عن ضرورة  النظرية وإكراهاتها

مجلة الشارقة الثقافية-كانون  الأول-ديسمبر2024

عن ضرورة  النظرية وإكراهاتها

 

 

يبدو أن النظرية في الدراسات الأدبية لا تزال محل تساؤل ، لا من حيث ماهيتها وصنف دمها – أي وصفها وتبويبها- بل من جهة موقعها في الممارسة الأدبية كتابةً ونقداً، وفحص صلتها بالمناهج التي تُعد من أكثر مظاهر النظرية ملموسية وتعيناً.

فالنظرية لا تظهر بالفعل إلا بالممارسة ، وإن تكن موجودة  بالقوة – كما يذهب الفلاسفة-  من خلال عيشها في الفكر، والنظر إلى الأشياء التي لها فعلها في العملية الأدبية.

أي بإجرائها وتشغيلها في نصوص تحتويها أو تنطلق من مقولاتها وقناعاتها . فهي لا تكون محسوسة ومتداولة إلا بإجرائها وتشغيلها في نصوص كلامية أو كتابية،  تحتويها وتنطلق من مقولاتها وقناعاتها.

وقد يتخوف الكتّاب والنقاد من سطوة النظرية وإكراهاتها ،أوانغلاقها على ما فيها من تجريد وفرضيات، ومن متاهات تأخذ القارئ إلى معارف بعيدة  وعلوم مجاورة  متعددة، واستعانةٍ بالتاريخ ومناقشة الأفكار السابقة،  أو استحضار سلسلة سابقة من النظريات أيضاً ، ما يتسبب في تراكم الأفكار وتشعبها،  وتكثير مصطلحاتها المصاحبة لجهاز مفاهيمها . .

والنظرية  ضرورة تصاحب القراءة دون شك، لكنها غالباً ما  تقدم نفسها كسلاح يزيد معتنقَها قوةً وسيطرة.ومن هنا تأخذ في الخطاب شكلَ السلطة ، ويصبح مستخدمها متسلطاً،.يمكنه أن يرمي بالجهل كل من يعارضها أو لا يوافقه الرأي.

يتحدث جوناثان كولر في كتابه( النظرية الأدبية) عن حالات كثيرة لطغيان النظرية والنظر لها كحكم قاهر وقمعي.ويورد لذلك أمثلة من نقاشات محتملة مع مثقفين وقراء حين تصبح النظرية  مصدراً للتخويف والرعب ،والمزيد من الفروض الشاقة   والقراءات الصعبة.وينقل رسما ً كاركتيريا لرجل يخاطب مفكراً بالقول: إنه يشكر الله لكون هذا  المفكر كما فهم، ليس(إرهابيا  بل منظّراً).مستفيدا من الجناس بين الكلمتين بالإنجليزية:

.theoristو terrorist

وهذا قريب من تشخيص فوكو للخطاب بأنه ذو سلطة أو مستخدَم من سلطة تفرض أعرافها ومفاهيمها سواء بالخطاب الأصل، أو بالتعليق وحصرالحقيقة  بالمؤلف، أو الإذعان للرقابة ..

وتزداد البلبلة النظرية حين تنقسم إلى أنواع وتيارات ، ويحصل فيها الانشقاق والخروج على ثوابتها التي يرى فيها مَن يتبناها أنها بحاجة لتعديل أو إضافة. فتكون البنيوية مثلا كنظرية، عدةَ بنيويات: تبدأ بالبنيوية المدرسية ، ولا تنتهي بالبنيوية المتمركسة أو التكوينية.

وحين تحضر الانشقاقات والتعديلات تصاب النظرية بالترهل والغرق في الخلافات،

فلمن يريد الاستعانة بالمقترب النفسي في تفسير النصوص وفهمها وتأويلها،عليه أن يدرك أولاً  قراءة فرويد وتحليلاته لدور اللاوعي  وتمثيلات الجنس في الأدب ، ثم يعاين تعديلات لاكان عليها وإضافاته لها.

وتتضاعف مهمة القارئ في الحالة هذه ، وتشط به الطرق عند التطبيق أو قراءة النصوص التي يريد أن يقاربها بوساطة التوصلات النفسية.

وفي الدراسات الأدبية خاصة – وهذا يشمل قراءة ، ونقد  النصوص السردية والشعرية وغيرهما- يكون السؤال غالباً عن أسبقية النصوص أم النظريات في عملية القراءة .وقد تجسم هذا السؤال وغدا إشكالية بعد صعود المناهج والنظريات النصية ، وممارستها للتحليل كأداة للفهم والتأويل. فكثير من الضوابط والقوانين اشتُقت من النصوص التي تعدّل مناظير القراءة جمالياً، وتجدِّد أعرافها فنياَ.

لقد كانت نظريات النقد التراثية مثلاً، تأتي من حاضنة علمٍ ما؛ كالتفسير أو البلاغة أو الشعر، لتشتق أسسها ، وتبني هيكلها النظري ومصطلحاتها.وذلك ما كان يؤدي إلى التكثير والتفريع المربِك  بناء على تعدد الشواهد النصية قيد الدراسة والاستنتاج . ويتساوى في ذلك نقاد المعاني والبلاغة والمفسرون  ونقاد الأدب.

فنظريةٌ كالحداثة والقدامة مثلاً، تلخصت في الزمن الذي قال فيه الشعراء قصائدهم. ومقارنة ذلك بعصور الفصاحة والتقليد ، حيث يكون المُحدِث  هومن جاء أو تلا القدامى الذين انحصر علم الشعر وأبوابه فيهم. ولا يمكن لمعاصر أن  يأتي بجديد يغاير المألوف ، فيعز أحياناً حتى على جامعي الأشعار ذكرَهم في رواياتهم ،

ويتجنب مؤرخو الأدب الاستشهاد بهم أيضاً.

ومما يثير الشكوك بصدد فاعلية النظرية وجدَّتها ،، الامتثال للسائد أو السابق من الأحكام.وكأنه فعل أراد أن يشير إليه فرنسيس بيكون حين افترض واحداً من الأوهام الأربعة التي تحدث عنها ،أسماه أوهام المسرح.ويعني به الاحتكام إلى مقولات وتوصلات الفلاسفة أو المفكرين السابقين دون تدقيق ومراجعة ، لأنها اكتسبت قوتها من تداوليتها ، ومن كون مَن اقترحها هم من المفكرين أو الفلاسفة الذين ترسخوا في تاريخ الفكر والنظرية ،ولا يجوز أن نخطِّئهم أو نخرج على ما اعتقدوه.

إن تلك المحاذير من التمسك بالنظرية لا يعني أننا نقلل من أهميتها في الفكر النقدي والممارسسة الأدبية.. فهي المشغّل الأول للقراءة. لكنها لا يجب أن  تتكاثف وتتعدد خيوطها وتشتبك، فتغدو عبئاً على مستخدمها.ويتسبب ذلك في أمرين فادحي الخطورة:

– فهي من حيث التلقي  تسبب ابتعاد القارئ عن العمل الأدبي، وتجنبه التعقيد الذي يشتمل عليه الخطاب النظري. فيواجه النصوص بذائقته وحدها .

– وهي من جهة مستخدِمها تصبح سبباً في افتقاده بوصلة التطبيق والنقد والممارسة. لأنه لا يجد فيها العون الممكن لعمله .والضوء المناسب للقيام بالرؤية المطلوبة لمقاربة النصوص .

وكثيراً ما يكون الاتهام للكاتب المتشكك بالمدد النظري لعمله ، بأنه هاوٍ أو سطحي أو مستخدم  للانطباع العاطفي،ومنصاع للموهبة وحدها في وقت أصبح النقد والدرس الأدبيي علماً ، له اشتراطاته وخطواته وإجراءاته.

لكن الأمر لايبدو كذلك. فالإغراق الفلسفي والانغماس في شرح النظريات والتعليق عليها ،وعرضها بنوع من الادعاء والتباهي ،هو من مشكلات المعرفة القائمة في عصرنا.والتمسك بالنظرية بتطرف وبتبنيها دون سؤال أو حوار مع مقولاتها وقناعاتها،  يوقعنا في إنتاج معرفة سطحية أيضاً؛ لأنها لا تحفر في الوعي وتسند ذخيرة القراءة ووعي القارئ، بل تحشد مضامينها وصورها كثوابت وسلطة أخرى، في زمن يتخلص فيه الفكر من الهيمنة والتقليد والسلطات والرقابة.

وثمة مشكلة أخرى في تلقي النظرية وهو الانسحاق تحت مقولاتها وقناعاتها ، كما حصل للنقد في القرن الرابع ومابعده حين ساد المنطق الأرسطي على نشاط النقد البلاغي وعلم البلاغة ،وتحول النقد أقيسة منطقية جامدة تظهر جلية في مؤلفات النقاد  العرب القدامى. وهذا ما  يصيب القراءات المعاصرة حين تذهب إلى التنظير والتجريد الذي لا يفلح في أن يكون فلسفياً خالصاً، ولا هو قراءات ودروس نقدية وأدبية خالصة.

وإذا كان كولر يرى أن معاداة النظرية ومعارضتها غالباً ما تكون بسبب الجهل بها ، فإن ذلك لا يعني أن كل مستخدميها عارفون حقاً بكنهها ومآلاتها.إذ تتخذ النظرية في بعض نفوس مستخدميها مكانة صنمية ،تكتفي بالترديد والتكرار لعموميات الفكر وبنصوص متشعبة ،لا تنجد مستخدميها في التصدي للقراءة والنقد.وكثيراً ما خرجت النظريات بعيداً عن مرمى الأدب ذاته فكراً ونصوصاً، وانتقلت للعناية بالنقد الثقافي مثلاً. والعودة إلى الخطاب الإيديولوجي الذي يربط الأدب بالمجتمع آلياً ووظيفياً، والتراجع عن جماليات الأدب ومزاياه الإجناسية، والانشغال بالتنظير للاستعمار وخلفيته وما تركه في الدراسات اللاحقة.وهي دراسات مستقلة لا تشوش على مهمة النقد الأدبي ولا تلغي  قواعده وإجراءاته.

وتظل الموازنة ممكنة بين تفلسف أدبي يرفد جماليات الأدب وتلقّيه، وهو ما تمثله منهجيات القراءة والتلقي وجمالياتها،  وبين ممارسة أدبية خالصة تثمر المزيد من الوعي بالنصوص ومؤثراتها، وكيفياتها، وشعريتها.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*