حوار في كتاب الصديق الأستاذ أزراج عمر(نوافذ على الآخر-سجالات في الفكر والأدب).

نوافذ على الآخر-سجالات في الفكر والأدب

*صدر هذا الأسبوع عن دار نشر( اسكرايب) في القاهرة كتاب ( نوافذ على الآخر-سجالات في الفكر والأدب) للشاعر والكاتب الجزائري الأستاذ أزراج عمر. ويضم حوارات أجراها مع أدباء عرب وغربيين، وكذلك ترجمات لمقابلات مهمة مع كتّاب من العالم.
ويسرني أن أنشر جزءاً من الحوار المنشور في الكتاب. وقد أجراه معي أواخر عام 2022
1- تكتب الشعر والنقد معا، فكيف ترى العلاقة المتبادلة بينهما ، أي بين النظرية النقدية وبين الممارسة الشعرية ، وهل توافق الرأي القائل بأن الناقد هو شاعر فاشل أم أن تاريخ الأدب يثبت عكس ذلك وبخاصة إذا احتكمنا إلى نماذج كثيرة في مشهد الأدب الغربي ، وهنا نذكر ، مثلا ، الشعراء النقاد : ت. س. إليوت ، صموائيل طايلر كولريدج ، وفي مشهد الشعر الناطق بالعربية كأدونيس في مجمل تنظيراته للشعر والشابي في تنظيراته للخيال الشعري ، وهلم جرا.
في هذا الخصوص أريد أن أتساءل معك حول مكانة الفكر في الشعر.
***
– سأبدأ من مقولة أن الناقد شاعر فاشل.وهي ، إذا شئنا ملاحقة تاريخ شيوعها ، تعود إلىى فترة هيمنة أحكام القيمة على الممارسة النقدية.وتحول النقد إلى واصف للنيات والمقاصد، وما يسبق النصوص من معلومات، قد لا تكون ذات أثر في الملفوظ نفسه. ثم التنظير على وفق ذلك التصور . .وإشاعة ثوابت لا تصمد للتحليل ؛ كالقول بأن الناقد شاعر -أو أديب- فاشل. وتقابلها – بالمناسبة- نزعة مضادة تقع في الحكم المجاني نفسه ، تقول إن الشاعر ناقد فاشل!
بجانب ما ذكرته في سؤالك من أمثلة ، نجد عربياً أن نازك الملائكة قدمت نموذجاً لم يُكتب له التطوير للأسف، لأسباب ذاتية تتصل بتراجعاتها عن فرضيات التجديد التي أسهمت هي ذاتها في إشاعتها وتكريسها ،حول حرية الشعر وضرر القافية في النظم التقليدي( العمودي) ، ولغة الشعر الجديد وقاموسه . كانت نازك بالعكس ناقدة في مد التجديد ،ودورها فيه بشعرها الأول المتجاوز للتقليد وإن بحدود ،لكنها نكصت لاحقاً إلى النماذج التقليدية في النظم .
كان كتابها(قضايا الشعر المعاصر) من أوائل الكتب التي قرأت جذور التجديد والمؤثرات الفاعلة في فكر المجددين ونصوصهم.وعبر تجاربها هي أيضاً.فكانت تقرأ ذاتها في طريقها لتكريس قواعد نظرية للشعر الذي اقترحت تسميته خطأً بالشعر الحر.وهو الجديد أو المتحرر جزئياً من تقاليد القصيدة الوزنية الموروثة.
ويمكن أن يكون أدونيس مثالاً أكثر وضوحاً لشاعر مكرّس ومتجدد ومثقف حيوي ، لكنه يكتب دراسات نقدية لها أهيمتها النظرية والتطبيقية -حتى في حال اختلافنا مع توصلاته وبعض أحكامه- .كمقدماته لديوان الشعر العربي، ودراساته في الشعرية العربية وسواهما.
ولما كان سؤالكَ يشجع على ذكر التجربة الشخصية، فأقول لك بصدق إنني ربما أخطأت في الانصراف الكلي للكتابة النقدية، دون مواصلة تجربتي الشعرية .ولم يكن من موانع نظرية تحول دون كتابتي القصيدة الحديثة، إلا إحساسي بأن الجهاز النظري، وشدة التساؤل حول الكتابة ذاتها، قد انسل إلى لا وعيي ،ليجعلني كشاعر جزءاً من تلك البنية التي أبحث فيها ، وأسجل ملاحظاتي عليها. ومع ذلك أعلل نفسي أحياناً بأني احتفظت بلغة ذات بُعد شعري، يرصده الزملاء والقراء . فورثتُ ذلك من تجربتى الشعرية، وما نشرتُ من دواوين ، لها طابع التفاعل مع ما كان يشغل جيلي من قضايا، وما يشتغل عليه من أعمال.وانسلَّ ذلك إلى ذائقتي الجمالية ،وربما لقناعاتي النقدية ، فصرت مثلاً أنافح مدافعاً عن أدبية النقد ، وعن جماليات النصوص، وما تقدم من أخيلة ورؤى أجد أنها ضرورية للإنسان وسط موجات الرقمنة الباردة الحس، والاتجاه للعالم الافتراضي المقصي للعامل العاطفي والشعري، وحميمية العلاقات ،لابين بين البشر حسب، بل للعلاقة مع الفنون والآداب والفكر أيضاً.. والقضاء على رمزيته بدحر وجود الكتاب الورقي مثلاً.والذي أراه سيصمد أمام محاولة إحلال الكتاب الرقمي أو الصوتي بديلا له.
وما دمتَ قد سقتَ إليوت مثالاً فريداً للشاعر الناقد، أو الناقد الشاعر من وجهة نظر مقابلة ، فإنني أسترجع قولاً له حول االممارسة النقدية للشعراء التي ستظل مشروطة بما يسميه ( التوقف عن التعرف على أنفسنا من خلال الشاعر الذي نقرؤه…. فنصبح على وعي بما يستطيع الشاعر أن يمنحه وما لا يستطيع أن يمنحه إذ يصبح.. للقصيدة وجود خارج أنفسنا)).
ولابد لي كي لا أطيل أن أحيل إلى ما يؤكد أن الاعتقاد بأن الناقد شاعر فاشل احتكاماً إلى بدايات كتابته هو حكم قيمي على كتابته، هذه الإحالة تتصل بما عرف في كتب النقد القديم بمضايق الشعر، وأنه لا يعرفه إلا من دُفع إليها.في رواية لابن رشيق في (العمدة)، حيث نسب القول إلى البحتري في أحد المجالس.وردّ أصله في رواية أخرى إلي أبي نؤاس.والمسألة أساسها الخلاف بين الشعراء المحدثين، والنحاة والرواة التقليديين.
فالزعم بأنه لايعرف الشعر إلا من دفع إلى مضايقه.قد يُفهم أن المقصود به من يتمثل حالة الكتابة والصلة بالفن ذاته.وبذا يشمل ذلك القول كلاً من الشاعر وقرائه ومنهم النقاد.
أما شِق سؤالك الأخير فهو يثير إشكاية ذات أهمية في الخطاب الأدبي عامة،والشعري خاصة .فالفكر في الشعر لم يأخذ ما يكفي من الدرس.وتواترت عليه روايات وتقولات. وصلت إلى أحكام قارّة.كالقول إن أبا تمام والمتنبي حكيمان ،والشاعر البحتري. لأنهما يضمّنان الفكر في شعرهما.ونذكّر هنا بتجربة المعري في اللزوميات: الحيرة والسؤال وحشد الأفكار التي تعلو أحياناً على الفن ذاته.
أما الضيق من الفكرغربياً، فقد كان بسبب الهيمنة الرومانسية على الشعرية الغربية في مرحلة محددة. لكنني أرد الأمر إلى الاعتراض الديني على السؤال، والفكر بالضرورة ، لأن الفكر الديني كما هو معروف، يقدم قناعات وإجابات جاهزة.فلا ينشط فكره في الشعر وخارجه. فيما يثير الشعر والنص الأدبي عامة إشكالات وأسئلة مقلقة حول الوجود والكينونة والمصير، والحياة والموت وسواها من المسائل الكبرى التي لا يصح أن تظل حكراً للتنظير المجرد في الخطاب الفلسفي. ونردُّ تعثر وجود الفكر مركزاً في الشعر العربي إلى هيمنة الغنائية عليه.وتفتت خطابه في نصوص مصنفة في أغراض شعرية، وضع لها اللغويون والنقاد تقاليد وشروطاً ومستلزماتٍ لا تسمح بإضافات أو اقتراضات فكرية.
يمكن للقصيدة أن تحمل الفكر عبر ترميزه واندراجه في إشارات .ننستذكر هنا تجربة خليل حاوي ، والانهماك بعرض فكره الوجودي، والانقلاب على الإرث والروح السلبية. وتجارب أدونيس سواء في اختياراته ،وكشفه لحنين وجودي وتأملي في الشعر القديم، أو في كتاباته الشعرية ذاتها والمتمثلة لأكثر من مرتكز فكري يتفتت منبثاً في متن النص.واستعادة تجارب الكشف والحلول والتأمل في الأدبيات الصوفية .وأحسب أن قصيدة النثر بانفتاح أفقها البنائي ومزاياهاالفنية، أقدر على استيعاب السؤال والهم الفكري.وليس تسطيحه في ( تساؤلات)لارابطَ
بينها.كما فعل إيليا أبو ماضي في (الطلاسم).وتساؤلات الشابي المبسطة.
إن التخوف الفني وارد في الإشكالية.فالجماليون يخشون من إثقال النصوص بالمحمول الفكري والأسئلة الوجودية -إذا لم يتم تمثله فنياً -، ما يحيل النص إلى عروض معرفية، وحدوس وأفكار مجردة، لا تستقيم للفن الشعري ولا لبنيته وتركيبه.وفي تجارب بعض الشعراء الكلاسيكيين ما يؤيد ذلك ؛كشعر الزهاوي ذي الطابع العلمي والمشحون بالفكر المجرد، في نظم متواضع لا رواء فيه.
2 – لاحظت أنك تتحدث كثيرا عن الحداثة والحداثية ، فماذا تعني بالحداثية وبالحداثة ؟ ثم كيف يكون الشاعر حداثيا ، أي ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفر في قصيدة الشاعر الحداثي ؟
– شخصياً أميل لاستخدام ترجمة ( MODIRINTY ) بالعصرية .و(Modernism)) بالحداثة.وأفرق بين العصرية والمعاصرة، وفعل التحديث بالضرورة. فليس كل ما يُكتب في فضاء عصرنا ينال صفة العصرية، كعملية تفاعل مع مقترحات حداثية ،في مقدمتها القطيعة المعرفية الضرورية مع السائد، والبحث عن حلول جديدة لمشكلات الشكل ،وخاصة في التجريب الذي أعده أساس قياس الحداثة بتصورات روادها ،وفي مقدمتهم المدافع العنيد عن الحداثة، والمؤمن باستمرار تقاليدها وحيويتها ،أعني يورغن هابرماس الذي يرى إمكان استمرار مشروع الحداثة، وعدم الالتفات إلى مقولات مابعد الحداثة ،وقول أتباعها بانتهاء صلاحية الحداثة ،كممارسة ومشروع ومقترح فكري وجمالي.
يكون الشاعر حداثياً في ظني ،بالنظر للتقاليد الفنية الموروثة و المكرّسة بكونها مجرد احتمالات وقناعات لا يجب تقديسها، فضلاً عن استنساخها. .مع ملاحظة أن الحداثة لا تتنكر لما يعرف بالأعمال الكبرى أو العليا، بل تدع تقاليدها لسياقها الذي أُنتجت فيه.ولا ترى ضرورة لتقديس التقاليد الجمالية الموروثة.وتتمسك بالفن هدفاً للكتابة الشعرية.وبالذاتية في الكتابة كمؤشر على إنسانيتها.وهو ما يعيدنا إلى هابرماس ثانية، واعتقاده بدور الذات المهم في ما يسميه((تأسيس الأشكال الضرورية التي ستتطور فيها الثقافة الحديثة)).وبذا يتقاطع مع ليوتار ومفكري مابعد الحداثة الذين يعولون على سبل التواصل.و يمنحون الشعبوية طاقة التمثل للأشياء ،بقدر ما يفعل المتخصصون.وبذا انفتحت الأجناس والأنواع تماماً، ما أدى إلى محو هوية بعضها.أمثل دوما بأغاني الراب التي صارت(كلاماً)، والرسم الذي استسلم في نماذج ما بعد الحداثة إلى تداعيات الآلة ،بدل أن تكون الآلة (وسيطاً) لا مشاركاً في (إنجاز) الأعمال وحسب.وهذا ما تسلل للسيرة الذاتية وتوسيعها لكل شخص.والقصيدة التفاعلية وتسمياتها المراوغة للانصياع للحواسيب.وحتى النقد السريع والمختزل في التعليقات المتعجلة والمبتسرة المتاحىة للجميع في الشبكات التواصلية.
بهذه المبررات أتمسك بالحداثة والعصرية وفعل التحديث .وبقناعة أن الشاعر يُغني خطاب الشعر عبر القصيدة التي تجترح بنيتها، ولا تتنازل عن الفن الشعري، وعن تطوير وتحديث تلك البنية.وهذا يجعلني أتحدث كثيراً في الفترة الأخيرة عن (التثاقف) كرافد ضروري للرؤية التحديثيىة ، والإفادة منها بتوسيع المرجع الشعري.وهو ما ساهمنا معك في ملفات مجلة (مثاقفات) لتبيان أوجهه المتنوعة.
الشاعر الحديث لا يتردد أو يهاب المغامرة الشكلية، وخوض التجارب الشعرية لخلق قصيدة مكتفيىة بفنها، بعد أن صُهرتْ عناصرها الاساسية في شكل النص.
وقياساً على هذ واستناداً إليه تولدت قناعتي بأهلية قصيدة النثر كنوع شعري حديث على استيعاب تلك الاشتراطات والرؤى حول حداثة النص . وللحديث بقية حتماً عن قصيدة النثر بنسختها العربية ،وبعض ما لدينا من ملاحظات واعتراضات على نماذجها المدعية الانتساب إليها . فثمة حاجة لتفهم واستيعاب أساسيات كتابتها، ودواعي نشأتها وميزتها الانشقاقية عن إيقاع الشعر السائد ، وخصوصيتها الجمالية، قبل ممارسة كتابتها عشوائياً.
الشاعر الحداثي يقطع الآن مع المتراكم من النصوص التليدة أو الخالدة، لا بآزدرائها بكونها نتاجاً إنسانياً محدد الزمن، بل لما تحمله من جماليات لم تعد تناسب العصر وتحولاته التي تنعكس على اللغة والإيقاع والأشكال ذاتها..فيعاينها كآثار قابلة للتحليل والقراءة ،لكنها تكف عن الاشتغال في المتغير والمعاصر من الاشتراطات الفنية والجمالية..و نلاحظ هنا أن التقبل كفعل جمالي يخضع للحداثة والمعاصرة أيضاً بالقدر نفسه ، بعد أن وثقت نظريات التلقي والاستجابة هذه الصلة : بين النص كفن مرسَل، و تلقّيه كفعل جمالي يؤديه المتلقي كمستقبِل.
3- في الدراسات المنشورة لك في مجلة ” مثاقفات ” الصادرة ببريطانيا ، وجدتك تلمَح حينا وتفصح حينا آخر عن تخوفك من أن ” النقد الثقافي ” لا يمارس المقاربة النصية للأجناس الأدبية . وفي هذا الشأن ينبغي التذكير أن أغلب النقاد الذين يشتغلون في ” الغرب ” في حقل ” النقد الثقافي ” قد أتوا من فضاء تخصصات الأدب وأن عددا مهما منهم مارس ويمارس النقد الأدبي النصي لأن هؤلاء يفهمون أن أشكال التعبير الأدبي أو لنقل أجناس الأدب هي جزء عضوي من الظاهرة الثقافية الكلية وليست مفصولة عنها ، ومن هنا جاء الاعتقاد أن دراسة الانساق ضمن البنية الثقافية لا ينبغي أن تبعد الرواية أو القصيدة لأنهما ” ملوَثتان ” بتلك الانساق.
ثم ألا ترى أن هناك فهما مبهما لمصطلح النقد الثقافي في بلداننا ، وربما تعود مسؤولية ذلك إلى الدارس عبد الله الغذامي الذي اقترض في كتابه ” النقد الثقافي : قراءة في الانساق الثقافية العربية ” مصطلح النقد الثقافي ” عن الدارس الأمريكي فنست ليتش الذي اقترض بدوره هذا المصطلح عن منظَرين فرنسيين منهم رولان بارط ، وعن أقطاب مدرسة فرانكفورت وبخاصة أدورنو الذي كتب قبل ليتش وبارت وفوكو وغيرهم بعقود ، مقالا طويلا بعنوان ” النقد الثقافي والمجتمع ” نظر فيه لماهية النقد الثقافي ونشره عام 1962 في كتابه المعروف ” مواشير – Prisms ” .
ويلاحظ أن الغذامي يخلط بين الدراسات الثقافية وبين النقد الثقافي أيضا عند قوله بأن الدراسات الثقافية تركز على ” الكشف عن الآنظمة الثقافية ” في حين تركز في الحقيقة على ” التمثلات ” وعلى استراتيجيات علاقة الثقافة والنصوص الأدبية الإبداعية بالطبقة والهوية والجندر والاثنية والعرق الخ… وإلى جانب ذلك فإن الغذامي ليس واضحا يخصوص علاقة الدراسات الثقافية بالنقد الأدبي النصي الذي لا يستبعده رواد هذه الدراسات وبخاصة عند دراستهم لأشكال التعبير الأدبي لأدب الأرياف ، وأدب الأقليات وما يدعى بأدب فئات الهامش.
***
– أعلم جيداً اشتغالاتك المنهجية والأكاديمية على النقد الثقافي والدراسات الثقافية. واعتراضاتك على النسخة العربية منها.ولكنني ومن خلال كتاباتك ذاتها وسواها وصلني ما يبرر خوفي .فأنا أولاً ناقد أدبي.ولي انحيازي المعلن لأدبية النقد.سُبق باعتراضاتي على المناهج التي رحَّلت ما هو علمي، كالإحصاء والرقمنة ،إلى حقل الخطاب النقدي الأدبي. لكنها وصلت ذروتها التدميرية بما أدخله الدكتور عبدالله الغذامي في كتاباته كإعلانه(موت النقد الأدبي) ، والقول بأن النصوص كفت عن تقديم جماليات جديدة جديرة بالدراسة .وقيامه بالترويج للنقد الثقافي عبر الاهتمام بالأنساق غير الأدبية الفاعلة في النصوص.حتى صار البحث عن تلك الأنساق مهمة نقدية بديلة.وتهافتت عليها الدراسات الأكاديمية خاصة، لتتلمسها في نصوص ركيكة وتجارب متواضعة.صار الهدف هو البحث عما هو اجتماعي وسياسي، وطبقي وعرقي ونوعي.فتأخر الاهتمام بالأدبي ،وبالكيفية التي تجعل نصاً ما أدباً،وهو الأدبية والشعرية بمصطلحات البنيويين وتطويرهم لمفهومها القادم من أرسطو.أعني دراسات ومقترحات تودوروف وجان كوهين وجاكوبسون وبارت خاصة.
وهذا الانكباب على ماهو غير أدبي في النصوص يمثل ،على مستوى النظرية الأدبية، نكوصاً إلى ماقبل مرحلة التحول إلى دراسة النصوص ذاتها، والتي أبعدت المقاربات الخارجية التي تهين النص بقراءة ما حوله وما يتعلق بكاتبه أو بمعانيه، دون الالتفات إلى بنيته وتركيبه ،وتعالق عناصره فنياً والموضوعات كجزء من تلك البنية. و تلك المقاربات الثقافية تقترح العودة للمناهج الملتزمة كالواقعية والتكوينية.ما سيغلّب الاهتمام بالإطار الموضوعاتي والمعنوي على ما هو فني وجمالي .
وفي دراساتك كما في سؤالك العميق والمتشعب لاحتواء الإشكالية ،تشير إلى اهتمام رواد الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، بأدب الهوامش ،والمتعرضين للإقصاء طبقياً أو عرقياً أو جندرياً.إنه يعكس في أحد وجوهه معاناة شخصية لبعضهم أو إسقاطاً إيديولوجياً على الخطاب الثقافي، من خطايا وجرائم الاستعمار في بلدانهم. يصرح أحد أعلام النقد الثقافي والدراسات الثقافية ستيوارت هول في حواركَ معه ،وهو القادم من دولة مستعمرة سابقا هي جامايكا(( لقد أصبحتُ نوعاً مختلفاً من الماركسيين بسبب التجربة الإستعمارية ، ونوعاً مختلفاً من الأشخاص المهتمين بالدراسات الثقافية، بسبب انشغالي بمحاولة فهم الثقافة الإستعمارية)).
كما يمثل أتباع الاتجاه المتطرف في المنهج أو قارئيه قراءة منحازة، تخفياً للخطاب العقائدي المتمركز في ما هو ثقافي، وتهميش الأدب.والمزعج في الأطروحة التي يمثلها عبدالله الغذامي أنه ينقل شذرات متفرقة استناداً إلى ليتش كمصدر أساسي للقول كما وضحتم في السؤال، فيرى أن جماليات النصوص الأدبية ذاتها ،لم تعد جديرة بالقراءة والنقد.فكأنه يريد نقداً أشبه بالمصنوعات المنزوعة المادة كالحليب غير الدسم ، أو الحلوى الخالية من سكّرها. فما الذي يظل من النص الأدبي بلا جمالياته التي يدعون للاستغناء عن دراستها؟
سيزيد الأمر تعقيداً ما يفعله بعض مَن وصفتهم أنت، بأنهم هبطوا بالمظلة إلى الدراسات الثقافية والنقد الثقافي! ويُغضبهم أي تداول نقدي وحواري للمقولات النظرية ومناقشتها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*