عنف الصورة: جرائم العصر البصرية

 

عنف الصورة: جرائم العصر البصرية

 العدد الأسبوعي- صحيفة  القدس العربي-

حاتم الصكَر
حجم الخط  
2

 

حرب بصرية نخوضها عن بُعد، ونتلمس شظاياها في يومياتنا، نحن المتسمرون أمام الشاشات، وهي تغرق حتى تتشوش. لا ندري هل هي الدموع تغلق النظر، أم هو الدم يغطي الشاشات. لا شيء يستطيع قطعاً أن يحجب الكارثة التي تأتي مع ضياء الصورة. بل سوادها الرمزي الذي يتسيد المشهد.

كؤوس من ألم مترعة تسقينا كل صباح ومساء، تلك الصور. في لحظة المشاهدة لا أتخيل آلة التصوير إلا رصاصة مخبأة أو معبأة في جهاز. وأتساءل: كيف تتسع العدسة الصغيرة لمثل هذا الإقيانوس من الألم، وتظل تعيد المرائي الدامية؟
وأين تخفي تفاصيلها؟ نحن نستكمل الرسالة التي تصلنا من الصور. فهي تمدنا ببرقيات توجز حدثاً هائلاً مدمراً، نهايةَ حيوات، وخرابَ عمائر، وفرارَ ناجين إلى المجهول. ثم نبني ما تخفي من وراء عدستها، لنستكمل الصورة. ذلك ما يمنح الرؤية البصرية وثوقاً وشعوراً بالمشاركة رغم قسوتها.
خِرق بالية ممزقة تطلع من بين ركامٍ آلتْ إليه المنازل. يبحث الناجون عن أي شيء يشير إلى حياتهم التي يدفنها الركام. ثوان معدودات استغرقها الطيار لينتهي كل شيء. تسهم الصورة في البحث. ونحن أيضاً. هل تركت القنابل والصواريخ ما يمكن أن يدلنا على البيت في فضاء غزة المحتشدة؛ كخلايا جسد صغير، متلاصقة الأحياء والمزارع والسواحل، كأنها تلم من حولها كل ما يرفد ديمومة حياتها؟
السادية التي تمثلها الآلة الحربية للمحتل، تجعل العنف يتسلل للصورة أيضاً.
لم تعد شاشة التلفزيون وسيلة لرؤية الأشياء عن بُعد كما تُعرّفها كلاسيكيات الإعلام. لقد صارت بعنفها ورعبها تأخذنا إلى قلب ما تصوره.
ماذا تصور الكاميرات في غزة الآن؟ مباني مهدمة كما في لعبة رقمية، وتحتها آلاف الحيوات المندثرة التي لا سبيل حتى لإخراجها. تسكت الصورة عن ذلك. وعلينا نحن أن نتخيل الغائب الذي لا تلفظه الصورة، ويسقط من رسالتها. تترك لنا تخيل ذلك. ولكنها تعاقبنا بالمساهمة في صياغة الألم. تمر الكاميرات بلقطة فضائية على أسطح المدينة، فلا يتبين للبصر إلا خرائب أو شواخص تختلط بحطام بعضها، مؤلفة منظراً يعيد للذاكرة بعض خيالات السينمائيين عن دمار المدن في الحروب الكونية. لكن المرارة الثقيلة هنا أن البشر المنزوعي القوة، هم من سينطوي في حركة الكاميرا وهي تعبر فوق الفراغات التي كانت أحياء، وتنتصب أعمدتها وبقايا سقوفها، وكأنها أثر تاريخي متآكل بفعل الزمن.
تتفوق الصورة أحياناً على الكلمات مهما بلغت من البلاغة أو ضَّمنها شاعر في قصيدة. تتفوق الصورة بمقياس الأثر، وتختفي كلمات الشعراء خجلةً، لأن تمثيلها للحدث لا يداني أبسط كلمات الصورة، وهي تبعث رسالتها للقراءة البصرية.
حصل ذلك في مشهد الطفل الفلسطيني الشهيد محمد الدرة، وهو يُقتل بين أحضان أبيه الملتف حوله بيدين واهنتين تشيران مرتجفتين للقاتل أن يتوقف. جندي محتل يفتش عن ذريعة للقتل. يمحو إحساسه المذل بأنه يمتهن الموت صوب عُزّل من الناس في بيوتهم وشوارعهم، وبين ذكرياتهم وحبيباتهم، وطفولتهم وأسرهم، وأشجارهم ومياههم. هم في الصورة موتى رصاصتِه. لكنه ميتُ رصاصتِه أيضاً. حين يعود ويرى أسرته أو بيته سيحس ماذا فقد القتيل اللائذ بجدار، والمحتمي بحضن لم يمنع عنه الرصاصة. فبماذا انتصر أخلاقياً؟ بمزيد من البشاعة التي ستلازمه وتتجسم كلما أوغل في القتل، أو غاص في الزمن وناله العجز.
مشهد محمد الدرة وموته البصري مقتولاً بهذه الطريقة التي رأتها ملايين الأعين، لم يدع لنص عقب المشهد أن يقدم معادلاً شعورياً لما نحسه، ونحن نستعيد الصورة وعنفها الذي يضج بكل اللغات. وتلك مأثرة الصورة. إن خطابها البصري ليس بحاجة للسان أو ثقافة محددة. هي عابرة للغات والثقافات. يَستدل على رسالتها مَن يبصرها، ويتشبع بمحتواها، فينخلق في نفسه الأثر الذي لا يدع لأي نص أن يباريه.
لقد تجسد عنف الصورة في ما ينطوي عليه محتواها. تأخذ قوة الإشارة الإنسانية، وتشتغل في فضاء من الرعب البصري.
هذا طفل تقتنصه العدسات. طفل من غزة يخرج من الركام الذي كان منزلَه قبل دقائق، يلتفت مغطىً بالدخان، يتلفت مصدوماً غير مستوعب ما حدث، ينظر فيرى الخراب من خلفه. كل شيء غدا كومة أحجار وتراب. لا يفقه شيئاً. ويسأل منقذيه بلهجة غزاوية لاهثة، عن أبيه وعن (سِتّه). لا يفهم شيئاً محدداً، فيغمض عينيه مستسلماً لأذرع منقذيه من المتطوعين الشبان، وهم يغالبون حزنهم بقوة أيديهم التي ترفعه عن الأرض.
مفردات كثيرة في الصورة تستوقف المبصر لا الناظر المتعجل.
الروائي العراقي محمود عبد الوهاب، يستذكر صورةً أسهم بها مع سواه في «كتاب الصور» الذي حرره ياسين الوامي ولؤي حمزة عباس: (تحزنني الصورة، إنها موت اللحظة التي التُقطت فيها).
لم يكن محمود عبد الوهاب يتخيل قبل وفاته أن ثمة صوراً أخرى نجا من عذاب رؤيتها، ستعني موت كل مفردات موضوعها الذي تصوِّره. وأنها سترتكب جناية زراعة العدوانية في نفوس مشاهديها؛ لأنهم سيعتادون على تقبل البشاعة والجريمة بتكرار الرؤية. الاعتياد على الموت وعنف الصور هو أسوأ ما تقدمه الجرائم البصرية للمشاهد. وهذا ما شخصته سوزان سونتاغ في تأملاتها وتحليلها للصور الفوتوغرافية، فتقول في كتابها «حول الفوتوغراف»، ترجمة عباس المفرجي: «صدمة الوحشية المصورة تزول تدريجياً بتكرار الرؤية، فالبيان المصوَّر يمنح كل شخص ألفة معينة مع الوحشية، جاعلا من الرهيب أمراً اعتيادياً مألوفاً».
ذلك بعض ما تترك الجرائم البصرية من تشويه لأخلاقيات التلقي. فالجرائم التي ارتكبها الاحتلال في غزة فاقت خيال أي متخيل لأبشع ديستوبيا ممكنة، أو إبادة جماعية محتملة، وإصرار مسبق على التدمير والقتل، بلا حساب لأي معيار إنساني أو حضاري.
هذه الصور كمائن للمعتدي نفسه. سيكبر الصغار ويستعيدون هذا الخيال المرعب الذي رأوه وأرتنا إياه الصور. ولن يكون للذاكرة وظيفة اختزان الحدث فقط بلا تذكر فاعليه ومسببيه وجناته. ولنا نحن البعيدين، سيكون في مركز ذاكراتنا وضمائرنا ما يلهب قلوبنا بتذكّر بشاعة ما نرى.
لربما يعتاد بعضنا على مسلسل القتل، ويراه أقل أثراً بتكرار الرؤية وألفة المشهد. لكن العين لن تخطئ بلاغة الصور وعنفها الذي يرصد جرائم عصرنا البصرية.
المَشاهد تتسع، ويصبح الفاعلون ممثلين لهذه الدراما الوحشية التي ستُسجل لهم في تاريخ العنف والتغول على أبرياء بلا قوة تحميهم. سماؤهم مستباحة كأرضهم ومياههم. ولكن ليس للنسيان معنى في قاموس ذاكراتهم.
بالعودة إلى قراءة سوزان سونتاغ للصورة وتفاعلاتها، نعثر على ما يصلح للاستشهاد في لحظتنا الحزينة الحاضرة. إذ ترى أن الحرب والصورة متلازمتان. وتجذب الحوادثُ الرهيبةُ الناسَ في مجتمعٍ يُعَدّ الموت فيه كارثةً وحشية لا يستحقها.
وفي التلقي تُنبّه إلى الاعتياد الرؤيوي للمشاهد البصرية، حيث الجريمة تصلنا ونحن هنا لا هناك. ما يجعل آليات البقاء تتغلب، فيكون الاعتياد سبباً في تلقي الأثر المتوقع من الجرائم البصرية التي تحتشد هذه الأيام في الإعلام مرئياً ومقروءاً. والصورة هي شاهد الإنسان الوحيد أيضاً، ودليله للمستقبل. وامتحان إنسانيته.
ولطالما أفاق الشعراء على صدمات وكوارث وجرائم وأوبئة، قبل أن تراها أبصارهم كاليوم، مجسدة في صور تقرِّبها وتنقل أبعادها. ورغم ضعف أثر الكوارث اللامصورة، كان الأدباء والفنانون يستجيبون لأهوالها ويرصدونها. فلقد رسم الفنانون أعنف المشاهد دون تأثرهم بمشهديتها البصرية؛ لأنه لم يروْها أو يروا صوراً لها في أزمنتهم التي لم تعرف التصوير.
تسمع الشاعرة نازك الملائكة من المذياع خبر الموتى المصريين بالكوليرا عام 1947 تحملهم عربات تجرها الخيول، تسير بهم نحو المدافن في الأرياف، فكانت ثورتها الشعورية الهائلة التي بسببها، وتحت وقع هولها المتخيل، خرجت بالقصيدة عن قيودها في النظم.
ترى، كيف ستكون استجابتها لو أبصرت هذه الكارثة المتواصلة التي يُعد ضحاياها بالآلاف؟
سؤال لن يحجب إجابته التعتيم على الحقائق، وتجاهُل ما يحصل من جرائم، تشغل الفضاء وتسد أفقه، فلا يستبين سواها من شيء، يمكن للأبصار أن تنشغل به.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*