى ذاتها تأتينا في صور سمعية لا تُرى أو تتجسد كالكلمات، لكنها تبعث فينا أثرها. حاولت في كتابي الذي أعدت أغلب مباحثه في كتابي التالي بعد أعوام (حلم الفراشة -حول الإيقاع والإيقاع الداخلي) أن أحصي بعض ملامح الإيقاعات الممكنة من خلال النصوص .لكن مهمتي ظلت حدسية لا حصْرية، لا تقبل التطبيق نوعياً ومطلقاًعلى أفراد النصوص كلها.ومنها إيقاعات بديلة كإيقاع التوافق والتعارض أو التناققض، والتكرار ،والجملة الشعرية التصاعدية في بنائها الدلالي ..وسوى ذلك مما لامجال لبسطه هنا.
*هل نجحت قصيدة النثر في ترويض السرد القصصي في كتابة مشروعها الذي صار يتكئ على كل الفنون والطرائق أم أنها ردة فعل علي سيطرة الرواية على المشهد الإبداعي؟
وهذه إشكالية جمالية أخرى تتعلق بخصائص قصيدة النثر .فاستضافة السرد لتقوية الدلالة وتطويع اللغة داخل قصيدة النثر ، والإسترسال الصوري بلا محددات، والإستعانة بالتحيين الزماني والتعيين المكاني ،وبالشخصيات هي من لوازم السرد المكيَّفة لخدمة نثرية قصيدة النثر وشعريتها في آن واحد.وتتطلب ما تسميه في سؤالك ترويضاً كي يفقد النثر برودته وسرديته الخطّية وحبكته.ويغدو مادة شعرية قابلة لآحتواء طاقة الخيال الشعري وتوليد الصورة.
وأعتقد أنه قبل (سيطرة الرواية على المشهد) لجأ شعراء قصيدة النثر إلى تطعيم نصوصهم بالسرد، ولكن وفق اشتراطات القصيدة.

*نشأت قصيدة النثر عالميا ترجمة لواقع متغير في الولايات المتحدة على يد والت ويتمان، الذي رسم ملامح أمة تصنع نفسها بعيدا عن المركزية الأوروبية. ما هو الضغط الاجتماعي عربيا لشيوع قصيدة النثر وضعف مركزية العمود والإيقاع المنضبط؟
الضغط الإجتماعي عربياً ،والهفو للحرية والتغيير، وموجات التحديث القادمة للثقافة العربية كلها أثرت في تجربة كتابة قصيدة النثر . شيء من التكلس أصاب الجسم الشعري العربي .وكانت الحاجة ملحّة لحرية أبعد من مقترح الوارد..ولا ننسى الأثر الثقافي الذي جاء مع الترجمة وتحديث التعليم ووسائط الإتصال الجماهيرية.وأضيف هنا الحس بالخسران والفقد والفجيعة لدى جيل الشعراء الخمسينيين الذين أفاقوا على تبدلات لا تلبي طموحهم ،وتعمقت في هزائم الستتينيات ،وصعود الأنظمة القمعية ،وضعف وتائر الثقافة وهيمنة التقليد عليها..
زمن الرواية
*نقدت مقولة الدكتور جابر عصفور عن زمن الرواية، لكن لا يمكن إنكار ما في المقولة من مشروعية جمالية وتاريخ في السنوات العشرين الأخيرة. لماذا سادت الرواية وضعف الشعر؟ وهل لعبت السينما دورا في ذلك؟
لا أنكر معقولية بعض مبررات أطروحة الدكتور جابر عصفور حول مقولة زمن الرواية ومشروعيتها الفكرية .ولكن اعتراضي الأول كان حول الهيمنة التي تعني الإلغاء.إلغاء دور الشعر مثلاً في التثوير والتحفيز على التغيير .هذا يصادر ما قدمه الشعراء العرب المعاصرون لبلدانهم وشعوبهم.ويمس الشعر كفن وجماليات كتابة لا في راهنه فحسب.
ولا ننسى أن مقولة نجيب محفوظ ( الرواية ديوان العرب) هي رد فعل في حجاج مع العقاد الذي رأى ان الرواية فن الرعاع أو الجمهور العام .كما ان احتكام الدكتور جابر للمبيع من الإصدارات والشهرة والجوائز هي أسباب تداولية، لها مبرراتها و لكنها لا تلغي الحاجة للشعر في الراهن.
الشعر اليوم لا يقوى على تمثل واستيعاب اللحظة الحزينة الملآى بالخسارات ، فيما تحوّل الرواية ذلك لمشاهد ورؤى ملموسة يطلبها القراء.. وتمثيل الدكتور جابر للشعر بالبرق والرواية بالنهر يسلب الشعر أثره اللازمني الذي يجعلنا نقرا امرأ القيس وأبي تمام والمتنبي والمعري مثلاً حتى اليوم كما يقرأ العالم هوميروس وغوته وشكسبير وسواهم.
*هل نجحت قصيدة النثر والفيس بوك في إلغاء التمايزات القطرية في القصيدة بحيث نقرأ قصيدة عربية بحكم لغتها وقصيدة إنسانيه بحكم طروحاتها الفردية الأقرب للروح الإنسانية العامة؟ أم أن التمييز القطري والطائفي لا يمكن ل قصيدة النثر أن تلغيه؟
خدمت وسائط الإتصال ووسائله مشروع الحداثة في الأدب والفنن وصار مشروعاً ولافتاً الحديث عن أدب تفاعلي تحكمه مزايا تتصل بطرق بثه وتلقيه معا. ولإمكان تبادل التجارب وانتشار المؤثرات الفاعلة في التغير الثقافي والحساسيات لدى المبدعين والقراء.وقد توافقت تلك الوسائط لاسيما الشعبية منها كالفيس بوك وتويتر مع الميل للتكثيف والإختزال اللفظي والصوري والدلالي في القصيدة ،والتيارات الجديدة في الكتابة الشعرية ذات المرجعيات العالمية المشتركة.وأعتقد أن ما نقرأ من كتابة( تفاعلية )لها ما يبررها ويشجع على التنظير لها وهو ما يفعله زملاء نقاد انصرفوا لظاهرة الأادب التفاعلي وصلته بالتلقي حيث يتغير موقع المتلقي ويغدو على مقربة شديدة من النصوص وتداولها كما تتيحه له الوسائل الحديثة في التواصل.
*البعض يتحدث عن قصيدة الغرفة الضيقة ضد قصيدة الشارع التي سادت زمنا بسبب الفكر القومي. هل يمكن للقصيدة أن تتنكر للشارع؟ وهل يمكن للشاعر أن يحيا بعيدا عن تأثيرات الشارع؟
أدب العزلة أدب إنساني.والترميز له بالغرفة غير صحيح. حتى بين الجمع قد يرى المرء نفسه وحيداً.أو ما عبّر عنه سعدي يوسف باختصار بقوله ( أسير مع الجميع وخطوتي وحدي) . لايهمني هنا نجاحه أو فشله في استقلاليته وسط الإنتماء الإيديولوجي بقدر تأكيده على فكرة الواحد المتعدد بتعبر محمود درويش في وصفه لإدوارد سعيد.
الشارع ذاته لم يعد واحداً ولا المجتمع كتلة نتحدث عنها كما كان البنيويون التكوينيون يفعلون.تعددت الأمزجة والحساسيات وزوايا النظر والتلقي.ولهذا لم يعد للجدران قيمة فكرية او فنية ولا للجماهيرية من فضيلة لكاتب أو شاعر..
شخصياً تبهجني كل محاولة فنية أو جمالية لتحريك جسد القصيدة والبحث عن منافذ تعبيرية وشكلية جديدة.من هنا تحمست للقصيدة القصيرة والومضة الشعرية والشذرات والهايكو- رغم ما لديّ من ملاحظات-. أما (صلتها بالشارع )- فتهمني كيفيته الفنية لا محتواه التعاطفي او الوجداني وربما السطحي والمباشر، ما يناقض حداثة النصوص.

*قدمتَ طروحات عن معاناة القصيدة النسوية في اليمن. هل يمكن التعاطي نقديا مع الإبداع بحكم قضية الجندر السياسية والأيديولجية غالبا؟
. خلال وجودي في اليمن شاكست السائد من خلال كتابين عن هامشين واضحي النبذ في المجتمع والثقافة.هما قصيدة النثر في اليمن من خلال كتابي قصيدة النثر في اليمن-أجيال وأصوات-دراسة ومختارات.وهو أول كتاب بحدود علمي والأصدقاء حول قصيدة النثر اليمنية المقصاة في التقبل والمدرسة، بسبب تمترس المقلدين وضعف وتائر التجديد التي تعمل بكد وكفاح حقيقيين.والثاني عن كتابة المرأة التي لم تكن فاعلاً إجتماعياً مقبولاً ولا شريكاً معترفاً به في الهم الكتابي ،فنشرت دراستي ومختاراتي بعنوان(انفجار الصمت) وهي تطوير لدراسة كلفت بها من مركز نور ضمن موسوعة المرأة الكاتبة التي صدرت في القاهرة عام.
وقد وثقت شهادات لكاتبات وشاعرات يمنيات يتحدثن عن محددات ومعوقات جديرة بأن تنعكس في نصوصهن.ولا أفهم كيف يمكن حذف الثقل المضاف على المرأة الكاتبة إجتماعياً وثقافياً.لذا وجدتُ مزايا كثيرة تخص البوح والترميز والتخفي وراء الرموز في كتاباتهن.
المنفي والقصيدة
*٣ ملايين عراقي معظمهم من المبدعين والشعراء في المنافي كيف يؤثر ذلك على خارطة الإبداع العراقية؟
الشتات العراقي حالة فذة لم يسبق لها مثيل عبر التاريخ الحديث والمعاصر.منذ السبعينيات فرّ العراقيون من الكبت والقمع وحجب أبسط الحريات.وتوالى مسلسل الهجرة خلال وبعد الحرب العراقية الإيرانية وعبثيتها ،وماضاع في أتونها من أرواح وحيوات وأحلام.فر الكثيرون من العسكرة ومحرقة الحرب وبشاعتها.ثم جاء الحصارفي التسعينيات بعد غزو الكويت ليقضي على ما تبقى من حلم الحياة الكريمة ، فبدأت موجة.
أخرى لم تكن وراء هجرتها محرّكات سياسية.وأخيراً الغزو الأمريكي ،والفراغ الذي خلفته الدكتاتورية بعد رحيلها بلا بدائل .. والمحزن اأن الثقافة العراقية انجرفت وراء تقسيمات وهمية: أدب الخارج وثقافته، وأدب الداخل وثقافته.وعانينا من ذلك كثيراً بتبادل التهم وإقصاء الآخر من الجهتين.التغيير الذي جرى بعد 2003 ألغى تلك الفوارق وصار حضور الخارج في الداخل واضحاً ،وسقطت تهم العمالة للنظام وسواها من لائحة الخطاب الثقافي. كما أن أدباء الداخل زالت مخاوفهم، وتفاعلوا مع العالم الخارجي وأدب زملائهم في الخارج. صار الإصطفاف اليوم واسعاً لدرء التخلف والعودة لإنغلاق إجتماعي وفكري وهي قضية الجميع اليوم.
لا أرى الآن انقساماً حتى على سبيل الدراسة والبحث والتصنيف.لكن عليَّ أن أقر بحقيقة أن المغتربين في المنافي من مثقفي العراق لم يضف لهم المنفى زاداً ،وظلت أواصرهم ومرجعياتهم محلية ،ولذا سهل عليهم الأإندماج مجددا في ثقافة وطنهم.
*كيف يمكن للعراقيين إلغاء الطائفية سياسيا، هل بقصيدة توحدهم عبر اللغة، أم بمشروع ثقافي علماني يجعل الدين قضية فردية؟ وبأي طريقة يمكن للعلمانية أن تحفر لها طريقا في عالم تحكمه المعتقدات والأعراق؟
يحمل هذا السؤال إجابته، ويوفر الحديث القاسي والمؤلم. اللغة والثقافة هما من سيذيب الطوائف المتكتلة مصلحياً ولدوافع ماضوية تارة وسياسية مرحليةً أخرى.في حرب الدواعش مثلاً وفتنتهم الإرهابية نال الجميع من أديان العراق ومذاهبه وقومياته حصة من العنف والفناء والدمار. لكن النكبات وحدها لا تكفي للوحدة والسلم الأهلي المفقود والذي يغيّب فرص التقدم الإنساني والنمو الإجتماعي، والعودة للتمسك بديمقراطية ارتضاها العراقيون ،وتقاسموا مظاهرها كالانتخابات وحرية الرأي بعد التغيير،ولكن حوصر ذلك بالمحاصصة وتقسيم السلطات طائفيا للأسف..عملياً وعلى الأرض لم تتوقف الحياة العلمية والثقافية في أوج الإحتراب الطائفي والغزو السلفي المدجج بالسلاح والإستيلاء على المدن..ظلت الجامعات ومنابر النشر.وظل المشروع التحديثي بوتائر متقدمة يدل عليها ما نشر وما انعكس في الحراك الإعلامي الثقافي. المثقفون وحدهم لم يفتتهم المشروع الطائفي والعنف والإرهاب.وفشلُ المقترح الديني وأحزابه وتكتلاته سيضمن بقاء الروح المدنية والعلمانية ،والحاجة للعلم والتخطيط والحداثة.
*تفقد المركزية الكبرى دورها في زمن السرديات الصغرى. إلى أي مدى فقدت القاهرة وبغداد وبيروت أدوراها لصالح دول الأطراف، المغرب والخليج، في المشهدية الثقافية؟
هو من حصاد ما بعد الحداثة والتفكيك بصفة خاصة، والقناعة بانتهاء هيمنة المراكز الرمزية والواقعية! .ذلك جزء من مظاهر تبدل المراكز وصعود الهوامش.عالمياً دخل الأفارقة واللاتين وشعوب آسيوية بعيدة على خط الكتابة السردية مثلاً، ووصلت أعمالهم إلى قلاع نوبل وأخواتها.
عربياً كانت تلك أشبه بشائعة وأمثولة شعبوية: أن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.الأوصاف مختلطة الآن، والحدود لم تعد قائمة ثقافياً ،رغم وجودها سياسياً.
جغرافياً صار الحضور المغاربي منذ السبعينيات واضحاً.في الترجمة والنقد السردي والشعري والتشكيل ،والشعر- الذي ربما كان أضف الحلقات -وبالمقابل تجلى اثر المشارقة في الكتابة الشعرية خاصة وفي التشكيل الخليج لم يعد جزراً منعزلة بل جرى التفاعل مع خارجه ثقافياً وإعلامياً ،وجذبت بعض مراكزه أنشطة الكتاب العرب من جهات مختلفة والفنانين كذلك.
المشروع الثقافي عقد غير معلن تعمل على إنجازه أصوات من مختلف الجهات تباعدت أو تدانت يؤلف بينها الهم التحديثي..ولمسنا زوال المتون والمراكز وصعود ما هو مهمش ومقصى في الكتابة النسوية وكثافة حضورها في العقود الثلاثة الأخيرة، وصعود فنون وآداب هامشية كالسيرة الذاتية وأدب