بريد بغداد’ تشظّيات في مفردات الشعر
جبار الكواز-القدس العربي-17/4/2014
يحمل الكتاب الموسوم ‘بريد بغداد’ في طياته شجناً مُغرقاً في التراجيديا كإشارة لواقع درامي نعيشه يومياً يبدو وكأنّه صورة حيّة لحرائق أزلية لا يمكن أن تخمد إلا بعد أن تجد دلالتها في معطيات أسبابها، وهذه النقظة أساسية من منظورنا.. الخلاصة: النقد ـ بوصفه آلية ـ يعمل على تقويم المادة الشعرية في إطار ما يسمّى بالانزياح، وليس في نفيه ضمن معالجات نقدية لأنساق شعرية متباينة، ومن بين الموسومة منها تعدّ الشعر قيمةً رفيعة في الوجود..
فالواقع أنَّ الكتاب يحتفظ بتميّزه النقدي وغناه اللغوي ما دام الكاتب يعالج مناطق حسّاسة في النقد الدلالي، وهذا التميّز جعله يحرص على اختزال أُسلوبه إلى الحدّ الممكن وصولاً إلى صيغة جوهرية تتعارض مع ما هو غير دلالي لا يقوم في الأساس على منهج واضح ينسجم مع قيم الشعر الحديث وجمالياته وتراكيبه اللغوية.
يتجلّى الترابط في المعاني الدلالية من المقدمة الأثيرة الموسومة ‘ألم عابر للقارات’ ليغلّف الخطاب النقدي استناداً إلى معطيات تتباين وحداتها في حالات كثيرة كما سنرى، وعليه فإنّ بغداد ـ كمكان ـ تمثّل الدلالة في الخطاب الشعري، وهذا ما يجعلها رمزاً مساوقاً صور الدراما الإنسانية من جهة أو معلماً ملازماً الموسيقى والشعر والعلم والثقافة من جهة أخرى، وهذا ما فطن إليه الناقد ‘د. حاتم الصكر’ مشيراً إلى محنة الوطن من أجل استحضار الصورة المأساوية لتغدو كليّاً في مستوى الدلالة ولتجسيد ما هو مرتبط بجوهر الشعر كقيمة أدبية = جمالية مساوية لمنهج التلقّي، وهذه النقطة بالتحديد هدف مُقاربتنا لتوضيح الصورة بما تحمل من تشظّيات جوهرية في مفردات الشعر.
يتناول الناقد في الصفحات الأُوَل من الكتاب العينّات من جيل ما بعد الستينيات، ويكتب مقدمة عن الخطاب الشعري المتنوّع في تلك الحقبة، مشيراً إلى أُنموذجات شعرية كانت تؤلّف في الأساس ‘المناخ العام ونقطة التحول’ والدراسة بمجملها مراجعة للمشهد الشعري بتجلّياته الموسومة ولمسألة الأجيال والانفتاح المعرفي والفني ولا سيما الانفتاح على قصيدة النثر.. ومن الأسماء المشار إليها الشاعر نبيل ياسين بصفته أقرب الشعراء إلى مُناخ الستينيات المأخوذين بملكوت الذات والبحث عن الكينونة كما تجسّد ذلك أيضاً في شعر فاضل العزاوي، ويشير كذلك إلى الشاعر كاظم الحجاج المعروف بتميّزه المطّرد في أُسلوب المفاكهة والمعابثة بالألم والسخرية السوداء باجتهاد الناقد الصكر، ثم يشير بالتدرّج إلى الشاعر الصائغ والذي يسمهُ بقناص صور وأليغورات، فضلاً عن الشاعر شوقي عبد الأمير وريم كبّة، وفي قراءته عن الشاعر جبار الكواز يضع يده على ثغراتٍ كما يسمّيها ويقول: (كان في الإمكان إنقاذ كثير من نقاط البريق الشعري في نص الكواز ذي الحساسية اللونية الواضحة)..
ثم يصف سلمان داود محمد بالشاعر الذي يخبئ مناكدة طريفة للقارئ في سيرته الموجزة فضلاً عن إيغاله في المشاكسة، لكن مع ذلك يأمل الناقد من الشاعر كما يجتهد أن (ينتج نصّه دلالته قبل القراءة بملفوظه لا بموجهاته التي لها ثقل في التلقّي دون شك) ويعتقد أنَّ شعر طالب عبد العزيز (يتغذّى من التاريخ على أنه وقائع ذات إشارات سيميولوجية وثقافية مؤثرة) ثم يتحدّث باقتضاب عن شعراء وشواعر أمثال: حميد قاسم، وأحمد عبد الحسين، وحميد حسن جعفر، وابراهيم الخياط، ورعد فاضل، والشاعرة نضال القاضي، والشاعرة ريم كبة وأخرين..
ويتطرّق في باب قصائد في أفق الحداثة إلى (جيل نشأ في أتون التحوّلات وكان قدره أن يرى خراب كلّ شيء ويبدأ من النهاية) حسبما يذكر هو، منهم أحمد عبد السادة، وهنادي خليل، وحسام السراي وزاهر موسى، وهيثم جبار، وعباس مؤيد الخفاجي وكذلك صادق مجبل الموسوي، وفي مقاربته هذه يؤكّد انحيازه التام إلى قصيدة النثر كصيرورةٍ لا تقبل الدحض، ومن ثم يدلّنا على مواطن القوّة والضعف والمتشابهات اللغوية أو التناص في بعض الأحيان في نصوص معينة، وبهذه الصفة تحقّق ثقافة النص الجديد حضورها بدلالات معرفية يطعمها الخطاب الشعري.
وضمن دراسة تأويلية تندرج في إطار التحليل النقدي وتستخلص من جوهر الشعر دلالته، من هذا المنهج يفرد قراءةً تامّة لمنجز يمثّل معظمه خطاب المنفى، ويقدّم لذلك مقاربةً موجزة عن الشعراء والشواعر المقيمين في هولندا، وينعتهم في فقرة خاصة (بورثة تقاليد شعرية وأرث المعاناة والغياب) وعلى كلّ تحملُ نصوص جميع هؤلاء المعنيين مظهراً خاصاً، لكونهم وجدوا في السرد طريقاً مناسباً ليساعد في دمج القارئ في أفق النص ليصل إلى الدلالة، وبتعبير الناقد إلى اللغز ـ المتاهة السيزيفية ـ الغياب تماما ًكما يظهر لنا ذلك في المشاركات الشعرية لفينوس فايق، وبلقيس حميد، وناجي رحيم، وكريم ناصر، ومحمد الأمين، وعلي شايع، وشعلان شريف، وحميد حداد، وصلاح حسن..
يكتب الناقد دراسةً تعريفية عن أنطولوجيا الشعر الكردي بعنوان ‘أرواح في العراء’ للمترجم والشاعر عبد الله برزنجي، يقول: (يفرحنا أيّ جهد تعريفي لا سيما إذا كان ببليوغرافيا أو بشكل مختارات ودراسات باللغة العربية) عن الشعر الكردي، ثم يذكر شيئاً عن شعراء مرحلة الحداثة الأولى منهم عبد الله كوران ومجايلوه مثل نوري صالح، وكامران موكلي، وشعراء مرحلة التحديث الفني والأُسلوبي منهم: شيركو بيكس، ولطيف هلمت، وأنور قادر، ورفيق صابر، وصلاح شوان وغيرهم، وبخصوص شعراء التسعينيات يقول: (تغيّر الخطاب الشعري بفاجعيته التي رصدها المعد والمترجم وبالتمرّد الأُسلوبي إلى حدّ كتابة النصوص البصرية والكونكريتية ونصوص البياض وسواها) ويقول أيضاً قد (تتلوّن القصيدة الكردية بأطياف الروح والطبيعة متخطية أصولها)..
ويشير كذلك في مكان آخر إلى البيان الشعري ـ الجنس الرابع ـ الذي كتبه جمعٌ من الشعراء العراقيين في 1/5/2008 وتتضمّن الإشارة إشكالات التسمية والقلق الدائم بصددها والتجنيس والخصائص النصية والتلقّي..
نقرأ من ضمن المواد أيضاً دراسةً تحليلية عن الشاعر علي جعفر العلاق بعنوان ‘آدم وخليفته الشعرية’ المستشف من ديوانه لتكشف عن مقدرته على بناء الجملة المكثّفة المزوّدة بجمالية لغوية.
ثم نقرأ في باب الكتابة الشعرية النسوية عن حضور المرأة ‘في حلقات التجديد الشعري وموجاته التحديثية’ يقول: عن سهام جبار (نستطيع أن نشتقّ دلالة إضافية على وعي الشاعرة حتى في اللغة بوجودها) ويقول أيضاً (يغلب على شعرها بوح متقطع تجسّده الجمل القصيرة والتراكيب المقطوعة عن نهاياتها في القصائد) وعلى كلّ لا تنفك (تقترض الشاعرة من الأسطورة والرمز والحكايات ما يدعم النصوص ويقويها) حسبما يرى ذلك، ويذكر (أنَّ الشاعرتين داليا رياض، وكولاله نوري وبحسب الإشارات البيوغرافية في ديوانيهما البرتقالة والقمر لداليا رياض، وتقاويم الوحشة لكولاله نوري متقاربتا السن والثقافة، ولهما هموم شعرية متشابهة في خطوطها العامة كالوعي بالنوع النسوي والموقف من الرجل ورؤية العلاقة به واستذكار الوطن بجمالياته وجراحه، ويمكن للقراءة الرمزية أن تجدَ في هذه النهاية محاولة من الشاعرة للبحث عمّا هو أنثوي في الرجل نفسه، ولكن ما يسجّل على خطاب داليا المنتمي لقصيدة النثر كليّاً هو تساهلها في بناء الجمل الشعرية، وأخطاء اللغة والتراكيب التي يفهمها القارئ ضمن تلك الشعبوية الواضحة في ديوانها التي تقابلها ـ كمفارقة ـ روح برجوازية مترفة تنعكس في مفردات أجنبية كثيرة في الديوان ومنظور متعال لا تخفيه العامية، وبسبب ذلك تزهد داليا بالصور والمجازات فتكتفي باللغة المباشرة دون وصف وشرح أو تأكيد وتتنازل عن التشبيهات التي تهنها المخيلة إلّا على سبيل التناظر وهو موقف كلّي يؤطر القصيدة) ثم يذكر أنَّ (السخرية لدى كولاله نوري تجعلها تعابث اللغة فتصنع تقابلات ساخرة) ولكن ما يميّز الشاعرة فليحة حسن عن زميلاتها بوصف الناقد يقول: إنها (تمتلك وعياً مغايراً يرتب على الدارسين فحص خطابه وفهرسته أنثوياً بجدارة لأنه يرى الأشياء والعالم والآخر بزاوية مختلفة).
ويستعرض الناقد الصكر في باب ‘إنزياحات شعرية في احتدام الواقع’ تجربة الشاعر عبد الرزاق الربيعي، ويخبرنا ضمناً عن خاصية شعرية لا تخرج بتاتاً عن سياق الخطاب، وعليه فإنَّ ما يشغل الربيعي في الدرجة الأولى همّ الوطن، وكلّ ما يستلزم التعبير عن جوهره، وهذه الصفة تؤطّر شعره بامتياز، وكون الشاعر لا يستغني عن الوطن ولا عن دلالته وهذا شأنه، فقد ظلّ منتمياً لترابه ومستمدّاً رؤاه الشعرية من آثاره، فيقول الناقد: (الوطن حاضر في خلايا القصائد وهو مركز استمداد الرؤى الشعرية وبؤرة تحولات النص الشعري، به تتأثث القصائد وتعمل الذاكرة بلا خيال صوري أو سرد متخيل)..
ويكتب دراسةً بعنوان ‘هذيان على حدود العقل’ عن ديوان ‘هذيانات عاقلة’ للشاعر عباس السلامي فنحن نرى أنَّ الجانب المهم في الدراسة يُفسّر المبدأ الأساس الذي تقوم عليه القصائد كبديهيةٍ ترجع إلى الإقتصاد اللغوي كما يجتهد الناقد نفسه، فـ (قصائد النثر هذه إذ تكتفي بالإيقاعات اللغوية والصورية وتبتعد عن الموسيقى الوزنية ذات الصدى والرنين فإنما تعكس الاقتصاد اللغويي في قصيدة الحداثة وتشذيب الفضلات والتفاصيل التي تغري بها التداعيات والاندفاع الغنائي والتصوير البلاغي المتكرر والمعاد مما تجلبه الوزنية عادة لفضاء النص ولا يخفي أنَّ اختيار الشاعر ‘هذيانات عاقلة’ وهي عنوان الجزء المنثور عنواناً للديوان كلّه تصويت لانحيازه الشعري لهذه المنطقة التي ترج بالشعر ثوابت العقل في زمن لا يحكم أحداثه تفسير عقلي أو منطقي)..
يجد أنَّ (قصائد نصير فليح النثرية تجريبية توفّرت على رؤية ولغة وإيقاعات تؤهله لكتابتها بجدارة) وهذه السمة تؤطّر شعره وتجذره بامتداد دلالي يبدو ظاهراً في ديوانه الموسوم ‘إشارات مقترحة وقصائد أخرى’
ويستخلص الناقد من حدائق الشاعر يحيى البطاط ما هو فاعل يشكّل خرقاً للبديهيات ليكوّن حلقات نصوصه. ثم يذكر في قوله (حدائق الشاعر كما يصفها العنوان نصوص أراد لها أن تُبنى غريبة ومستوحدة وطليقة من كلّ قيد وتدير السرد دوماً ذات الشاعر الحاضر بشدّة)..
لكن يخرج الناقد بانطباع جديد عن الشاعر جواد الحطاب، ونستطيع أن نقول عنه إنّه يكفي لإنصافه وتأكيد شعريته، لأنّه بذلك يقدّم شاعراً يصوغ كلماته من ماء الحياة وتغطّي السخرية معاني شعره الدلالية.
ونلاحظ أيضاً تميّزاً يكشف عن شاعريّة فذّة ملمحها مميّز نجد قوامها في الانزياح كما يصف الناقد الشاعر طالب عبد العزيز.
وقد يخلص القول في استنتاجه إلى جوهر تحليله النقدي في تقديم المادة الشعرية، ولعلّ هذا ما يزوّدنا بتفاصيل عن وقائع الشاعر باسم فرات وعلاقته بالأمكنة.
ما يخصّ شعر أديب كمال الدين فقد يستنبط الناقد من التراكيب الشعرية الحروفية مسلّمة تقوم على توسيع دلالة الحرف (وإنشاء ما يشبه الميتا نص الأبجدي) حسب تعبيره، وكما ينمو الحرف الشعري لتصبح له مزية أُسلوبية مميّزة، فتنمو بالمقابل سمات شعرية بخاصية جمالية.
ومهما كان الإستنتاج عن أشكال عبد الهادي سعدون الشعرية، فيظلّ أداؤه مميّزاً كما هو مرسوم في بحثه الجمالي، ومكوّنات شعره تسلك خطاً يرمي إلى شكل خاص به..
ويكتفي بالإشارة الصريحة إلى التميّز الجذري في أسلوب الكتابة في ديوان ‘أرخبيل الحدائق’ للشاعر ويعزو ذلك إلى التراكيب الشعرية التي تحتفظ برؤية جديدة تناقض السياق التقليدي العام..
الملاحظ في تحليله لديوان مؤيد الشيباني يكشف الناقد عن إنشغالات الشاعر بما هو قائم يتمثّل بالتغيرات التراجيدية، وهذا التعريف يغدو ملمحاً خالصاً للديوان.
ولمعرفة مكمن الفرق يرمز إلى وعي الشاعر محمد مظلوم المطلق بالمفردة الشعرية كونها الأساس في البناء، فيقسم الناقد بنى نصوصه إلى وحدات تركيبية فاعلة ويضع لها مقوّمات ما تجعله حاضراً في الساحة دائماً.
يظلّ إحساس الشاعر بالشعر مختلفاً تماماً، وقد يضعنا الناقد أمام منجز شعري غني بدلالاته وبأسلوبيته التي تغدو قلباً لجماليات لغته، ومع ذلك لا نتردّد أن نقول إنّ شعر حميد حسن جعفر يترك في نفس المتلقّي شجوناً ولو بطريقة تراجيدية..
والملاحظ في شعر عيسى حسن الياسري ميله إلى استحضار الريف كبنيةٍ دلالية واجتماعية، مثلما يستخلص الناقد الصكر من استنتاجه، وما يهمّ الشاعر بالتحديد اجتراح أُسلوب يقوم على مبدأ تحقيق الشعرية، لكن تبقى البنية: الأساس في الخطاب الشعري بكلّ تفاصيله.
لا يميّز الشعر غير خاصيته الشعرية، وقوّة دلالته، وبما يحمل من مديات منفصلة عن الخطاب الشعري التقليدي رؤية وفناً، وبهذه الصفة يضع الناقد الشاعر رعد رحمة السيفي في مستوى ما هو حداثي لا يمكن تنميطه ضمن ببليوغرافيا محدّدة.
وكون الوطن فكرة تتجسّد معانيها في الشعر، فإنّ المعاناة تظهر لنا جليّةً نلاحظها بلا ريب في بنىً متتالية تحتفظ بجوهرها الدلالي، هنا يكمن هدف الشاعر علي حداد كما يجتهد الناقد الصكر.. لكنه يقول عن قصائد ذياب شاهين إنّها مباشرة وخطابية وتتضمّن غنائياتٍ مكررةً وقواف متكلّفة وحشواً.
ويمنح في مكان آخر الشاعر كمال سبتي حيّزاً شاسعاً لتجسيد صورة أُسلوبية مثلى عن منجزه الشعري الفريد من نوعه، وانطلاقاً من هذا لا يعدو الشعر في أغلب أحواله أن يكون مجرّد صياغة نمطية أو بديهية أو تعبيرية، بل كثيراً ما يسمو بالمدلول ليصبح معياراً مفهومياً متناغماً ينفرد به من يتّقنه، وقلّما نجد شاعراً واعياً تتوفّر لديه هذه الخاصية الدلالية.
وإذا ما حصرنا الشاعر حسين عبد اللطيف في دائرة الشعرية الحديثة، فيمكن أن نضع يدنا على ميراث شعري يبدو وكأنه من طبيعة أخرى، كما يشير الصكر إلى ذلك، فهناك إذاً شعرٌ دلالي يتضمّن بنيةً عميقةً بعيدة عن التقليد الشعري.