مئوية (نبي) جبران:ثنائيات الروح ومادتها- العدد الاسبوعي -جريدة القدس العربي-17/12/2023

 

قال جبران (( لقد حلمت بكتابة (النبي) طيلة ألف عام)).تلك شطحة بلاغية تعبر عن هيمنة الفكرة عليه ..فكرة نبوةٍ أرضية روحية تخلّص البشرية مما يسيطر عليها من أوهام وآثام. فتعهد بأن يحقق رغبة أهل أورفليس في سؤالهم لشخصية المصطفى (نتضرع إليك أن تكشف مكنوناتنا لذواتنا) …وعبر قرنٍ مر على كتاب ( النبي) ما زال البشر ينقبون في ذواتهم عما تضمر.

مقالي في العدد الأسبوعي -جريدة القدس العربي- الأحد17/12/2023

مئوية «نبي» جبران: ثنائيات الروح ومادتها

تكفي مئة عام على صدور “النبي” كتاب جبران خليل جبران الأشهر بين نتاجه النثري والشعري، لنقول إنه ظل حاضراً بقوة، كعمل معاصر بتنوع جنسه وعمق معانيه، واجتيازه للزمن، وتخطيه لظرف كتابته.
وإذا كانت خطاطة الكتاب العربية التي كتبها جبران أكثر من مرة وأهملها قد اختفت، فإن ترجماته العربية عن الإنكليزية التي استقر على نسختها عند النشر في أيلول (سبتمبر) عام 1923، تعكس أهمية الكتاب كعمل رئيس لجبران، مفعمٍ بروحه الشرقية التي جاهد للحفاظ عليها في مهجره، فقد ظل يتعقب متنه ويغيّره، ثم شعر بأنه ناقص فأكمله في “حدائق النبي”. وقد عبّر عن معايشته للكتاب في شطحة بلاغية بالقول “لقد حلمتُ بكتابة النبي طيلة ألف عام” إنه بذلك يريد أن يلفت متلقيه إلى ما ترمز له الألفية التي مرت على ولادة المسيح بقليل، حين كان جبران يكتب كتابه.
إن عنفوان الجو الروحي الذي ولدت فيه فكرة الكتاب ستنعكس في صياغة المواعظ والخطب التي يلقيها المصطفى على الجمهور المحتشد لوداعه. ومن نقطة نهاية عيش المصطفى بعيداً عن وطنه، تبدأ قصة الكتاب. لقد قرر أن يهجر أورفليس التي قضى فيها اثني عشر عاماً، ويعود لوطنه، غير مهمل لوظيفة الرمز الروحي الذي اتخذه سبيلاً لأقنعة كثيرة، تقنع بها وأرسل من وراء ستارها الشفيف أفكاره وتداعياته وهواجسه.
لا تخطئ القراءة مهما تواضعت حقيقة أن النبي يلخص حيرة جبران وحنينه معاً. فهو بعد طول إقامته الأمريكية، يعدّ أمريكا سكناً، ولبنان وطناً. وبينهما تتوتر مشاعره واختياراته، وتتجسد واحدة من أقوى الثنائيات في حياته. ثنائية المهجر والوطن، السفينة في البحر تنتظر المصطفى ليعود، وثمة من يرجوه ألا يغادر، ويبحر أخيراً تاركاً مواعظه في ذاكرة أورفليس وأهلها.
واستطراداً على فكرة جبران عن أمريكا السكن ولبنان الوطن، أستذكر ما حصل لمهاجر فتى كجبران ــ هو الشاعر سركون بولص – اختار أمريكا التي حلم بها، لكنه بعد أعوامِ سكنٍ مُرّة، سيصارح من يأتي بعده من الحالمين بجنائن المهجر، أن (أمريكا محل عيش، إقامة، وليست وطناً؛ لأنك لا تستطيع أن تملك وطناً مرتين. الوطن البديل مثل زوجة الأب، مهما كانت حنوناً، لا تنسى أنها ليست أمك، لا تنسى أنك من امرأة أخرى).
وكثيراً ما اعترف جبران في مراسلاته أنه سيأتي يوم (يهرب) فيه إلى الشرق “إن شوقي إلى وطني يكاد يذيبني”.
لقد كان جبران يلخص في “النبي” حنينه الروحي لوحدة الوجود، ولقاء النهر بمصبه وذوبانه فيه كما يفعل العرفانيون. لكنه يخضع في قناعته تلك كما في قِناعه، لثنائية تحكمت في كتابته، وهيمنت على متونه النثرية والشعرية. المسيح ونيتشه، الروح في تسامح ومحبة وتطلع للخير والأمل، والقوة في العزيمة ونشدان الهدف، ضعف وقوة يمثلان الروح ومادتها وهما تتصارعان.
لقد كان “النبي” قصة فلسفية في التجنيس المقارب لهوية الكتاب. لكن جبران وضع فيه إطاراً للسرد، وأطلق “المصطفى” سارداً واعظاً، تتخلل خطبه تأملات فلسفية تعضده بأدلة وأمثال من الحياة الإنسانية، وهو بذلك يقترح نوعاً مبتكراً من الساردين، فيضع الفكرة، ويبتكر محاورَة حولها بشكل سؤال يوجهه شخص ما للمصطفى الذي يجيبه بموعظة.
والمصطفى اسم النبي الأرضي الذي اخترعه جبران ذو دلالة على هفوه لجلاء الروح، وفصلها عن مادتها، لتغدو حرة، وليس المصطفى ــ كما لاحظ دارسو النبي – إلا جبران في ما يقوله على لسانه. بل هو ذاته في تمثلاته للثنائيات التي تحكمت في حياته وفكره، دون الفكاك من شخصية المسيح، وأفكار نيتشه وقرب شخصيته من سارد “هكذا تكلم زرادشت”.
لكن خصوصية نبي جبران رغم بعض التماثلات بين شخصيته وشخصية زرادشت ودوره في السرد ومواعظه، تكمن في ثنائية الوطن والمهجر، والروح والمادة في تقابلات حادة ينحاز فيها جبران كما في حياته، إلى الروح التي خُلق منها المسيح ابن الإنسان كما وصفه في أحد كتبه، بينما يؤمن أيضاً بجدلية قائمة على وجود الشيء ونقيضه معاً في الحياة، وعلينا كما يقول إن نرى ذلك وندركه، ولا نرهن رؤيتنا في جانب واحد.
لقد أعرض جبران مثلاً عن الزواج كصلة بالمرأة وعلاقة إنسانية معها، ثم جعل المصطفى يعظ الناس، فيوصيهم ألا يقتربوا من بعضهم حد المحو والتلاشي: “أحبّوا بعضكم بعضاً، ولكن لا تقيّدوا المحبة بالقيود.. قفوا معاً، ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً: لأن عمودَيْ الهيكل يقفان منفصلَيْن، والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقته”. ويمضي في تمثيلاته الحياتية ليدعم فكرته في التباعد: “فإن أوتار القيثارة مشدودة على افتراق/وإن خفقت جميعا بقلب واحد.. ولتنهضا متكافلين/ لكن دون أن تتلاصقا / فإن أعمدة المعبد على انفصال تقوم / والسنديان والسَّرو لا ينمو بعضها في ظل بعض”. بهذا يستحضر جبران رمزه الأعلى: المسيح، وعدم اقترانه بامرأة، ويبرر لنفسه موقفه هو نفسه من الموضوع.
هذا الانشطار الذي عانى منه جبران عناء فلسفياً ووجودياً، يتمثل في وقائع كثيرة منها: توزع اهتماماته الكتابية في النثر والشعر، وثنائية الشرق الذي هجاه ثم حنَّ إليه، وأوصى أن يقضي أبديته في ثراه، والغرب الذي جاءه راغباً في العيش في عالمه الجديد ومثله وقيمه التي يدعيها، ثم يصدم بكل ما رآه، فيصف مدن الغرب بأنها مدن التقاليد، وناسها يعيشون بقلوب من حجر وأفكار بالية.
وكذلك، منذ الأسطر الأولى يبدو المصطفى في الكتاب منشطراً بين وداع وفراق، وحنينه لموطنه وانتظار السفينة التي تقله إليها. وحين بدت في الأفق تجسدت حيرته، كان البحر أمامه، والمدينة التي أحبها من خلفه. السفينة تقترب والمكان يبتعد، انشطار في الفضاء الذي تدور فيه المحاورات، ويكون العقد مع جمهور يرجوه البقاء هو أن يلقي خطبة في موضوع تقترحه العرافة التي يدعوها المِطْرة: نضرع إليك أن تكشف مكنوناتنا لذواتنا. فيجتمع الناس ليلقي عليهم مواعظه، مختاراً أسلوب السؤال وإجابته. وذلك جزء من فكر جبران الحواري ومنهجه في الكتابة. تداعيات عاطفية أو تأملات لا يسوقها إلا متسائلاً مع نفسه أو سواه.
كان جبران مثالاً للحائر العارف، والذي به حاجة دائمة للمعرفة. فيقول عن نفسه:
“أنا دائمًا بانتظار ما لا أعرفه، ويخيل إليّ في بعض الأحايين أنني أصرف حياتي مترقبًا حدوث ما لم يحدث بعد”.
ويرتفع بمثل هذه الأفكار خطاب جبران إلى مرتبة كونية نادرة. وتعود لقراءته لتجد تلك الكونية الإنسانية مؤلفة بتوليفة غريبة، روح ماري هاكسل التي كانت أقرب صديقة رعته طويلاً، ولعل المطرة هي مثالها في “النبي”. كما كان المصطفى صورة قرأها خليل حاوي في كتابه “جبران خليل جبران- إطاره الحضاري وشخصيته” بحالة خاصة. فوجد أن جبران “رسم صوراً ليسوع محاكاة لما يرغب هو أن يكون عليه.. صوراً توافق عقيدته الخاصة”. ولكن أدونيس في الجزء الرابع من “الثابت والمتحول” يخصص فصلاً مطولاً لجبران بكونه (كاتباً رؤيوياً) كما يصفه، ويرى أن النبوة في فكر جبران (نبوة إنسانية، يحاول أن يفرض رؤياه الخاصة على الأحداث والأشياء. أي وحيه الخاص). ويحصر خطاب جبران بكونه يتكلم في معظم كتاباته بلهجة النبي الذي قال إنه أرضي أو إنساني. وهذا التشخيص لا يغض من قيمة الروحانية التي غلبت على كتاباته، والتي صار للنبي في مؤلفاته وفي الكتابة الفلسفية مكانة كبيرة.
لقد كان “النبي” بمقياس التلقي والتداولية أثر واضح، ليس في تعدد ترجماته إلى لغات عدة، أو طباعته مراراً، وإنما في هذه الروح التي بثها في ضجيج التأليف والدعوات والإيديولوجيات. كانت فصول النبي مخططة بدقة، لتشمل جوانب كثيرة من شؤون الحياة والفكر الإنساني، ومهمات الإنسان على الأرض، فكان السائل في كل فصل أحد المهتمين بموضوع السؤال، ومن يريد جبران ومصطفاه أن يتكلموا، ليجيب، ويمنحهم كما طلبت المطرة، رؤية ما خبأت نفوسهم.
يصلح “النبي” بعد بلوغه عامه المئة أن يكون مثالاً لنفوذ الكتابة، وبقاء مفعولها المتجدد، واستيعاب الأدبي للتأملات والمشكلات المعرفية والفلسفية. كما يصلح لقراءات متعددة لا تنحصر في النقد الأدبي، بل في تفحص الأبعاد الثقافية، لما يرشح عن الكتاب من مواقف، وما تتحكم فيه من أنساق فاعلة.
قد يكون رسمًا توضيحيًا لـ ‏‏‏٣‏ أشخاص‏ و‏تحتوي على النص '‏وفنون آداب ومادتها الروح ثنائيات :جبران نبي>» مئوية النبي جبران خليل جبران الالال Istar A9700 Plus Receivers with Free One Year iStar Code DX İSTAR Internatio‏'‏‏

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*